طلال سلمان

هوامش

كلمات بيضاء في زائر الليل والعشق
صار الثلج نادراً كالشعر.
من زمان كنا ننتظر الثلج في مواعيده التي لا يتأخر عنها: بدايته في «الكوانين» وآخر «معلقاته» في آذار… يباغتنا، في الأغلب الأعم، ليلاً، فإذا أصبحنا وجدناه عند العتبة، وبعدها يمتد عباءة بيضاء ترتقي مع التلال حتى قمم صنين غرباً، وحتى قمم حرمون بامتداده رباطاً بين سوريا ولبنان حتى فلسطين شرقاً فجنوباً… ولعلنا كنا نسارع إلى فتح الباب وقد لفحتنا أنفاسه، فنهتف فرحاً ونحن نتملى المشهد البهي الذي تتبدى عليه الطبيعة: بساطاً لامعاً يتلوى مع منعرجات الطريق، ينبثق زهراً في الأغصان الجافة للأشجار التي تغزل أوراقها احتفاءً بالربيع الآتي، ويستحيل حبالاً من بلور عند أطراف الميازيب ومواسير المياه.
الأرض قصائد مشطرة.. فالخطى ترسم ذاتها على وجهه، فتدل على أصحابها: خفيفة للصبايا، عميقة للرجال المتعجلين، أما خطى الأطفال فتبدو منقوشة كما التطريز، تخالطها تلك المثلثات المتقاربة الدالة على مرور القطط، أما الكلاب فترسم هرولتها أشكالا هندسية كالخرافة.
تخرج النساء وقد تلفعن بشالات الصوف التي تحمي أو تخفي أو تنشق فتري وتعيد الى الخدود حمرتها، أما الصبايا فتغمر خدودهن حمرتان، خصوصاً أن عبورهن الطرق يزيد من احتدام المباريات بين الفتيان وهم يتراشقون بالكرات البيضاء التي قد تحمل رسائل لا تضيع عن عناوينها.
صار الثلج نادراً كالشعر.
… وفي الفضاء يدور سرب الحمام، المصفحة طيوره بريشها، في الأفق وقد اختلف مساره الآن، إذ ينقسم الى فريقين من الكشافة يحومان في مختلف الاتجاهات، وقد تبتعد الطليعة مستكشفة المدى الأبعد ثم يستحيل الهديل ضحكاً يقارب القهقهة.
تتسع الفرصة للعشاق كي يتبادلوا الرسائل البيضاء الطائرة.. لكن المضامين ملتهبة بحيث تكاد تذيبها. وقد يصيب الصبي فتاته قصداً، ليقترب منها بعد ذلك مطمئناً الى أن الرسالة وصلت ومعتذراً عن الأسلوب الذي فرض نفسه… أما إن هي رمته هي فأخطأته فإنها تغضي حياءً، وتغطي خيبتها بشالها الصوفي وقد حاكته بيديها لمثل هذه اللحظات السعيدة.
لهفي على الوجنات المخضّبة بعشق الحياة والاندفاع في طلب الدفء ممن يستطيع أن يمنحــه ليــأخذه مضاعفاً.
ينظر الكهول الى الســماء بعيــونهم الطافحة خبرة بأحوال الطقس وتقلباته.. يتأملــون في الجهات جميعاً، يستشعرون مصادر الهواء، إن كــانت غربية فهو الثلج، وإن كانت شمالية فالــثلج سيــغدو جليداً، أما إن كانت شرقية فـلن تمـكث العـباءة البيضاء طويلاً.
ـ سيفيض الله علينا خيره.. يقول كبيرهم، ثم يضيف بلهجة المهموم: سنحتاج مزيدا من الحطب.
يدخل الجد إلى «البايكة» يزاحمه أحفاده ليتأملوا في حنان الحيوانات: البقرة تنفخ على رضيعها لتدفئه، والمهر الذي ينفر خارجاً بينما أمه الفرس ترمقه بعين راضية وهو يتمرغ بالثلج، ثم يغريها منظره فتنهض كي تسبقه إلى تلة أبعد قليلا.
الدوري ينقر الثلج مستمتعاً، ثم يطير بقفزات قصيرة مستدرجاً رفاقه الى اللعب بالرسم فوق الصفحة البيضاء، لكن الهواء سرعان ما يمسح الخرمشات الخفيفة ويجعلها أقرب الى الرسوم السوريالية.
لكل حي ساحته، والمساحة بين ساحات القرية مرمى الكرات الطائرة، وكل من يعبر يتحول الى هدف… وعند زوايا الدروب المتشابكة تحلو لقاءات المصادفة المخطط لها جيداً، والتي تقارب العناق ولو بغير كلام، أما إذا عبر متلصص فلا أسهل من طلب استعارة الرفش أو الجاروفة.
صار الثلج نادراً كالشعر.
… حتى اننا كدنا ننساه، وينظرنا أحفادنا بشيء من الدهشة ونحن نحدثهم عن مواسمه، ونغرق في وصف المشاهد المشتهاة: حين تتقطر السماء رقعاً بيضاء تهبط بلا صوت فتغيّر الكثير في الطبيعة وفي أمزجة الناس وفي مشاعرهم تجاه بعضهم بعضا وتجاه المساكين الذين لا حطب عندهم، فينتخي أصحاب الهمة الى التنافس من يصل بالنجدة أولا.
كشطور من قصيدة نقاطها أكثر من كلماتها، تنزل الحبيبات البيضاء، مخترقة صمت الليل بتلك الموسيقى الخافتة لتراكمها الهادئ، لا هي تزعج الناس ولا هي تشوش على تنهدات العاشق الذي ينتظر الليل كي يملأه بشعر الحنين.
تتنزل الحُبيبات البيضاء كأنفاس مغرمة تقوم من فراشها مبتهجة، متوهمة في الهسيس الخطوات المتسللة في قلب الحذر لذلك الذي لا ينام بغير أن يلقي عليها قبلة المساء.
صار الثلج نادراً وعزيزاً كالشعر.
يرتدي الكون، معه، ثياب الفرح. تكتب الطبيعة على الأرض واحدة من حكايات حبها الذي يتعاظم يوماً بعد يوم.
لماذا يجيء الثلج غالبا في الليل، كعاشق تمتنع عليه ملاقاة حبيبته؟
هل لأنه يحب أن يحمل الفرح إلى الأطفال؟ يريدهم ان يناموا جيداً ليسعدوا به وقد انفرش سجادة بيضاء لأقدامهم الصغيرة وهي تركض فوق صفحته، ولأيديهم الطرية وهي تغرف منه ما تصنع به الكرات البيضاء التي يرشقون بها آباءهم عبر ضحكاتهم الصافية كذوب الثلج.
يخرج الأطفال الى حضن الطبيعة وكأنهم ولدوا للتّو. يتقافزون فوق القطن المندوف بلا صوت. يتمرغون فوق ذلك الفراش الأبيض ويطلقون ضحكاتهم أسراباً من الفراشات المزركشة بالفرح.
صار الثلج نادراً وعزيزاً كالشعر.
يأخذك ثلج اليوم إلى ثلج بعيد أذابته التنهدات فصار فراشاً للمتعة.
يأخذك ثلج اليوم إلى رمل نظيف مثله جعله العناق وسادة للشفاه الذائبة احتراقاً.
الثلج فعل حب، والرمل فراش المتعة العابرة.
كثير هو الرمل، قليل هو الثلج، أقل من قدرتنا على الحب.
صار الثلج نادراً وعزيزاً كالشعر.
وخسر الناس مساحات من قلوبهم وهم محصورون ومحاصرون في علب من إسمنت أو صفيح.
الثلج مطلق كالحب.. وهو هو قد يشعل الحريق في البراكين التي يحسبونها خامدة.
الطبيب الذي لا ينسى يقول سيرته شعراً: أوراق النسيان!
هي رحلة جيل، بل جيلين على الأقل من أولئك الذين يتم تعريفهم «بأبناء المناطق المحرومة»، في طلب العلم حيث يستطيعون اليه سبيلاً.
ولقد تصادف أن «بطل» هذه الرحلة له علاقة حميمة بالقلم، فقام بكتابتها «سيرة ذاتية»، فإذا هي تقدم نموذجاً لآلاف مؤلفة من السير الذاتية المشابهة لشبان من مختلف المناطق المحرومة جنوباً وشمالاً وبقاعاً وجبلاً وصولا الى العاصمة بيروت، اذ فيها مهاجع للحرمان ومرابض لضيق الرزق.
فأما السيرة فتحمل عنوان «أوراق النسيان»، وأما المؤلف الذي يثبت كتابه أنه يتذكر كل تفصيل بدءاً من طفولته، في بلدة العباسية، عند مدخل صور، وحتى بلوغه السبعين، وقد غدا طبيباً ناجحاً ورب أسرة تعيش رغد الحياة، فهو صاحب قلم جرّاح.
يبدأ الدكتور أحمد عز الدين وصف رحلته انطلاقاً من قريته الفقيرة، آنذاك، حيث كان بعض أهاليها «يسكنون مع البقرة والحمار في غرفة واحدة، لها سلّم الى السطح الذي نستعمله طوال الصيف كي ننام.. في الهواء الطلق»! يمر على «البيدر» حيث لكل فلاح نصيبه، و«المورج»، ويتوقف أمام بئر علي دراس الذي كان للقَسَم أمامه أهمية خاصة: «طلبت مني أمي أن أقسم بصوت عال يصل إلى أعماق البئر، ويتردد صداه في جميع جوانبها، وعلى دفعات متتالية، وبكل ما في قلبي من صدق وخوف من عذاب النار، بأنني سأمتنع، منذ تلك اللحظة، عن أكل المقادم والراس إلى أن يعيش من بعدي راس».
بعد مدرسة القرية، حيث درس على الأستاذ ميدي الخوري، «أوفد» الى المدرسة الجعفرية، في صور، «على ظهر حمارنا الصبور»، وهناك استأجر غرفة صغيرة، وكان عليه أن يدرس في ضوء السراج المدهون باللون الأزرق، والطواشة، فتيلة داخل قطعة صغيرة من الفلين في كوب من زيت الزيتون.
في صور اقترح مؤسس المدرسة الجعفرية، التي ستغدو كلية ذات دور تاريخي في النهوض بأبناء الجنوب، العلامة السيد عبد الحسين شرف الدين على والده إيفاده إلى النجف الأشرف ليعود شيخاً، لكن الرئيس الراحل عادل عسيران تدخل لدى والده ليسمح له بإكمال تحصيله ما دام «ناجحاً»، وهكذا قصد كلية المقاصد في صيدا. ولأنه كان بين الثلاثة الأول فقد حظي بثلث منحة. وبعد البكالوريا تقدم الى الكلية العاملية، التي كان قد أنشأها ورعاها الراحل رشيد بيضون ليعلّم اللغة الفرنسية فيها، تحت لواء مديرها قاسم منصور وناظرها حيدر حمزة. ثم تقدم الى امتحان مساعد مراقب في الجمارك.
تدخل القدر مرة أخرى، اذ عرف بأن اسبانيا قدمت ثماني منح مدرسية لفروع الآداب والفلسفة والتاريخ. وتقدم الى امتحانها ففاز بواحدة منها، وسافر الى اسبانيا بحراً عبر اليونان وفرنسا.
ومن جديد تدخل القدر فساعده مدرّس صار صديقه واسمه انطونيو ادو مع أستاذه دون خوسيه لويس على هجر الآداب والتاريخ الى دراسة الطب مع انه كان قد جرب الشعر يافعاً فنظم ما يكاد يكون ديواناً!… وبعد اسبانيا جاءته نجدة أخرى ليسافر إلى ألمانيا كي يتخصص في الجهاز الهضمي في ارليغن، وهي مدينة صغيرة قرب نورمبرغ.
ما يستوقفك في هذه السيرة الذاتية أن التلميذ الفقير الذي أثار سخرية أنداده في المدرسة في صور بثيابه الفلاحية، يستذكر كل من مد له يد العون، سواء في لبنان، بدءاً بالعلامة المرجع السيد عبد الحسين شرف الدين، الى الرئيس عادل عسيران، فإلى مؤسس العاملية رشيد بيضون… أما الرئيس أحمد الأسعد فإنه يروي، بوجع، كيف تأخر إبلاغه بمرضه، فسعى اليه بأقصى سرعة ممكنة من بيروت الى حيث كان في الطيبة، عند حدود فلسطين، لكن الموت كان أسرع منه، فعجز عن إنقاذه، وما زالت تلك الواقعة تحزنه حتى اليوم.
ومع أن السيرة تتضمن بعض المحاولات الشعرية ومعظمها غزلي، لطبيب الجهاز الهضمي، فإن أمتع صفحاتها هي تلك التي تنداح فوقها قصة الحب العظمى مع التي غدت رفيقة حياته وأم أولاده، والتي يتحدث عنها اليوم وكأنه في الطريق الى خطوبتها وهو يخشى صدّها!
لقد أكد هذا «المنتمي بوجه خاص إلى سبعيني ذلك الجيل من أبناء لبنان الجنوبي الذي نبت آنذاك في مساكب إهمال النسيان» قدرته على التفوق على ظروفه القاسية، وعلى أن يشق طريقه الى النجاح فيطلب العلم حتى الاختصاص العالي وفي عشق الحياة حتى الذوبان حباً، خصوصاً أنه كان يتنشق ابتداء من 1978 هواء المقاومة التي ستنجح في تجاوز الصعوبات جميعاً وتحقيق الانتصار على الاحتلال الإسرائيلي، وتحرير أرض الوطن وإرادته.
من أقوال نسمة
قال لي «نسمة» الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
ـ قصة الحب تغزل ذاتها بذاتها. لا تحتاج إلى ريشة الرسام ولا تستعير أجنحة الكناري. فجأة تنتبه إلى أن لغتك قد اكتسبت رقة لم تألفها، وأن عينيك صارتا تريان ما لم تكن تراه… وأنك الآن تصير ما رغبت دائماً في أن تكونه، وأن التي أمامك لها القدرة على إعادة تكوين الواقع بهمسة واحدة. الحب خلق أيضاً.

Exit mobile version