طلال سلمان

هوامش

معرض الكتاب: محمود درويش يستحق أكثر
تستحق بيروت، بكل الناس فيها، التحية، لأنها لا تزال تحفظ للكتاب وأهله مكاناً في قلبها، نتيجة وعيها بأن بعض رصيدها الممتاز يتصل بدورها الثقافي… أوليست هي الجامعة والمنتدى والمطبعة والكتاب وصحيفة الصباح والتلفزيون الملعلع (بالغث والسمين) على مدار الساعة؟!
وبرغم محنة الكتاب العربي، في كلفته كما في قرائه (الفقراء)، وتناقص أعداد القراء عموماً في ظل القيود الرقابية المفروضة وتدني دخول عشاق الفنون الأدبية قصة ورواية وشعراً وترجمات وأبحاثاً ومؤلفات علمية، فإن معرض الكتاب الذي ينظمه النادي الثقافي العربي في بيروت لا يزال موعداً سنوياً له الملتزمون بالاحتفاء به، يقصدونه للإطلاع على الجديد والتلاقي مع الأصدقاء والتعرف إلى المحتفلين بنتاجهم الجديد.
بعيداً عن التقييم الصارم فإن حفلات التواقيع التي تتخذ أكثر فأكثر الطابع الاجتماعي وتتراوح بين المجاملة والمؤانسة والتقاط الصور التذكارية مع هؤلاء الذين يصنعون المشاهد المؤثرة، برواياتهم وقصصهم أو بشعرهم مشطراً أو موزوناً أو مرشوماً بالنقاط التي توضح المعنى الذي في قلب الشاعر، ما تزال تحظى بالرواد… مع استدراك ضروري مفاده أن من »يوقع« أكثر هو المعروف أو المشهور أكثر، أو صاحب الموقع المؤثر في الحياة العامة، وبالتالي فليس من يحقق أرقاماً أعلى، في المبيعات هو بالضرورة المبدع الممتاز أو أن نتاجه هو الأرقى أو الأمتع أو الأفيد للناس.
تبقى ملاحظة لا بد من تسجيلها، حرصاً على المعرض وجهد القائمين عليه:
أولاها ـ إن محمود درويش قد لحق به ظلم شديد. فلا يكفي أن يتوج المعرض باسم شاعرنا العظيم حتى نكون قد وفيناه حقه.
يستحق محمود درويش أن يحتفى به بما يتناسب مع مكانته في وجدان الناس، ومع تميزه كمبدع تجاوز المراتب الرسمية، وتخطى جدران المنافسة ليستقر فوق القمة شاعراً وناثراً، ضميراً وملهماً، حارساً لقضيته المقدسة وذائداً عن لغته المقدسة، عاشقاً لها، مكتشفاً لآفاقها التي لا تحد في قدرتها على التعبير عن الأفكار العظيمة وعن القيم كما عن الأحلام السنية والعواطف الإنسانية بنبلها ونزواتها، بمثاليتها ومحسوساتها.
الأخطر أن محمود درويش ليس أيقونة مجردة. إنه رمز نضال مجيد لشعب لم يتعب من مقاومة العدو ومن مواجهة الأخ الشقيق، ولم ينطو في أحضان اليأس، وواصل مسيرته الطويلة والمنهكة، بانتصاراته القليلة كما بانكساراته التي تسببت بها ظروفه المعقدة والتي لا طاقة له على مواجهتها وحده، ولا قدرة له على إبعاد »الآخرين« عنها، سيما أنه يحتاج إليهم، ثم أنه لا يستطيع الابتعاد بها عنهم، لأنها قضية الجميع، المخلص والمخطئ، المقاتل من أجلها والمفرط بها والمتواطئ عليها…
وبرغم معرفة الجميع بضيق ذات اليد التي يعاني منها النادي الثقافي العربي، وافتقاره إلى من يدعم ومن يعزز قدراته المحدودة، فإن مجرد إطلاق اسم محمود درويش عليه كان يمكن أن يوفر له ما يليق بأعظم شعراء العربية في هذا العصر، وبالرمز الفلسطيني الأخطر تأثيراً على وجدان هذه الأمة كما على أعدائها المباشرين من الإسرائيليين، فضلاً عن مكانته المميزة ـ بين شعراء العربية ـ على المستوى العالمي.
وفي أي حال فإن بيروت التي أحبها محمود درويش حتى العشق وأحبته حتى أسكنته وجدانها، لم تعط شاعرها بقدر ما هو شاعر فلسطين وشاعر العروبة ما يستحقه من تكريم لنتاجه ولدوره في الارتفاع بالوعي الشعبي العام إلى المستوى الذي تتطلبه المواجهة المفتوحة مع العدو، »العارف« بفداحة جريمته، ومع الأخ الشقيق الذي أعطى القضية من عاطفته أكثر مما أعطاها من جهده… أما الأنظمة ـ ومن ضمنها النظام الفلسطيني ـ فهي خارج السياق، خصوصاً أنها أقسى على القضية من عدوها.
عندما هرَّبتُ »يعيش أهل بلدي« ليعممه الحاج مدبولي!
دخلت تلك المكتبة في ميدان طلعت حرب بالقاهرة يتقدمني فضولي. رحب بي »الحاج مدبولي« وتركني للحظة أتأمله بوجهه الصعيدي الذي تضيء سمرته متى ابتسم. تناول مجموعة من الكتب من رفوف عدة، ثم مد يديه إلى خلف الواجهات فجاءني بكتب أخرى وقال: أعرف أنك تبحث عن الممنوعات، هذه بعضها.
جلت بين الرفوف وحين وصلت إلى باب يقود إلى المخزن الداخلي فوجئت به أمامي. وقال: لديّ أيضاً أشرطة نادرة لأغنيات خالدة. قدّرت أنك من عشاق الطرب.
تقدمني فتبعته يغمرني شيء من الدهشة. قال دون أن ينظرني: أنت لبناني؟! أظنك من أهل الكتابة. أعرف وجهك لكن اسمك لا يحضرني.
عرّفته بنفسي فهتف: آه، أنت اللي هرّبت كتاب أحمد فؤاد نجم وطبعته في بيروت. طبعاً هو ممنوع في مصر لكنني حصلت على مئات من النسخ منه فبعتها، ثم أخذ الناس ينسخونها. في كل بيت الآن شيء من »يعيش أهل بلدي«.
صمت لحظة ثم أضاف ضاحكاً: أصل أنا، ولا مؤاخذة، بتاع الممنوعات جميعاً. الرقابة حمير، كلما منعوا كتاباً زادوا من مبيعاته.
دار في المخزن يجمع لي أشرطة الأغاني القديمة لأم كلثوم وعبد الوهاب وزكريا أحمد، ثم مد يده إليّ بشريط نادر لمحمد عثمان وهو يقول: خذه، أنت متذوق، تستحق هدية!
عدنا إلى »مكتبه« فطلب لي الشاي بينما عيناه تتابعان حركة الزبائن والباعة والمبيعات، وقال دون أن ينظر إليّ: لقد جاءني أحمد فؤاد نجم، وهو صعلوك كما تعرف، يطالبني بنصيبه من مردود كتابه… وقد أعطيته ما تيسر، برغم أن لا حق له عندي، لكنه ابن بلد أصيل وقد هز ضمير مصر وحرّك جماهيرها… جدع!
المكتبة كسفينة نوح، تضم الأنواع المختلفة من المطبوعات، الروايات والمسرحيات وكتب النقد الأدبي، الكتب الدينية والكتب الناقدة للمفاهيم الدينية المسيسة، ترجمات المشاهير والمؤلفات التي أحدثت ضجة في دنيا النشر. قال: أنا لا أقرأ الكتب لكني أفهم فيها أكثر من مؤلفيها. لا مؤاخذة عندي الحس. ثم أنني أسمع ممن يترددون عليّ، وقد عنيت من بينهم مستشارين يزكون لي كتباً بالذات ويخبرونني عن تلك التي أثارت أو ستثير ضجة. ثم أنني أعرف دواء الرقابة، شوية هدايا، إكراميات، تبرعات لتعليم أولادهم… إنهم فقراء، غلابة… المهم ألا تتكبر عليهم أو تظهرهم وكأنهم جلادون.
قبل أن أغادر استوقفني ليسألني: كيف هرّبتَ نجم؟ لقد تغلبتَ عليّ!
حكيت له كيف تعارفنا وكيف صرنا أصدقاء، وكيف جاءني ذات يوم بمسودة ديوانه فحملتها معي إلى بيروت، وسلمتها إلى محسن إبراهيم ومحمد كشلي (وكانا ما زالا معاً في مجلة »الحرية« التي عملت لها سنوات)، فتمت طباعتها… وصارت مهمتي، مع بعض الأصدقاء أن نحمل، في حقائبنا كلما قصدنا القاهرة مجموعة من نسخ »يعيش أهل بلدي«، فلا نسلم واحدة منها لصديق إلا مقابل سهرة ممتعة مع الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم.
لقد انطفأ مصباح آخر في القاهرة. رحل الحاج مدبولي. وقبله كان قد انطفأ الشيخ إمام عيسى… ولا تزال البقرة النطاحة في البير، تنادي أولادها لعلهم يفيقون من نومهم الطويل.
أسامة العارف في »يا دنيا يا غرامي«.. ولا غرام؟
كثيرة هي المفاجآت التي يخبئها الكتاب الجديد لأسامة العارف بين دفتيه بعنوانه المثير للشهية »يا دنيا يا غرامي«، وأولاها أن ليس في النصوص التي رصفت فيه، على اختلاف موضوعاتها، ما يحمل مباشرة إلى الغرام ودنياه الممتعة التي تستحق أن توصف به وبه وحده.
ولقد عرفت بعض وجوه أسامة العارف، لكنني لم أعرفه كله، وقرأت له نصوصاً مسرحية، وشيئاً من أدب الرحلات، وأمتعني أسلوبه في السرد الوصفي لا سيما في مقاله الذي نشره في »السفير« ثم أصدره في كتيب مدهش بجاذبيته بعنوان »ذاكرة الرمل«… وأشهد بأن له ذاكرة هائلة في قدرتها على استعادة التفاصيل وتفاصيل التفاصيل حتى بعد دهر.
ربما لأنني لم أعرفه كله فقد كان أسامة العارف يفاجئني بين حين وآخر بموقف جديد أو مستجد، فهو يطوّر مفاهيمه باستمرار، ويستمتع بأن يتركك تحدس بمفاجآته الجديدة… ثم أنه مستريب أبدي، عميق الغور، لا ينكشف لك دفعة واحدة: يمكنك أن تسبح في عينيه الواسعتين دون أن تستطيع قراءة ما يجول في ذهنه، خصوصاً أنه متشكك، قلق، ولا يقول إلا ما يفترض أنك قادر على حمله أو على فهمه مما يفكر فيه. إنه »تنظيم سري« قائم بذاته، وأظنه ظل كذلك حين اقترب من بعض التنظيمات السياسية، فوالاها فكراً وتحفظ عليها ممارسة، أو أنه أحب بعض من فيها ولم يتورط في الانخراط فيها.
يخبرنا أسامة العارف في كتابه الجديد أنه من أصول تركمانية، وإن كان بيروتياً صميماً، بأمه وأخواله ونشأته في هذه المدينة التي يعرفها كباطن كفه، ويحبها بعشق (ضمن حدودها الإدارية).
ولعل أمتع فصول هذا الكتاب رحلة أسامة في تتبع أصوله التركمانية التي قادته إلى ديار بكر في تركيا، ثم أرجعته إلى اسطنبول يبحث فيها وينقب، إلى أن انتهى به الأمر عائداً إلى القرية التي جاء منها أبوه (المحامي القدير الراحل عارف العارف) في منطقة تل كلخ في سوريا.
الأب، المحامي، رجل العدل، مثل أعلى… والخال »ابن بلد« أصلي يعرف كثيراً من دون ادعاء علاقة بالثقافة أو بالقانون. إنه يعرف المدينة والناس.
أما مع الأصدقاء فأسامة العارف انتقائي جداً، لكنه متى صادق أخلص، وفي الكتاب رثاء لبعض أصدقاء العمر، من بينهم الراحلان نديم دكاش المحامي الذي هجّرته الحرب الأهلية إلى باريس حيث ظل فيها منتظراً نهايتها حتى مات في منفاه الاختياري، أما الثاني فهو فؤاد زحيل، النبيل الذي أعطى بعض عمره للحزب الشيوعي إيماناً بالإنسان أكثر منه إيماناً بالحزب والعقيدة.
أما رفيق العمر الأعز فهو الفنان الراحل بول غيراغوسيان الذي ذهب إليه أسامة العارف مشياً على قدميه من طريق الجديدة إلى برج حمود ليكون صديقه حتى آخر لحظة في عمره، والذي كاد يعلمه قراءة العربية كي يستطيع أن يعرف ماذا كتب صديقه للمسرح أو في الأدب عموماً.
وبعد بول يجيء الكاتب الراحل عصام محفوظ الذي كتب عنه حياً ورثاه حين فقدته الثقافة في لبنان كمبدع وكإنسان عاشق، وحيداً ووحيداً مات.
باختصار فإن أسامة العارف ماركسي الهوى ليبرالي المسلك، تقدمي التفكير شغله الصراع العقائدي طويلاً لكن قضية العروبة لم تشغله كثيراً، بل لعله توغل في »اللبنانية« مثل كثيرين من قدامى الشيوعيين حتى بز الكتائبيين تعصباً.
وأسامة العارف حر في موقفه السياسي، لكن الكتاب خطير كشاهد… وبالتالي فقد كان من الأفضل لو أنه خلا من بعض المواقف السياسية التي قد تجرفها تحولات الأيام، فيكون بذلك أقرب إلى عنوانه الموفق، وإن كان في متنه بعض ما يذهب بالغرام ويمتع الدنيا جميعاً. لكأنما يبدل أسامة قلمه ولغته ويتخلى عن رصانة العارف لتسود نصه نبرة حادة لا يتوقع صدورها عن متذوق للفنون عموماً من الرسم إلى النحت وإلى المسرح الذي أعطاه أسامة بعض نتاجه، كما أنه شارك ـ من موقع الناقد أو الصديق ـ في تزكية أعمال مسرحية ناجحة.
لو أنه يتخلى عن بعض ارتياحه، وبعض شكوكه، وبعض حذره الذي يأخذه إلى حيث لم يكن يقصد أو يريد، فإذا أنت أمام »خصم« لمن لم يستخصمه ولكان كتابه استحق عنوانه الجميل.
من أقوال نسمة
قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
ـ حبيبي هـو الدنيــا. بقلــبه أحب، بعــينيه أرى، بعقله أفــهم دنــياي وأعــرف نفــسي. وحين أحس أنه ضمـني أخــاف علــيه منــي، فالأســر يقتل الحب، وأريد حبيبي حراً ليــحبني بقلبه وعينيه وعقله معاً.

Exit mobile version