طلال سلمان

هوامش

كثير من الصحف، قليل من العروبة… وحكاية تجربة قديمة!ما يفرحني ويفرح أي صحافي أن نشهد هذه الطفرة في إصدار المزيد من الصحف في دنيا العرب، مشرقاً ومغرباً.لكن ما يؤسَف له أن تزايد أعداد الصحف لا يعكس حيوية سياسية أو تعاظماً في حوار الأفكار أو معالجة جدية لأسباب القلق على المصير الذي يقض مضاجع أي مواطن عربي سوي، في أي من أنحاء هذه الدنيا العربية الفسيحة.لقد تراجعت »السياسة« في الصحافة العربية عموماً، ولم تنجح الصحف الجديدة في تعزيز الروابط بين العرب في مختلف ديارهم، لأنها بمجموعها، وفي ما عدا استثناءات نادرة، صحف »محلية« جداً، بل موغلة في محلياتها، بحيث يصبح تناول قضايا العرب، كافة، أو قضايا »الإخوة في الأقطار الأخرى«، مجرد استيفاء للقواعد المهنية.لقد غابت قضايا الأمة، وتراجع الاهتمام بـ»الآخرين« إلا عبر ما تفرضه مواجعهم التي تتراوح بين مخاطر الفتنة والانقسام إلى حدود الحرب الأهلية، من »تغطية« تتولاها ـ في الغالب الأهم ـ وكالات الأنباء الأجنبية… مع استثناءات تفرضها أغراض التوجه السياسي للصحيفة المعنية، ومن يقف خلفها من مصالح الدول أو القوى، عربية وأجنبية.ليُسمح لي هنا أن أحكي تجربة مهنية مختلفة تحمل بعض »روح« الزمن الجميل الذي مضى وانقضى مخلياً مساحته لزمن آخر بسياسات مختلفة، وبالتالي بصحافة مختلفة تماماً.[ [ [في مثل هذه الأيام من خريف العام 1962 ركبت الطائرة، لأول مرة، قاصداً الكويت لأتولى مسؤولية إصدار المجلة السياسية الأولى في تلك الإمارة العربية التي تحتل مركز الزاوية على الخليج العربي.كان البريطانيون قد أكملوا جلاءهم مع إعلان قيام »دولة الكويت«.وكان الحاكم في بغداد عبد الكريم قاسم، الذي أوصلته ثورة 14 تموز 1958 إلى السلطة في العراق فانفرد بها، بعد إبعاده رفاقه في قيادتها وأبرزهم عبد السلام عارف وحلفاؤه من »البعثيين« والقوميين، بينما قفز الشيوعيون ليحتلوا الصدارة بشعار شهير هو »ماكو زعيم إلا كريم«، في مواجهة المد القومي العظيم الذي كان أنتج دولة الوحدة بقيادة جمال عبد الناصر.وقرر »الزعيم« أن الكويت »قضاء« في »محافظة البصرة«، ولوّح باجتياحها لإعادتها إلى حضن وطنها الأم، العراق… في حين بادرت معظم الدول العربية إلى الاعتراف بدولة الكويت، بعد جلاء الاحتلال البريطاني عن أراضيها.وصلنا إلى الكويت وهي في قلب العاصفة.لم نكن نعرف من أهلها إلا بعض من جمعتنا بهم الصدف كمصطافين، في حين كان يعرف أهلها الكثير من المهنيين الذين قصدوها من لبنان كي يقايضوا عرق الجباه والزنود ببعض المال الحلال، فانضموا ـ ولو كأقلية ـ إلى الجاليات العربية الكبيرة التي كان يتصدرها فلسطينيون ومصريون، خصوصاً أن عملية البناء الهائلة لاستيلاد »الكويت الجديدة« كانت في ذروتها اندفاعاً.وكانت عملية العمران الواسعة النطاق البشارة بانبلاج عصر النفط.أما الكويت فكانت مدينة محدودة المساحة، ومحددة معالم العمران: قصر السيف، مقر الأمير أو »شيخ العود« كما كان يطلق على الراحل الكبير ـ المؤسس الشيخ عبد الله السالم الصباح، ويقع على الشاطئ مباشرة، تتوجه العبارة التي اختارها راحلنا الشهيد رفيق الحريري لسرايا الحكومة في بيروت: »لو دامت لغيرك لما انتهت إليك«… أما في قلب المدينة فيبرز مبنى البلدية، ثم مبنى مجلة »العربي« التي أعطت القراء العرب في مختلف ديارهم واحدة من أهم المجلات الثقافية الشهرية وأرقاها. وكان يرأس تحريرها العلامة زكي مبارك أو »الدكاترة زكي مبارك«، كما كان يلقبه منافسوه الذين سقطوا في وهدة الحسد.[ [ [لم يكن في الكويت، آنذاك، إلا صحيفة يومية واحدة هي »الرأي العام« لمؤسسها الذي سيغدو، في ما بعد، »عميد الصحافة الكويتية« الراحل عبد العزيز المساعيد.وكان بين »أبي يوسف« الذي يعرف أكثر مما يجب عن الرجال وأحوال الدول، عن البحر وعمليات الغطس طلباً للؤلؤ الذي قد يكلف »صائديه« حيواتهم، وعن التجارة عبر الصحراء كما عبر المحيط وصولاً إلى الهند وإندونيسيا، فضلاً عن سواحل أفريقيا الشرقية، من أصحاب الأحلام الكبيرة، لكن من دون أن »يطير« معها، بل مع إبقاء قدميه ثابتتين على الأرض.ولقد أراد المساعيد أن يضيف إلى الجريدة اليومية مجلة أسبوعية.وهكذا جاء إلى بيروت ليتفق مع من سيكونون أسرة تحريرها كأول مجلة سياسية بغلاف ملون في الكويت… وكان حظي أن وقع عليّ خياره لأتولى المسؤولية عن إصدارها.لم أكن كاتباً معروفاً، ولا كنت من المتميزين بالخبرة، خصوصاً وأنا في الرابعة والعشرين من عمري، لكنني كنت مجتهداً، وقد وجدت في تلك الفرصة ما يرضي غرور المهني الشاب الذي يريد تأكيد ذاته وإثبات جدارته، حتى لو أمضى أياماً طويلة بلا نوم، وفرض هذا »النظام« على من ارتضى أن يشاركه هذه المغامرة.[ [ [كانت مكاتب »الرأي العام«، التي ستغدو مؤسسة صحافية كبرى، تحتل جوانب من »هنغار« ضخم، سقفه من الصفيح، يضم مطبعة الصحيفة، وغرف نوم »الخدم« وهم خليط من الهنود والإيرانيين والبلوش.وكان على المساعيد أن يستورد مطبعة هيدلبرغ لطباعة المجلة.وكان عليّ أن أؤمن الفنيين من لبنان، الذين سيعملون في تركيب المطبعة ثم في إجراء التجارب، بغير حساب للوقت.أما أسرة التحرير التي اصطحبتها معي فقد ضمت الروائي الممتاز الراحل الياس عبود، كمحقق صحافي، والراحل قاسم أفيوني، والمصور مصطفى حشيشو، وكامل صليبي، ثم التحق بنا حسن حمية. وما أثار استغراب »أبي يوسف« أن نهتم بالأرشيف، وأن نطلب شراء مجموعات من صور الشخصيات، وما تيسر من المعلومات المتاحة عن الدول والسياسيين، وأن نصحب موظفاً لتلبية طلبات التحرير. أما الإعلانات فقد عهد بها المساعيد إلى الراحل فخري أبو السعود.احتجنا إلى بعض الوقت لترتيب أمور سكننا والمواصلات، ولقد اصطحبنا عبد العزيز المساعيد للقاء مع »شيخ العود« عبد الله السالم. كما عرّفني إلى بعض وجوه القوم من أصدقائه التجار الذين سترفعهم ثورة النفط إلى مصاف رجال الأعمال ومؤسسي الشركات الكبرى.[ [ [بدأنا العمل وقد حدد المساعيد موعد صدور »دنيا العروبة« في عيد الجلوس، المصادف في 25 شباط ,,1963.لم يكن الجو السياسي مريحاً، فتهديدات عبد الكريم قاسم كانت تقض مضاجع الكويتيين، خصوصاً وقد ابتدعت إذاعة بغداد مجموعة من البرامج »الحوارية«، يتجادل فيها بعض العراقيين حول أي من بيوت أعيان الكويتيين سيتخذونها سكناً لهم، بعد »اجتثاث« من يقيم فيها.ولقد تأخرت بعض الدول العربية في الاعتراف بالدولة الجديدة، الكويت، ما أثار حفيظة الكويتيين… واستكتب عبد العزيز المساعيد زميلاً لبنانياً صار في دنيا الحق، افتتاحية يهاجم فيها الحكم في لبنان، ما أثار حفيظتنا جميعاً، فكدنا ننظم إضراباً. ولما جاء يناقشنا حاول أن يحرجنا بالقول: لكنكم في لبنان أقرب إلى المعارضة. احسبوا هذه الافتتاحية من ضمن معارضتكم! وتصدى الراحل الياس عبود ليقول: لو أننا في بيروت لقلنا أكثر مما قلت أنت، فذلك حقنا… أما ونحن في الخارج فسنبدو مزايدين، بل قد نبدو كأننا مرتزقة، نهاجم لحساب الغير، وهذا معيب![ [ [من أجل بناء الدولة كان لا بد من دستور.ولقد كانت رحابة صدر الشيخ عبد الله السالم موضع تقدير الجميع، ثم إنه كان كمن يقرأ المستقبل، لذلك فقد أصر على وضع ركائز ثابتة لحياة ديموقراطية في الكويت، عمادها الدستور والحياة النيابية وإطلاق الحرية في إقامة الجمعيات (بديلاً من الأحزاب)، مع الحرص على حماية الحركة النقابية وكانت في ذروة نشاطها، ولا سيما وسط أعمال النفط في مصفاة الأحمدي وسائر القطاعات النفطية.وهكذا استقدم من القاهرة أحد رجالات القانون الدستوري، الدكتور عثمان خليل، وعهد إليه وضع الدستور لدولة نظامها شبه ملكي دستوري، ومرتكز حياتها السياسية الانتخابات النيابية لتكوين ما سوف يكون »مجلس الأمة«.ومن باب الإنصاف أن نذكر لهذا الشيخ المستنير، عبد الله السالم الصباح، أنه قد أرسى دعائم نظام ديموقراطي، إلى حد كبير، وسط الجزيرة العربية التي لم تكن معظم مشيخاتها وإماراتها قد توحدت قبائلها لتقام فيها »الدول«، في حين أن الدولة الأكبر والأقدم ـ نسبياً ـ من بينها لم تعرف غير القرآن دستوراً حتى اليوم… مع ترك حرية التفسير للمؤسسة الدينية التي تعمل لحساب السلطة وبالشراكة معها.[ [ [باشرنا العمل مع هجوم »الطوز«!و»الطوز« غلالة كثيفة من الغبار، تغطي وجه الشمس، فتعتم الدنيا حتى في عز الظهر، وتستحيل الرؤية فتتوقف الحياة تماماً، ويقبع الناس في بيوتهم يمضغون الرمل الأحمر، الذي يتسلل حتى لو أغلقت الأبواب والنوافذ والستائر فيقتحم حتى »بيت الثلج« في البرادات..هجوم »الطوز« كان يمتد لثلاثة أيام، وله مواعيد محسوبة. ولم تكن المكيفات متاحة، ولم يكن فن البناء قد تقدم ليجد له العلاج داخل البيوت، كما أن الرمال كانت تشكل أرض الكويت ـ المدينة ـ ومحيطها، فإن أهاجتها الريح لم تجد أي موانع لإيقافها.عملنا بامتداد ساعات الليل والنهار. أنجزنا الماكيت، ثم بدأنا اختيار الموضوعات للأعداد الأولى. وناقشنا طويلاً صورة الغلاف للعدد الثاني، أما غلاف العدد الأول فكان بديهياً أن يخصص للشيخ عبد الله السالم، خصوصاً أن موعد الصدور قد اختير ليكون في »عيد الجلوس«.لم تكن في الكويت جامعة بعدُ. كانت هناك ثانوية الشويخ. وكان الجيل الكويتي الجديد يتم تكوينه في تلك الثانوية التي ستغدو نواة الجامعة. وكانت الفتاة الكويتية قد عرفت طريقها إلى التعليم الثانوي، جنباً إلى جنب مع الشاب الكويتي، وإن في مبنيين منفصلين.قررنا أن يكون غلاف العدد الثاني صورة بالألوان لطالبة كويتية… وكانت تلك بمثابة ثورة، اجتماعياً. لكن عبد العزيز المساعيد، الشجاع في اقتحام الصعب، وافقنا، فكان أن صدرت »دنيا العروبة« وغلافها صورة لشابة كويتية جميلة الملامح وفي عينيها الكثير من التحدي والرغبة في اقتحام الصعب…. وكان ثمة فتى عظيم الرغبة في الكتابة يتردد علينا يومياً وفي يده ورقة سودها بأفكاره وخواطره طالباً نشرها، ولو في بريد القراء. أما اسمه فأحمد الجار الله، الذي سيغدو صحافياً مغامراً إلى حد اقتحام المحظورات، ولسوف ينشئ صحيفة »السياسة« التي توصف باحتراف الشغب، في حين يمضي صاحبها متوغلاً في ميدان الأعمال والعقار والبورصة، مفيداً من جرأته على حكام تلك المنطقة الغنية، ومن إطلاق قلمه ضد من يراهم »خصومه« أو »خصومهم« بغير حدود.[ [ [اليوم تتنافس على القراء في الكويت عشر صحف يومية، تضيق صفحاتها العديدة بالإعلانات، كما الدجاجة التي تبيض ذهباً، وإن اتسعت للآراء والأفكار والترجمات على أنواعها… أما مواقفها فتتصل، أساساً، بالمنافسات الداخلية التي قد تتحول إلى صراع، لكنها تظل دائماً تحت سقف الدستور، شهادة على إمكان استنبات الديموقراطية في مجتمع بدوي أصلاً، لكن رموزه الآن بين أخطر رجال الأعمال والمصرفيين ذوي السمعة الدولية.من أقوال نسمةقال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:ـ مخطئ من يفرض على نفسه المفاضلة بين حبه وكرامته الشخصية. الحب يعيد خلقك فيجعلك إنساناً. الحب هو النبل. هل أعظم من أن تعطي نفسك لحبيبك.مغرق نفسه في التفاصيل يخسر حبه من دون أن يربح كرامة لا يمكن أن يهددها قلبه.

Exit mobile version