طلال سلمان

هوامش

منصور الرحباني والصمت الذي يأخذنا إلى الموتفقد لبنان بعض نوره المشع مع رحيل الفنان المبدع منصور الرحباني. وطبيعي ان يستشعر اللبنانيون بل العرب جميعا طعم المرارة في هذا الفقد مضاعفاً: فالمبدعون الذين أعطونا فناً راقياً، وارتقوا بذائقتنا الفنية، يخلون الساحة لجيل من العاملين في الحقل الفني أقل ثقافة، وأقل موهبة، وبشكل عام أقل احتراماً للجمهور، وأقل اهتماماً بحفظ الرصيد العظيم الذي بناه جيل او جيلان من المبدعين يحتل بينهم الرحابنة ومعهم أنشودة الجمال السيدة فيروز موقع الصدارة.لقد سبق الكبير عاصي الرحباني توأمه منصور إلى الرحيل.ومع أن التراث الرحباني هائل الغنى، فلقد كنا نتمنى لو أنهم أعطونا أكثر، أو لو اننا استطعنا حماية ذوقنا بفضل نتاجهم لزمن أطول، خصوصاً أننا شهود على تردي فن الغناء، بل الفنون جميعا، في الوطن العربي الكبير، وليس في لبنان وحده. وهذه القاهرة التي كانت المنبع والمصدر تعاني من فقر دم خطير في الأغنية كلاما ولحنا وأداء، كما في المسرح وفي السينما، وفي الموسيقى كما في الرواية والقصة وسائر فنون الابداع.وأعترف انني كنت أحافظ على مسافة مع الرحابنة. كنت أتهيب صداقتهم، وكنت أتجنب مناقشتهم، لأن الفن ابداع ولست اكثر من متذوق… ثم انني أخلط دائماً في النقاش بين الفن والسياسة.على انني بقدر اعجابي بإبداعهم الفني فإنني كنت أتخوف من نجاحهم في اختراع لبنان غير الذي نعيش فيه ونموت له (احيانا) وفيه دائماً.لقد حوّلوا لبنان الى حكاية، بل الى اسطورة، فيها كل أسباب الجمال التي تأخذنا الى النوم هانئين: الشعر الرقيق، اللحن المبتدع والراقي، مع اعادة صياغة للفولكلور بذوق عصري وبعلم يستفيد من التقدم الانساني ومن استيعاب للفنون الشعبية بمصادرها المختلفة، حيث يتقارب البشر في وجدانهم وفي ذائقتهم الفنية المعبرة عنه.كان فن الرحابنة أرقى من »المزاج« اللبناني، وأرقى من مفردات حياتهم السياسية، ومن طبيعة العلاقة في ما بين »مجتمعاتهم« المختلفة والمتشققة بالموروث او بالغرض المباشر.لقد حول الرحابنة والساحرة فيروز لبنان الى.. حلم.وكانت المفارقة ان اللبنانيين ممثلين بقياداتهم السياسية قد جعلوا لبنان كابوساً…مع ذلك فقد دخل اللبنانيون الحلم حتى وهم يخوضون غمار حروبهم الاهلية، فيقتتلون ويتذابحون، بينما اذاعاتهم »الخاصة« و»مرثياتهم« الخاصة ايضا، تتنافس في بث مسرحيات الرحابنة المطرزة بصوت فيروز الذي يدخلك في الحلم.ولقد صدّق اللبنانيون الحكاية لعلها تعزّيهم في واقعهم..كذلك صدّق العرب هذه الحكايات اللبنانية المغزولة بالاحلام والتي تعزّيهم في بؤس اوضاعهم.ثم ان العرب كانوا وما زالوا وسيظلون يحبون لبنان: هذا الأخ الصغير، المبدع، المشاغب، الانتحاري، الشهيد، المقاتل، عاشق الحياة حتى الموت هوساً..ولقد أضاف الرحابنة الى لبنان احلام اهله: رسموا له صورة مغزولة بالاحلام والأوهام. اخترعوا أبطالا للوطنية، ابتدعوا معارك وانتصارات ليس لها موقعها في التاريخ، ومن هنا فقد كانت قابلة للاستخدام سياسياً من مختلف الأطراف… بحسب اختلاف اسباب الحروب الاهلية واختلاف ابطالها.ربما لم يجد الرحابنة في حاضر اللبنانيين ما يكفي لصياغة منطق وطن جامع، فأعادوا احياء بعض حكايات الجدات عن الماضي او ما عَرفوه منه وجعلوها تاريخاً مفترضاً… وهكذا جاء الابطال من الحكاية ثم عادوا بسرعة اليها، وقبل ان يقتلهم من هم ـ بالافتراض ـ احفادهم!وكان يمكن ان تستمر الاسطورة حية وفاعلة، لولا ان جاء زياد الرحباني وكسر مزراب العين: كتب زياد وغنى ومسرح ولحن وألف غارفاً من الواقع، تاركاً لأهله ان يستمروا في أحلامهم التي لم يعد بوسعهم ان يغادروها.وهكذا فإن زياد أكمل، بشكل ما ولو من موقع الضد، الاسطورة. مع زياد كان لبنان ـ الحلم قد اندثر، وكان الواقع المريع قد فرض نفسه بكل بشاعاته. ربما لهذا رحل عاصي ثم منصور، وصمت زياد. انه زمن الصمت.أوصانا محمود أمين العالم: احفظوا بيروت لتعود القاهرة!يتوالى انطفاء المصابيح المشعة في مصر، وهي هي التي اضاءت فضاءنا العربي فكرا وثقافة وحسا حضاريا عميقاً على امتداد قرن او يزيد، فصنعت نهضة ورسمت لنا معالم الطريق الى غد أفضل.وفي تزامن مفجع يجري تنكيس رايات النضال السياسي التي ارتفعت في زمن مضى مبشرة بإمكان الخروج من ليل التبعية والذل والجهل الى افق التحرر وحماية كرامة الانسان.وهكذا تتوسع مساحة العتم، ويتردى النقاش مع سيادة منطق من باعوا اوطانهم بعروشهم، ومن رهنوا اقلامهم لحكامهم او لحكام حكامهم، فيتجرأ المفرطون على الحق والحقيقة وعلى العقل والمنطق للترويج للهزيمة والاستسلام للعدو، أي عدو وكل عدو، سواء أكان محتلاً بقوة السلاح ام مهيمناً بقدرته على فرض ارادته سياسيا على انظمة علة بقائها الاستسلام والتفريط بالأوطان والشعوب وتاريخها..وها هي غزة الشاهد والشهيد، يسفح دمها فيسيل غزيراً حتى يغطي الأرض العربية من اول مشرقها الى أقصى مغربها بينما حكام الهزيمة يماحكون في نوع القمة ومكانها وجدول أعمالها ومستوى الحضور..وطبيعي ان تفرض غزة، بمقاومتها الباسلة، ذاتها على الحديث عن واحد من شيوخ النضال ورموز الصلابة في مقاومة الاحتلال وأنظمة الطغيان وملوك التخلف، هو محمود أمين العالم، الذي غادرنا ـ محتجاً ـ مع تفجر الدم الفلسطيني في وجه الاجتياح الاسرائيلي والتخاذل العربي، في غزة.لقد انطفأ هذا »العالم« الذي وجهه من نور اسمر، فخسر الفكر العربي التقدمي واحدا من اساتذة جيل او جيلين من مثقفينا وكتابنا، والمرشد الفكري لقافلة من المناضلين الذين قاوموا الخطأ عند الرفاق والاصدقاء بالشراسة ذاتها التي قاتل بها الطغيان والتبعية.ومحمود امين العالم الكاتب، الناقد، الباحث، المعلم، المناضل السياسي الصلب هو هو الانسان الذي يذوب رقة حتى وهو يناقش خصومه بالحجة التي يصعب دحضها، دون ان يتخلى عن ابتسامته التي تضيء سمرة وجهه الصعيدي.ولقد تعلمت كثيراً من هذا الاستاذ الكبير الذي كان يتباهى بأنه خريج بعض أفقر أحياء القاهرة الداخلية، وهو »الدرب الأحمر«، وأن والده صعيدي جاء من اخميم في محافظة سوهاج، وأن امه تتحدر من اصول يونانية..وحتى في الستينات كان الذهاب الى »الدرب الاحمر« مغامرة، فهو من الاحياء الخلفية، تلك التي يتلطى فيها السوقة وأبناء (وبنات) السبيل و»البلطجية«، والتي كان رجال الشرطة يحاذرون الدخول اليها… برغم ان اهالي ذلك الحي هم بمجملهم من المواطنين الطبيعيين الساعين الى مستقبل أفضل، ولو باللحاق الى المدارس في الأحياء القريبة، كما جرى مع محمود أمين العالم.اما اخميم التي قادني اليها، ذات يوم، الباشمهندس نسيم هنري بصحبة صانع الابتسامات في الزمن الصعب وصديق الاطفال بهجت عثمان، فهي قرية تقع على ترعة متفرعة من النيل، اشتهرت بصنع الجلاليب الانيقة والثمينة، فهي مزركشة ومغزولة من الصوف والكتان… وأهلها خليط من الاقباط والمسلمين وفيها دير لقسس ومتعبدين.وبين الجلسات الممتعة مع محمود امين العالم تلك التي كان يستعيد فيها سنوات صباه الاول، لا يفوقها متعة الا استغراقه في رواية ذكرياته عن السجون والمعتقلات التي أدخل اليها كشيوعي، برغم قربه من التوجه العام لنظام جمال عبد الناصر، والتي أخرج منها ـ بعد المصالحة بين النظام والشيوعيين ـ ليتولى بعض أهم المواقع القيادية في مراكز التوجيه الاعلامي والسياسي (في التنظيم الطليعي).ولان ثقافة محمود أمين العالم عميقة وعريضة ومنفتحة على الأفكار جميعا، فقد استطاع ان يكون كبير النقاد والمرشدين في الحقل الثقافي. وهو أطل اصلا من باب عريض للنقد، فقد كان اول مقال كتبه بالاشتراك مع رفيق عمره عبد العظيم انيس رداً على مقال لطه حسين حول مفهوم الأدب. وهو استهل بذلك معركة النقد باعتماد الاتجاه الواقعي.على ان أبرز ما ميز »الناقد« محمود أمين العالم انه ربط في نقده بين الأدب والحياة، وكان منظوره في النقد سياسياً بالضرورة.وتشهد له كتبه بأنه أرسى دعائم مدرسة في النقد لها تلامذة مخلصون في العديد من الأقطار العربية، خصوصاً وهي قد تناولت جوانب حياتنا جميعاً، من »الوعي والوعي الزائف في الفكر العربي« الى ثلاثية »الرفض والهزيمة« وهي دراسة في أدب »المنبوذ« صنع الله ابراهيم.قال لي ذات زيارة لبيروت: احفظوا هذه المدينة. انها تعوض غياب القاهرة.وقال لي ذات زيارة لي للقاهرة: لم تحفظوا بيروت ولا نحن حفظنا القاهرة. لقد أطفأوا النور هنا بالسياسة، وأطفأتم انتم النور عندكم بالحرب الاهلية. لكن الاجيال الآتية سوف تتعلم من تجاربنا وتجاربكم الكثير… فقط أخاف من الانصراف عن القراءة. وأعجب من هؤلاء الذين يقدمون انفسهم وتحتفي بهم المجلات والصحف وهم لم يقرأوا الا القليل القليل الذي لا يصنع ثقافة ولا يقدم للناس معرفة. ان هؤلاء أخطر من حكام القمع. انهم يضللون الجمهور.ألطف جلسات الندامى كانت تلك التي تجمع بين محمود أمين العالم وعبد العظيم انيس وسعد كامل ونفر آخر من خريجي سجن الواحات، حيث تتوالى الذكريات الضاحكة، ويرف طيف شهدي عطيه، ويضحك الجميع من مفارقة ان العديد من القياديين في الحزب الشيوعي المصري كانوا متزوجين من أجنبيات غالبيتهن من اليهوديات.وكان محمود أمين العالم يختم الجلسة بابتسامته المشرقة: هم أهل كتاب، على أي حال! المهم ان نعرف أي كتاب.عوضنا الله غياب هذا العالم ـ المعلم الكبير.من أقوال نسمةقال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:تنتصر في حياتك بالحب، والحب ليس طائراً في فضاء مفتوح. لحبيبك وجه من قمح أرضك.من أراد التغزل بحبيبه استعار قمر بلاده، نجومها، شمسها، ولثغات أطفالها وهم يرتمون على صدور أمهاتهم.

Exit mobile version