طلال سلمان

هوامش

عن الرئاسة في لبنان وناخبيها الكبار عرباً وغرباً
لم ينتخب اللبنانيون، وحدهم، أياً من رؤساء الجمهورية منذ إعلان الاستقلال في العام 1943 حتى اليوم.
على أن انتخاب الرئيس العماد ميشال سليمان كان التجسيد الحي لرئيس الجمهورية الصغيرة الذي يشارك في انتخابه العالم اجمع، بينما يترك للمجلس النيابي دور القابلة القانونية وكادر الصورة النادرة المثال.
ليست هذه مبالغة، بل لقد تابعنا جميعاً تفاصيل المسلسل المثير لوصول الرؤساء والأمراء ورؤساء الحكومات والوزراء من غرب الغرب الى شرق الشرق، ومن جنوب الجنوب الى شمال الشمال، الى مطار بيروت فإلى ساحة النجمة حيث أدلى الجميع بأصواتهم عبر الحضور فزكوا العماد رئيساً للجمهورية الصغيرة.
كلما ازداد تهدج أصوات القائلين بحرية الاختيار تعبيراً عن استقلال الإرادة والإيمان بالديموقراطية تصاعد الخوف على الكيان الرقيق الحاشية والصلب وظيفة ودوراً مع هشاشة في التكوين.
يمكن لأي مواطن أن يضع الى جانب كل واحد ممن شغلوا موقع رئيس الجمهورية اسم الدولة أو الدول التي زكت ترشيحه وأمنت له الوصول الى السدة… ديموقراطياً وبأصوات الأكثرية المطلقة، ولو بصوت واحد، كما جرى ذات مرة.
هناك حاجب محلي للصوت الخارجي، بطبيعة الحال، ولذلك تتخذ الانتخابات الرئاسية طابعها الفولكلوري التقليدي، ويتبادل المعنيون التهاني بانتصار الديموقراطية في جو أجمل من أن يكون حقيقياً.
ولقد بات الأمر مألوفاً حتى لم نعد نستنكر سماع أن الرئيس الأول للاستقلال كان الصوت المرجح في انتخابه للجنرال سبيرز، القنصل البريطاني آنذاك، وان الصوت المرجح في انتخاب الرئيس الثاني بعد خلع الأول كان لقائد الانقلاب العسكري الثالث في سوريا أديب الشيشكلي، وان الصوت المرجح لانتخاب الرئيس الثالث كان مزدوجاً مصرياً وأميركياً، وكذلك بالنسبة إلى الرئيس الرابع. اما الرئيس الخامس فقد كان ثمرة خلاف الكبار وانقسامهم. أما السادس فقد احتاج انتخابه ديموقراطياً الى مؤتمر قمة عربي بعد تفاهم ثلاثي في الرياض. أما توليه منصبه فقد احتاج الى قوة ردع عربية من ثلاثين الف جندي لإنهاء الحرب الأهلية التي فصلت بين انتخاب الرئيسين ديموقراطياً.
فأما السابع فقد جاء انتخابه في ثكنة عسكرية ثمرة طبيعية للاجتياح الإسرائيلي للبنان صيف العام 1982، ولم يكن مقدرا له أن يصل الى القصر الجمهوري فاغتيل عشية تنصيبه رسمياً، ليتم انتخاب شقيقه رئيساً ثامناً للجمهورية في الثكنة العسكرية ذاتها وبضمانات عربية ودولية مكنته من أن ينصّب في جو مضطرب، سرعان ما تفجر حرباً أهلية احتاجت الى أكثر من مؤتمر لإعادة صياغة الوفاق الوطني في كل من جنيف ولوزان، وبرعاية سورية ـ سعودية ظاهرة، واميركية مستترة وان ظلت فاعلة… ولقد حاول هذا الرئيس التخويف بالفراغ للتمديد له، واستمر يراهن على نجاح محاولته حتى اليوم الأخير، فلما تعذر اجتماع مجلس النواب لانتخاب رئيس جديد ترك البلاد لحكومة عسكرية استقال نصفها واستمر نصفها الآخر يمارس السلطة بعد إحياء الحكومة التي كانت في حكم المستقيلة.
واحتاج انتخاب الرئيس التاسع الى مؤتمر جديد للوفاق الوطني في الطائف، خريف العام 1989، وعصيان عسكري وحربين أهليتين أعقبت ثانيتهما الأولى، وامتدتا حتى فتح احتلال صدام حسين الكويت الباب لتسوية إقليمية مكنت سوريا من أن توطد أسس الحكم للرئيس العاشر، ودائماً بالشراكة مع الإدارة الاميركية التي جددت تفويضها كثمرة لمشاركتها في حرب الخليج.
وكان قد تم انتخاب التاسع، سياسياً، في مؤتمر الطائف الذي ضمت لجنته الثلاثية السعودية والمغرب والجزائر، وان ظل طيف سوريا حاضراً في القرار، بحيث أمكن للنواب انتخابه رئيساً في المطار العسكري في القليعات، لكن التمرد استمر يحتل القصر الجمهوري، ولم يقدّر للرئيس المنتخب الوصول إليه ابداً اذ اغتيل بتفجير موكبه في الذكرى السادسة والأربعين لاستقلال لبنان.
وفي ظل حالة الاستنفار، خوفاً على الكيان ودولته، تم انتخاب الرئيس العاشر في بارك أوتيل شتورة بحماية سورية مطلقة، فرضت أن يبقى لفترة في ثكنة أبلح، قبل ان ينتقل الى مبنى تحول جواره الى ثكنات في بيروت ليصير بديلاً من القصر الجمهوري، الذي كان لا بد من إنهاء التمرد العسكري ليمكن ترميمه بحيث يغدو صالحاً لان يشغله الرئيس الذي أطل بديلاً ثم شاءت المقادير أن يستمر لولاية ونصف ولاية، بفضل التمديد الذي أقره صاحب الولاية، وهكذا فقد ظل رئيساً لتسع سنوات كاملة… وهو ما سيكون من حظ وريثه الذي جاءت به إعادة صياغة الدولة من منتجعه، بعيداً عن السياسة، الى قيادة الجيش، ثم مكنته من الوصول الى القصر الجمهوري ليكون الرئيس الحادي عشر، ولتكون له بعد الولاية نصف ولاية إضافية، خرج بعدها من القصر ليتركه للفراغ… اذ تعذر انتخاب بديل في المهلة الدستورية… وكان لا بد من تسويات إقليمية ودولية فرضت قدراً من التوافق الداخلي ليمكن انتخاب رئيس جديد للجمهورية التي احتشد العالم اجمع في برلمانها كي يزكي المرشح الذي لم يكن واحداً من الأسماء السبعة التي تضمنتها لائحة البطريرك الفرنسية الشهيرة.
[[[
لعل الانتخابات الرئاسية في لبنان أبرز مؤشر على أحوال المنطقة والتوازنات السياسية التي تحكم الصراع فيها وعليها.
وربما لان الرهان دائم على التحولات في سياسات دول الإقليم، نجد في لبنان مرشحين للرئاسة منذ ثلاثين سنة، لا هم يتعبون، ولا يأخذهم مرور الزمن الى اليأس.
بل إن بعض هؤلاء المرشحين الدائمين سرعان ما يجدون أسبابا للأمل في ان الرئيس قد لا يكمل ولايته، نتيجة تحول مفاجئ او انقلاب في الموازين، فإن صادفه الحظ وأكملها فلسوف يقصّر عن أداء المطلوب منه، وسيندم من سانده وتبناه على حساب من هم أكفأ منه وأصدق… وبالتالي فإن الولاية تعطي صاحبنا المدى لتصحيح نظرة أصحاب القرار، في ضوء خيبة اختيارهم غيره.
ولأن لبنان مفتوح على التأثيرات الخارجية التي تحتكر الصوت المرجح في الانتخابات الرئاسية، فإن بين المهن فيه مهنة اسمها المرشح الدائم لرئاسة الجمهورية، المراهن على تبدل اتجاهات الريح، بما يحمله الى حيث يحلم.
إن الرئاسة بموعدها، بالظروف والتوازنات السائدة في تلك اللحظة تحديداً… حتى لو كانت الأطراف المقررة معروفة، فيمكن أن تتبدل المعادلات، فيتزايد نفوذ البعيد على حساب القريب أو العكس.
ويتندر اللبنانيون بحكايات كثيرة عن مرشحين ظلوا حتى آخر لحظة يتصرفون كأنهم عند باب القصر.. بل ان بعضنا سمع مثل ما سمعت من أكثر من مرشح تلك الجملة ذات الرنين الفخم: يمكنك أن تفترض انك تتحدث الآن الى رئيس جمهوريتك!
فالمجلس النيابي هو صندوقة الاقتراع، فحسب، لان المعركة تجري خارجه وتحسم خارجه، لكن لا بد منه كدائرة تصديق على نتائج الحسم، وبالتالي هو الذي يثبت التوازن العربي ـ الإقليمي ـ الدولي عند شخص الرئيس الذي تجيء به اللحظة القدرية.
كل انتخابات رئاسية مؤشر للتوازنات العربية والدولية في حينه.
وهي تحتاج، كأي زفاف، الى طرفين: عربي ودولي، كي يقام العرس.. لكن الضعف الذي يعانيه الوضع العربي جعل حصة الدول أعظم، ثم انه سمح للإقليمي (غير العربي) بأن يصبح صاحب دور معترف به.
إنها حرب عالمية بعنوان محلي… قد لا يستحق من يفوز بنتيجتها كل هذا العناء، لكن حسابات القوى المقررة، لها منطق مختلف… وربما لهذا وصل الى سدة الرئاسة من كان يقر ويعترف علناً بأنه غير مؤهل لها، لكنها فرصة سنحت… وإذا هبت رياحك فاغتنمها.
[[[
هناك دائماً تأثير للدول الكبرى، كما للدول المجاورة، في الدول الصغرى، فكيف بدولة مثل لبنان هشة توازناته ومفتوح على الرياح في منطقة غنية بموقعها وثرواتها ويشتد عليها الصراع، خصوصاً بعدما زُرع في قلبها الكيان الإسرائيلي بتحالفاته الدولية القوية، وضرورات أمنه التي لا يراها تتحقق إلا بإضعاف جيرانه، حتى بالحرب متى وجدها ضرورية لاستقراره.
وبالتأكيد، فان الفشل في مواجهة المشروع الإسرائيلي قد زاد من تأثير العنصر الدولي وأضعف الى حد كبير تأثير العنصر العربي في الحياة السياسية في لبنان، وإن كان يتعذر إلغاؤه، وبالتحديد في موقع الرئاسة فيه، حيث تتقاطع التأثيرات، قبل ان يتم توازنها، على سعيد الحظ بلقب صاحب الفخامة.
ويعرف الجميع ان انتخاب الرئيسين الأول والثاني قد تما عبر توازن ضمني بين النفوذ البريطاني المتزايد على حساب نفوذ فرنسا المهزومة في الحرب العالمية الثانية، وبين مقتضيات السلامة في العلاقات اللبنانية السورية… وهكذا، جاء الفوز في اللحظة الأخيرة لمرشح الكتلة الدستورية، ذات الصلة بالكتلة الوطنية الحاكمة في سوريا، على حساب مرشح فرنسا والكتلة الوطنية في لبنان.
ولعل التوازن البريطاني ـ السوري ذاته قد وفر فرصة الفوز لمرشح الجبهة الاشتراكية الوطنية، في صيف العام 1952، بعد الاستقالة الاضطرارية التي لجأ اليها الرئيس الذي أغرته السلطة بتجديد ولايته عبر انتخابات 25 أيار الشهيرة بتزويرها.
في العام 1958 كانت الدنيا قد اختلفت عربياً ودولياً، وبات التوازن بين مصر عبد الناصر، التي غدت جارة للبنان بقيام دولة الوحدة، الجمهورية العربية المتحدة، وأميركا ايزنهاور… وجاء التوازن الجديد بالرئيس فؤاد شهاب.
وفي العام 1964 كان التوازن ذاته هو الذي جاء بشارل حلو.
أما في العام 1970، وبعدما ذهبت هزيمة 1967 بالكثير من وهج عبد الناصر، فقد اختلت التوازنات المحلية، الى درجة ان الرئيس الجديد قد فاز بأكثرية الصوت الواحد، في ظل مناخات انشقاق كان ينذر بحرب أهلية، خصوصاً ان العامل الفلسطيني كان قد دخل دائرة التأثير في الحياة السياسية اللبنانية، وصار مركز استقطاب للصراعات العربية ـ العربية.
وابتداء من العام 1976 صار قطبا التوازن الجديد سوريا حافظ الأسد مفوضة من أطراف عربية نافذة أبرزها السعودية، والولايات المتحدة الاميركية. وهو تواز كان مقدراً له أن يمتد ويترسخ عبر غزوة صدام حسين الكويت، حتى العام 2004. وبعدها تغيرت المعطيات جميعاً.
وتحفظ ذاكرة المهتمين والباحثين أسماء أديب الشيشكلي وعبد الحميد السراج والسفير المصري عبد الحميد غالب، باعتبارهم «أصوات ترجيح» عربية في انتخابات رئاسية في لبنان.
كما تحفظ أسماء مورفي الأول ومورفي الثاني وغلاسبي من الدبلوماسيين الاميركيين باعتبارهم أصوات ترجيح اميركية.
أما الانتخابات الرئاسية الأخيرة فقد تمت بتزكية دولية جاءت بالعالم كله الى المجلس النيابي في بيروت.
وما زال لبنان في دائرة الصراع، الذي كلفه حروباً أهلية عدة، إذ ان الإخلال بتوازناته الدقيقة جداً كان يأخذه الى الفتنة الدموية، حتى اذا ما أعيد ابتداع توازن جديد استعاد هدوءه، من دون ان يستعيد عافيته، لان الشروخ قد تكاثرت وزادت أثقالها على هذا النظام الطوائفي الذي فرضته ظروف الصراع الخارجي أكثر مما كان اختياراً لشعبه لتحقيق أحلامه في الوحدة الوطنية التي على قاعدتها تبنى الديموقراطية والعدالة الاجتماعية والسيادة من داخل هويته العربية وليس من خارجها.
والرئاسة قد تكون عنواناً لهذا كله، أو تكون مدخلاً الى حرب أهلية جديدة اذا ما تسببت في كسر التوازن الهش الذي يحكم هذه المنطقة المضطربة التي أُضعفت أو استُضعفت فتوزعها الأقوياء حصصاً.
(مداخلة في ندوة نظمتها الجامعة الانطونية
حول الرئاسة اللبنانية ماضياً ومستقبلاً)

تهويمــات
ـ الخروج من عتمة الظل!
لم يكن لليل صبح. تمددت الظلمة بعرض الأفق، وتاه الفجر في غياهب الضياع. قام يفتح النافذة المفتوحة متوهما ان الظلام في عينيه. لم ير سوى أشباح مغزولة بالدخان، تهوم حوله ثم تذوب بلا صدى.
افتقد اسمه، هويته، مكانه. حاول ان يلملم أجزاءه المتناثرة في المرآة كنتف من طيف. ملامحه أليفة لكنه بلا وجه.
سحب نفساً عميقاً. حاول ان يترك جسده حراً، ان يخرجه من القيود التي كبله بها، ان يحرره من السجن الذي حبسه فيه منذ دهر.
لم يكن مستعداً لمحاسبة ذاته. لم يكن قادراً على ان يتحمل نظرات الشفقة وكلمات التعزية الرقيقة كالشفرة. الشفرة؟! خطرت بباله أفكار سوداء فطردها وانتصب واقفاً. كانت المرآة تحاصره فتفضحه. هرب منها الى الجدار فرأى ظله يرتسم فوقه مطوق الرأس بإكليل العار!
نظرَها، نظرته. ابتسمت فغمرته موجة دفء. قال. قالت. ثم ساء الصمت منذراً بالعاصفة. وحين استعاد الكلام دورته كانت المرآة حطاماً، وكان الفجر قد بدأ يغسل الليل وصدأ الأيام وأوهام الرجل الذي يخاف عتمة الظل فيتوغل فيها حتى يذيبها ليبلغ الشمس.

مــن أقــوال نســمة
قال لي «نسمة» الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
لا ينتظر الحب الوقت. الحب يصنع زمنه. ما قبل الحب أيام منسية، وما بعده ذكريات. الاحلام لا تعيش في الضوء،
أما الحب فهو الحياة بشمس الأمل وليلها المغزول بالآهات.

Exit mobile version