طلال سلمان

هوامش

قراءة في قلب البقاع المفتوح لفضية »السفير«
حمل البقاع قلبه على كفيه، وجاء يقول: ها أنذا!
مغيّب هو وليس غائبا، مكتوم الصوت وليس أخرس، معطَّلاً عن الفعل بالنفي وليس عاجزا، فلطالما عمل لغيره، ولطالما أعطى فأُنكر عليه عطاؤه ونسبه الآخرون إلى أنفسهم ليبرروا الاستمرار في إهماله وشطبه من دائرة التأثير!
أهله الرجال، والخير نتاجه، لكنه لا يعرف »الحل الوسط« فيعيش معلقا بين الحدين: الأدنى والأقصى، في مناخه كما في طباع أهله، كما في علاقته بالسياسة، فهم إما كمّ مهمل وإما شهداء محتملون!
ما أبهى أن تقرأ وجهك في ملامح الآخرين.
ما أروع أن تسمع صوتك يأتيك من هؤلاء الذين استولدوا أنفسهم بأنفسهم، وكافحوا طويلا حتى كسروا جدار الصمت فقالوا…
جدار الصمت؟! بل جدران التشويه المتعمد، والظلم المقصود، والخروج من الصورة المرسومة لهم سلفا وغيابيا ليؤكدوا حضورهم المختلف.
الأمكنة أهم من البشر: هل من ظلم يزيد على هذا؟!
حجارة بعلبك أهم من أهلها، والوادي في زحلة أهم من جارته، و»القاموع« أهم من الهرمل، وآثار كامد اللوز أهم من ناسها، وقلعة عنجر أولى بالاهتمام من بشر عنجر، ومعمل السكر الشمندري أهم من الفلاحين، والحجر العرسالي أهم من أولئك الذين فجّروا في قلب ذلك الحجر حياة وتناسلوا منه مناضلين بمثل صلابته.
بدايتك خلفك، ولا بد من أن تكافح طويلاً لإزالة التشوه وصولاً إلى نقطة الصفر، ليقبلك الآخرون بحقيقتك.
هؤلاء القساة حتى الذوبان رقة.
هؤلاء الذين يعيشون في الشح، ويقدمون لك رغيفهم الأخير ثم ينامون على الطوى.
هؤلاء الذين »سافروا« إلى العلم، ثم إلى العمل، في البعيد والأبعد، فهجروا ضفاف الليطاني إلى ضفاف الأمازون والميسيسبي لكي يعلّموا أبناءهم ويعمّروا قراهم ويؤمّنوا اللقمة بعرق السواعد.
هؤلاء هم الذين احتفلوا بفضية »السفير« السبت الماضي، في شتورة. وكان الحديث إليهم محرجاً.
فلولا شبهة تكريم الذات لأطلقتُ عاطفتي بلا قيد، فتغزلت بالبقاع سهلاً وجبلاً وسفوحاً، أنهراً وودياناً وكرمة ومشمشا ولوزا ورمانا، وردا وبيلساناً وكف مريم.
ولولا شبهة تكريم الذات لرفعت صوتي تمجيداً لإنسان البقاع الذي أناح عليه الإهمال الرسمي بكلكله فما أحنى هامته، وأثقل عليه الفقر فما استجدى، وظلمته الطبيعة فاستمد من قسوتها قدرة إضافية على الصمود، وظل يروي بعرقه أرضه فيستنبتها الثمر والقمح والبقول، حتى لا يمد إلا إليها يده فتعطيه فيرضى بالكفاف.
ولولا شبهة تكريم الذات لقلت إن هذا البقاع قد أعاد استيلاد نفسه بنفسه، حرموه من المدرسة طيبة المستوى، فعمل أبناؤه على رفع العادي الى ممتاز، ومن المستشفى فإذا أبناؤه يبنون المشافي ويسهرون على مرضاهم فيها، ومن الطريق المراعية لمقتضيات السلامة وأمن السيارات وركابها، فشق العديد من أهالي القرى طرقاتهم بمعاولهم، ومن السدود اللازمة لاستصلاح الأراضي فحاول إنسانه وما يزال يحاول أن يحفظ ما تيسر من الماء حتى لا يموت الزرع أو تنفق الماشية، آملاً أن يصله ذات يوم ذلك المسمى »مجلس الإنماء والإعمار« فيعترف به ويحيي الموات من أرض بقاعه حتى لا يهجر من تبقى من أهله البلاد كلها ويذهبون ليمنحوا جهد عقولهم والزنود لبلاد الآخرين.
من البقاع إلى البقاع وفي البقاع: ومع البقاع لا تعصبا ولا تقربا، لا مجاملة ولا رد جميل، إنما تنطقني عاطفتي وإحساسي العميق بالظلم وبضرورة رفعه عن هذا البقاع المكتوب عليه الاضطهاد.
ولولا شبهة تكريم الذات لقلت ان واحدا من أحلامي »البقاعية« قد تحقق في »السفير« وعبرها، فبين ما دفعني الى كسر حاجز الخوف والانتساب الى الصحافة، هو التشهير اليومي الذي كان يوجه إلى البقاع عموما، ومنطقة بعلبك الهرمل خصوصا، والذي يوزع أهله بين تجار المخدرات والقتلة والسفاحين.
ولا تزال ترن في أذني نداءات باعة الصحف الظُّهرية بالذات وهم يهتفون: »صورة اللي قتل أخته في بعلبك«، »القبض على أكبر تاجر مخدرات في زحلة«، »إتلاف الحشيشة في دير الأحمر«، »الجيش يحاصر الطفار في جرود الهرمل«،
كان البقاعي مظلوما، مطموس الكفاءة.
لم يكن أحد يبدو معنيا بتقديم علماء البقاع، شعرائه، أدبائه، مهندسيه، أطبائه، أو بكشف السر وراء قلة هؤلاء، وأحيانا انعدام وجودهم، بينما يعطى صدر الصفحات الأولى للخارجين على القانون والمطلوبين للعدالة منهم.
ولقد كانت المبادرة طليعية، أن تلتقي المراكز والنوادي الثقافية، وبعض الوجوه البقاعية المشرقة، في عمل جماعي، يؤكد الحضور والجدارة والمستوى والاهتمام والانخراط في الشأن العام.
زحلة تمثلت بالمجلس الثقافي للمدينة وقضائها، وبالعديد من وجوهها الاجتماعية والثقافية، وأفرحتنا إطلالة سليل المعلقة المعلوفية، الشاعر رياض المعلوف، وراشيا بجمعية الرؤيا وجمع غفير من رجالها، شبابا وشيوخا، وقد جاؤوا ليقولوا انهم يواصلون حماية الوطن في مواجهة الاحتلال، بأكفهم وقلوبهم وأهداب العيون.
ومعهم جاء شاعر من ميمس يخوض المقاومة شعرا، محاولا أن يكون الحادي والبشير.
ومن تمنين جاء المنتسبون إلى مركز ابن خلدون الثقافي والأصدقاء.
أما البقاع الغربي عموما فقد تمثل بجمهرة المنتمين والملتفين حول المجلس الثقافي للبقاع الغربي وراشيا.
وأما بدنايل الطليعية دائما بمثقفيها وبحركتها النشطة وبقلقها المضني والمعبر عن التطلع الى الأفضل، فقد جاءت ببعض نخبتها خلف رائد إجماعها »نادي المشعل«.
كل البقاع كان في فضية »السفير«، من مشغرة إلى الهرمل مرورا ببعلبك، وأحد أبرز الناشطين في كل مجال وفي أي مجال حيوي، أحمد الغز.
على أن الأجمل حضورا كان الأعمق صمتا: أحمد فتوح، وان أطلق روحه البقاعية ترف على الحضور طيبة وسماحة، تاركا حقه في الكلام لمن لا يطيب لغيره الكلام في حضوره، الشاعر طلال حيدر »أمير هالزمان« ولو في ثوب آخر الصعاليك العرب.
في الحديث عن البقاع تأخذني العصبية، فعذراً… ذلك لأنني مؤمن بأن الإنسان بأرضه، وأول أرضي البقاع، وإن كان آخرها المغرب غربا واليمن… سعادة.

كل مواطن خفير .. في انتظار الوطن
زمان، ومع بدايات وعينا بأنفسنا، اكتشفنا أن الهزيمة قد سبقتنا فاحتلت الذهن والعين والفكر والكلمة، وحكمت الحركة.
كان صعبا علينا قبول انهزام المقدس، ففلسطين في الوجدان، أحد رموز الانتصار الدائم: على الشر والطغيان، على الاحتلال الأجنبي، ثم على الحملات العسكرية المموهة بالشعار الديني.
من السيد المسيح إلى عمر بن الخطاب، فإلى المعز لدين الله الفاطمي، فإلى الظاهر بيبرس، وصولاً الى نور الدين زنكي وانتهاء بصلاح الدين الأيوبي، كانت فلسطين وبيت المقدس فيها أرض مواجهة مفتوحة لا بد من أن تنتهي بانتصار أصحاب الأرض والحق في الأرض.
لكن التاريخ قد يكون »ماضيا« فحسب، وقد يعجز أبناء الذين صنعوه بالأمس عن استيلاده مجددا أو عن إكماله بحاضر من صَلبه يبشر بمستقبل يكون ارتفاعا به الى أقصى ما يمكن أن تطاول هامة الإنسان من فضاءات الأحلام.
في بداية الخمسينيات، ومع بداية التعرف الى »المذياع« في البيوت، كانت العائلة تلتف في موعد معين حول صوت جهوري مشبع بالعزيمة يقدم لبرنامج بعنوان »كل مواطن خفير«!
لم نكن نعرف غير بعض الشعر عن فلسطين والفدائيين وجيش الإنقاذ وفوزي القاوقجي وعبد القادر الحسيني وحسن سلامة والنقيب محمد زغيب والمالكية، وغير بعض الشتائم والأوصاف التحقيرية لإسرائيل واليهود، شذاذ الآفاق والكيان الصهيوني المصطنع وعصابات شتيرن والهاغاناه أبطال المذابح الجماعية في دير ياسين وكفرقاسم، الخ.
كنا »البطل المهزوم« بغير وجه حق.
وكانوا »المنتصرين« بالحيلة والمكر والخداع والخسة واغتصاب حقوق الغير، بوصفهم عملاء ووكلاء للمحتل البريطاني، وربما للغرب الملتقي معهم في »عداء عنصري« للعرب.
مرت أيام طويلة قبل أن نتعرف مباشرة الى ذلك الطبيب الصوفي في إيمانه بالإنسان، والرسولي في يقينه بأننا عائدون وبأن فلسطين لا بد سترجع إلى أهلها، بشارة الدهان.
.. وإلى ذلك الممتلئ حماسة واندفاعا، خطيب كل منبر، والحاضر في كل مناسبة قومية، وحادي ركب العائدين إلى فلسطين وفيق الطيبي، الذي اتجه إلى الصحافة باعتبارها امتدادا لخطاب التوعية والتعبئة والاندفاع نحو فلسطين، حتى إذا ما تم تحريرها أمكن التفرغ لممارسة المهنة بالموضوعية المطلوبة.
»كل مواطن خفير«: لم تكن مجرد دعوة الى تحرير ما اغتُصب من الأرض العربية في فلسطين، وكان ضئيلا جدا بالقياس الى مساحة الكيان الصهيوني (الامبراطوري) اليوم، بل الأهم انها كانت دعوة الى التنبه إلى خطورة المشروع الإسرائيلي كاستعمار استيطاني يرفض أن يحصر نفسه بحدود »دولية« معروفة، ويمدد كيانه بمدى ما تتيحه الأساطير والنبوءات والأخيلة التي تحتشد في التوراة، مسندة بمدى مدفعيته وطيرانه وجيشه الحديث في مواجهة الزمر المسلحة العربية، التي لم تكن موحدة في قيادتها، ولم تكن عميقة في معرفتها بالواقع الإسرائيلي، ولم تكن لها خطة محددة، ولا هي تعبّر عن »استراتيجية عربية« مضادة… ما زالت مفتقدة حتى اليوم!
كان القصد من البرنامج الإذاعي والتجمع الشبابي الحامل الاسم نفسه »كل مواطن خفير«، واضحا: تبدأ مقاومة المشروع الصهيوني حيث أنت، بحماية بيتك أولا، بالوعي بواقعك، وبفهم طبيعة ذلك المشروع المعادي لوجودك ومرتكزاته السياسية.
وأشهد أن بدايات معرفة جيلنا بالصهيونية وبطبيعة إسرائيل وبالأسباب العميقة للهزيمة العربية، قد سمعناها فعرفناها أول ما عرفنا من هذه الجمعية التي كانت تستنفر جيلنا وتدعو كل مواطن منا لأن يكون خفيرا يحمي أخاه وجاره بحماية نفسه.. بالوعي.
أشهد أيضا أن هذه الجمعية حاولت أن تُسقط من قاموس التداول اليومي حول قضية فلسطين، ومن ثم حول المشروع الصهيوني، ما أمكن من التعابير التي كانت تُستخدم في الأدبيات السياسية، والتي كانت غنية بالمفردات البدوية (الغزو…) والتعابير الأخلاقية (الاغتصاب)، محاولة أن تستبدلها بالمصطلحات السياسية وبالمضامين الأصلية للفكرة الصهيونية، ثم للمشروع الإسرائيلي.
كانت الحماسة تغلب على السياسة.
وكانت النوايا صادقة لكن الإمكانات محدودة، وأحيانا معدومة.
ولم يكن باستطاعة الدكتور بشارة الدهان، الذي ظل على رصانته ولم يغادرها برغم توالي الهزائم، أن يقدم أكثر من عمره.. فقدمه.
كذلك فقد خدم وفيق الطيبي الشعار بما ملكت يمينه وحنجرته وقلمه وقدرته على الحركة.
اليوم تكرّم بيروت بدعوة من المنتدى القومي العربي مؤسسي جمعية »كل مواطن خفير«!
… وما ظل مفتقدا »المواطن« فكيف سيكون »خفيرا«؟!
الوطن بمواطنيه.
وما غاب المواطن فلا أوطان، ولا تنفع الخفارة على باب السلطان في حماية الأرض المقدسة من الاجتياح الجديد.

قصص مبتورة
} قال عاشق نفسه: أرى صورتي في حدقات العيون… لو أردتُ لملكت هاته النساء جميعاً!
} قالت عاشقة نفسها وهي تتجاوزه بنظرها: ما أعلى نسبة العميان بين الرجال!
} قال عاشق نفسه: خذ هذه التي تواجهني الآن، مثلا.. لقد أمضت ساعات الصباح تزوق نفسها وتتجمل وتنتقي من الثياب و»قطع الغيار« ما يُظهرها لعيني ملكة جمال. لقد اعتنت بكل جزء من جسدها، شعرها، حاجبيها، رموشها، أهدابها، خديها، شفتيها، عنقها، صدرها، بطنها، ساقيها حتى الحذاء.. مسكينة، كم أهدرت من الوقت لتزوِّر مظهرها فتخدعني به!
} قالت عاشقة نفسها: لا يستحقني مثل هذا الأبله الذي يتأملني مبهورا. لكأنني أول امرأة يراها! أحتاج رجلاً مدرباً وخبيراً يقدِّر نعمة الجمال فيتعبّد له! لا أصير امرأة إلا مع رجل حقيقي. ليذهب المراهقون الى نواصي الشوارع فيتأملوا ويحلموا. أما أنا فأريد من يدخلني فيصير حلمي.
} قال عاشق نفسه، بعد حين: ولكن لا بأس من التسرية عن النفس، وإشغال الوقت الضائع بمغامرة مسلية. سأحطم غرور هذه التي لا ترى غيرها.
} قالت عاشقة نفسها، وكأنها تسمعه: سألقنه درسا لا ينساه، هذا الممتلئ بنفسه غرورا.
تقدم عاشق نفسه خطوة، تقدمت عاشقة نفسها خطوة،
وانحطمت المرآة من الجانبين!
وسقط الكل في الفراغ.

من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
ليس الحب معادلة رياضية، وليس مجالاً لحسابات الربح والخسارة. حبيبك عمرك، والحب حياتكما. إنما تعطي نفسك وتأخذ منها. هل تحتسب النظرة على إحدى عينيك من دون الأخرى؟ والحب نهر بلا ضفاف فاغرف منه واروِ العطاش.
طلال سلمان

Exit mobile version