طلال سلمان

هوامش

»جمهورية الأمير« في رثاء متأخر لنقولا ناصيفالتاريخ السياسي عند العرب »صناعة يدوية«، تختلف طبعاته، بالوقائع ذاتها وليس بالاستنتاجات فحسب، باختلاف صناعه، وربما لهذا تختلف صياغاته وفق اهواء كتابه وارتباطاتهم وعواطفهم ومدى الرؤية.في الغالب الأعم يتم التعامل مع القائم بالأمر من الحكام على انه »القائد الفذ« او »المنقذ« او »بطل الاصلاح«، ولا سيما ان تداول السلطة ديموقراطيا ليس مألوفاً، او فلنقل انه ليس قاعدة طبيعية معتمدة… وعلى هذا فلا بد من »معجزة« كي يخرج القائم بالامر، وبالاستطراد، فمن البديهي ان يفترض في من يدخل بديلاً او وريثاً انه قد اجترح واحدة من العجائب الخارقة، وبالتالي فمن حقه ان يميز نفسه بمراتب وألقاب استثنائية.في لبنان على وجه التحديد، وتدليلاً على سيادة المفاهيم المبتكرة للديموقراطية، فإن الخارج من »القصر الجمهوري«، ولا سيما في حقبة ما قبل »اتفاق الطائف«، أي حينما كانت صلاحيات »الرئيس« امبراطورية مطلقة، غالباً ما كان يصنف كرمز للفساد والتفرد والعداء للمطالب الشعبية… اما »الداخل« فهو المجسد الحقيقي لارادة التغيير ولتحقيق العدالة والطموح الى التقدم وانجاز حلم الديموقراطية!!الخارج من القصر »منبوذ«، متهم في ذمته المالية بداية، ثم في »تفرده« بحيث يصور »طاغية«… اما الداخل إليه فيكاد يصور في مستوى »الملهم« او الرجل المدخر لتحقيق الأمل المنشود!غالباً ما كان »التغيير« في القصر يتم بوسائل ديموقراطية المظهر، وان كانت من الهشاشة بحيث لا يمكنها ان تخفي قوى الدعم والاسناد للأطراف السياسية المتصارعة في الشارع الذي غالباً ما كان منقسماً على ذاته، وبالتالي فإن الحكم في الداخل كان يتم عبر اعادة صياغة العلاقة لتحقيق التوازن بين قوى الخارج…وبطبيعة الحال فإن »الصوت العربي« في الانتخابات الرئاسية في لبنان كان من حق الطرف الأقوى او تحالف طرفين او أكثر، خصوصاً ان في الشارع من كان بوسعه ان يسمع فيُسمع هذا »الصوت العربي«، الذي يستبطن »تفاهما« مع الأقوى بين الأطراف الدولية ذات النفوذ في المنطقة.الرئيس الراحل فؤاد شهاب نموذج فريد في بابه بين الذين تعاقبوا على رئاسة الجمهورية في لبنان. فهو، بداية، أمير من الأسرة الشهابية التي »ورثت« انسباءها المعنيين في حكم امارة الجبل، مع الأخذ بالاعتبار ان هذه الأسرة ترجع في انسابها الى قريش. على ان ذلك لم يمنع المتحدرين من النسب الشريف من ان يتحولوا بمذهبهم تارة ثم بدينهم كله تارة اخرى، بما يتناسب مع مقتضيات الوصول الى السلطة. وهكذا فإن في لبنان حتى اليوم شهابيين من السنة (الأصل) وشهابيين دروزا، وشهابيين موارنة.فؤاد شهاب المتحدر، بحسب شجرة العائلة، من فرع الأمير بشير الكبير، هو الرئيس الذي شكل علامة فارقة في تاريخ الجمهورية باعتبار انه حاول التقدم من استقلال الدولة الى دولة الاستقلال (وهذا احد الشعارات الصلحية التي قدم بها عهده)… ولأنه متميز فقد اختاره الزميل نقولا ناصيف موضوعاً لكتابه الممتاز بدقته وشموليته »جمهورية فؤاد شهاب«.واضح ان نقولا ناصيف قد بذل جهداً ملحوظاً امتد الى تاريخ الأسرة العريقة بتحولاتها وبدورها السياسي البارز في »امارة جبل لبنان«، بداية، ثم »باستعادتها« الرئاسة الاولى بعد اكثر من مئة سنة على سقوط آخر من حكم باسمها، او اسقاطه، الأمير بشير الكبير، عبر سلسلة من الانقلابات السياسية والتجوال الطوبل بين أحمد باشا الجزار، والي عكا، ونابليون بونابرت وباشاوات السلطنة، وحروبه ضد منافسيه الكثر داخل أسرته، ثم منازعيه على السلطة في الجبل اساساً، وأبرزهم بشير جنبلاط، ثم في الجنوب، وجهاء العائلات ذات النفوذ، حتى إذا وصلت حملة ابراهيم باشا نجل محمد علي الكبير (حاكم مصر آنذاك) الى لبنان في طريقه لقتال السلطنة العثمانية، انضم إليه (مكرها)، حتى اذا هزمه التكتل الغربي ـ الشرقي ضده (بريطانيا ـ فرنسا ـ النمسا وحتى روسيا)، كان على أمير الجبل ان يرحل عن البلاد تاركاً اياها تغوص في دمائها نتيجة حرب أهلية متعددة مصادر التحريض!ولقد ذهب نقولا ناصيف مع فؤاد شهاب في رحلة طويلة بدأت بمولده في بيت فقير في جونية بكسروان ولأسرة فقدت عائلها فتكفل بها الأخوال من مشايخ آل حبيش، حتى تلقيه شيئا من الدراسة، قبل ان يلتحق بنواة »جيش الشرق« الذي بدأ الفرنسيون بتشكيله في بطن جيشهم حتى إذا حان موعد اجلائهم عن لبنان سمحوا للجيش اللبناني بالحياة وتركوا قيادته للضابط (الآن) فؤاد شهاب.القائد الذي بدأ يتيما كان قد تعرف خلال خدمته العسكرية على صبية فرنسية ستكون زوجته ورفيقته الى الأبد، بعد قصة حب صارت حياتهما الهانئة برغم انهما لم يرزقا بأولاد. وكانت في طباعها مثله، لا تبهرها المظاهر وتكتفي بما يقيم الأود، ولا تهتم بالرياش الفخمة ولا تحب القصور، وليست شغوفة بالاجتماعيات ومقتضياتها المنهكة.وتشاء الأقدار ان تهتز دولة الاستقلال بعد سنوات قليلة على الاعلان عن قيامها حين اقدم رئيسها على التحضير لتجديد ولايته. والتزوير بين أدوات التحضير.ولقد خُلع بشارة الخوري بعد ثلاث سنوات فقط على التجديد… فاتجهت الانظار الى فؤاد شهاب ليكون الخلف. لكنه كان يقرأ جيداً، فأدرك ان ساعته لم تدق بعد، وهكذا فقد وفر الظروف لانتخاب كميل شمعون، زعيم المعارضة آنذاك، رئيساً. لكن هذا السياسي المحنك لم يتعظ بتجربة سلفه، فحاول تجديد رئاسته متحديا شعبه في الداخل وموجة الاعتراض العربي، المتعاظم على سياسة الانحياز لمشاريع الغرب الاستعمارية (حلف بغداد)…وهكذا كان حتمياً ان يتم اختيار اللواء ـ قائد الجيش فؤاد شهاب رئيساً للجمهورية، خصوصاً انه كان يحظى بدعم زعامة العرب يومذاك ممثلة بجمال عبد الناصر الذي جعلته الوحدة بين مصر وسوريا رئيساً للجمهورية العربية المتحدة.كانت احلام فؤاد شهاب عظيمة، بينها ان يبني دولة، وبينها ان يحقق عدالة اجتماعية، وكان لا بد له من ان يصطدم »بأكلة الجبنة« من محترفي السياسة وأرباب المال، ولم يكن مستعداً لأن يقاتل دفاعاً عن حلمه… ربما لهذا احس بعد سنتين انه لا يمكنه الاستمرار رئيساً فكتب استقالته. لكن النواب اجمعوا على رفضها آخذين بالاعتبار التأييد الشعبي فضلاً عن وقوف الجيش الى جانبه. وهكذا بقي فؤاد شهاب رئيساً، وان كان قد بات له الآن »شركاء« من كبار ضباط جيشه (ولا سيما في المخابرات) ومن المغالين في تأييده من »البكوات« و»الوجهاء« الذين يقبلون بالأمير رئيساً، لكنهم سيختلفون حتى التصادم على خلافته.الحكاية طويلة: بدأت كحلم وانتهت بالنسبة للأمير الذي قبل الرئاسة منعا لحرب أهلية، مثل كابوس، ولذلك رفض ان يجدد… ثم لم يلبث ان كتب بخط يده النعي التاريخي لنظام عاجز عن تطوير ذاته وعن ارضاء طموحات شعبه نتيجة تكالب طبقته السياسية على المغانم والمناصب ولو عبر الولاء للخارج.نقولا ناصيف أرخ لهذا الحلم بقلم محب، فلم يخف اعجابه بهذا القائد الذي يشكل ظاهرة في الحياة السياسية غيرت قليلاً وحاولت ارساء الأسس لدولة حديثة، لكن غيلان الطائفية والمال والمصالح والارتباطات مع الخارج لم يلبثوا ان اغتالوها… وكان بديلها الحرب الاهلية التي ما نزال نعيش في ظلالها السوداء.ربما رأى البعض في كتاب »جمهورية فؤاد شهاب«، ولا سيما في أيامنا هذه، نعياً لجمهورية الطائف ـ الدوحة وما بعدهما… لكن التاريخ سيكتب غير ما يقوله أكلة الجبنة المستمر وجودهم في العهود جميعاً.نصري الصايغ يتصوف في مقام الحواسالرسم على الغلاف مغرٍ، والعنوان يثير الشهية: »مقام الجنس وتصوف الحواس«، خصوصاً وقد اقترن بالشعر! لكن اسم المؤلف يستدعي مزيداً من التدقيق: لا يمكن ان يكون هو هو، ذلك »المناقبي« المعتصم بالقيم في المواقف السياسية كما في السلوك الشخصي الى حد التزمت!نصري الصايغ؟ الكاتب الملتزم بإيمان عميق حتى ليبدو كأنه هبط للتو من كوكب آخر، المحاور، المجادل، المؤمن بالعلمانية الى حد التفرغ للتبشير بها كتابة وخطابة ونقاشا عميقاً لا تغيب عنه الحماسة حتى لو كان الجمهور محدوداً؟!لكن التوقيع واضح، ولا مجال للالتباس… والاهداء يقطع الشك باليقين:»اغفر لي هذا الجمال.. الجنس سحابة في الشعر!«.بعده تتوالى شواهد الاثبات: الاهداء.. »الى التي منعتني من ذكر اسمها مراراً ثم… الى ناهية«! هل الاسم هو اشتقاق الصفة من النهي؟! بعد ذلك تتوالى العناوين مقامات: مقام الجنس!. العبور الى ـ أولد ـ من نهديها ـ انا الحزين ـ .. والخطيئة… ثم حلمتان وطواف ـ مقام الإبط ـ مقام ما بينهما ـ مقام الارتكاب ـ ذرية المتعة… وبعدها: فلنتحدر الى السماء ـ الدفء ـ بكارتنا الأولى ـ بيتها السري ـ خذني الى جسدي ـ فأنا الذي مني وُلدت، انا الذي منكِ تولد ـ بعدها »لاهوت الجسد« لهو، وشهوات الشيخوخة وتصوف الحواس، وفيها انواع الاجساد: جسد الصابونة، انثى الماء ـ جسد الحساء ـ حليب المداعبات ـ جسد الجوزة، راهبة الدير ـ جسد الزيت. نذور للشهوات ـ وجسد البلوط، حطب الملذات ـ انتهاء بجنس القديسين، وعشق وعاشق ومعشوق ولأن الجنة في الاسفل«. بديهي ان ينتهي هذا »الشطح« بشيء من الشعر: لو تعرف الصحراء لقدميك عري الماء، لفخذيك نبيذ الوحي… وستسكر الرمال.بعد ذلك كله سيكون الجنس لغة نصري الصايغ!يقول لي بشيء من الاعتذار الذي يستبطن التباهي: ليس أجمل من ان تتغلب على عمرك بالمراهقة! ويغمره شيء من الخجل الذي يشهد بانه أقدم فنجح، ولعظيم مفاجأته فقد نطق بالشعر!لكن »الديوان« الذي كتب بحبر ابيض يقطع الشك باليقين: انه نصري الصايغ، ابن مشغرة ـ بدر وادي التيم، العقائدي حتى العظم، الذي يذهب في الدفاع عما يؤمن به الى حافة الاستشهاد. الرصين الى حد ان بعض من عرفوه قبل حين كادوا يصنفونه مبشرا… بما يستحق الالتزام به من قضايا محقة في طليعتها فلسطين، ومعها العلمانية باعتبارها بعض نسيج الوطنية والعروبة، في مجتمعاتنا.في معرض الكتاب اقترب مني وقال بفرح: تستحق الحياة ان نعيشها!تعبر عيناي لهاث الكلمات في السطور المقطعة الأنفاس كأنها تأتي من المتحاضنين في الفراش، مباشرة، فاذا نصري الصايغ يطلق المكبوت من عواطفه نهراً من الشعر تسبح فيه حوريته التي أعطاها كل ذاته، بالقلب أساسا وما ينبع فيه ومنه من أحاسيس مجنحة..لقد أفرج عن جسده بكل الشبق فيه، وأفرغ شحنات من العشق المعتق في اقبية الرغبة منذ دهور.استعاد شبابه الأول فيها ومعها وبها، فاذا شبقه ينثال قصائد تتهاوى فيها الاوزان والبحور: كيف يوزن الشبق في بحر غيبوبة اللذة؟ قال نصري الصايغ كل ما لم يكن يجرؤ على قوله لا في سنوات المراهقة ولا في سنوات الشباب! ما اضيع عمر الانضباط الحزبي الى حد التحول صنماً باليد المرفوعة زاوية قائمة؟!الشباب روح وثابة، طاقة متجددة منبعها الحب. وها هو لمرة يحصر الحب »فيها« بدلا من حصره بالأمة. لمرة يكتب منها وفيها وبها ولها… يكتب بقلبه، بشبقه، بحبه للحياة، باستشعاره انه للحظة قد عاد الى ريعان الصبا بدليل قدرته على اشباعها، ولو بتفجير ذاته! وهكذا اتاح لنا ان نعرفه، للحظة، كما لم نعرفه أبداً في ماضي الصداقة ولن نعرفه أبداً في مستقبل… الحسد!»ارسمها تفاحة، ترسمني ذكراًثم… طردنا من الجنة/ خبأنا ممنوعاتنا في ثيابنا الداخلية، ومضينا الى الصحراء وتعرينا. رآنا الله خطيئتين فباركنا وادخلنا الى متع سماوية«.ها هو نصري الصايغ يفاجئنا بكفاءة أخرى كانت كامنة فيه ففجرها، حتى وهو يدرك ان انفجارها ذري.. لا حدود لتداعياته!هنيئا لنصري الصايغ انه قد وجد المفجر.. وانه لم يتردد في الإقدام على ممارسة الحب الى حد النطق بالشعر!مــن أقــوال نســمةقال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة الا الحب:ـ عندما اغضب من حبــيبي وأنــوي مخاصمته يخاصمني قلبي، فأهم بالرجــوع اليه، لكنه يسبقني، وحين نتعانق أحس ان قلبي قد اتسع حتى ليغمر حبي كل الناس. أليس حبيبي في كل الناس؟!

Exit mobile version