طلال سلمان

هوامش

عن الطفرة الصحافية الجديدة في مصر والكويتللصباح عند الصحافي المحترف ألوان الصفحات الأولى للصحف، بعناوينها الدالة او المثيرة والتي تعكس هوياتها وانحيازاتها السياسية، سواء أكانت عربية أم أجنبية… وما تقصر عنه العناوين يكتمل وضوحه عبر الافتتاحيات والقضايا التي تتصدى لمعالجتها بالتحليل او بالتعليق في صفحات الرأي.ومن موقع الصحافي المحترف أشعر بسعادة غامرة كلما أُصدرت صحف عربية جديدة، او مجلات سياسية، ويفرحني تزايد عدد المطبوعات المتخصصة بمجالات الكتابة الجديدة مثل العلوم والبيئة والتكنولوجيا، مفترضا ان صدورها يؤشر الى تزايد اعداد القراء، أي المهتمين والمعنيين بمسارات الاحداث في بلادهم ومن حولها، وبالتالي ارتفاع معدلات الوعي عبر الاهتمام بالشؤون العامة، وتحديدا بالمبتكرات والكشوفات العلمية.كلما صدرت صحيفة جديدة اعتبرت ان دفقة جديدة من النور قد غمرت حياتنا، بغض النظر عن تقييمي الشخصي لخطها السياسي… فنحن في أمس الحاجة الى مزيد من النور كي نقتحم ما يحيط بأحوالنا من جحافل العتمة والجهل بأنفسنا.اننا مهددون بالتيه عن حقائق حياتنا. نكاد نتساءل، مرة أخرى:من نحن؟ هوياتنا موضع جدل، ومعتقداتنا محل صراع. الوطنية والعروبة والاسلام في اشتباك يفقدنا اليقين ويهدر طاقتنا، ويغرقنا في بحر من اهانة الذات وتحقيرها، بينما يزداد تعظيم عدونا المحتل والطاغية من حكامنا او المتحكم فينا، بالتحالف معه، ونهرع الى طلب صلح مستحيل مع من »أعطيناه« سلفاً ومجانا كل ما كان يريد انتزاعه منا بالقوة.ولقد شهدت الكويت، مؤخراً، بعد مصر، طفرة في إصدار الصحف الجديدة… بينما توقفت عن الصدور، او تكاد تتوقف، بعض الصحف في لبنان لأسباب متعددة اهمها العجز المالي، بعد ان تهاوت السوق الاعلانية وتوزع القراء بحسب الطوائف والمذاهب، ولو مموهة بالشعار السياسي…. وربما لأنني اسهمت، ذات يوم، وقبل ست واربعين سنة، في تأسيس اول مجلة سياسية اسبوعية في الكويت، بغلاف ملون ومحاورات وتحقيقات وزوايا وأبواب كالتي درجت عليها المجلات آنذاك، فإنني أتابع بقدر من الشغف »التحولات« التي تعكس عبرها الصحف تطور الاوضاع في الامارة الصغيرة التي صارت دولة مؤثرة، خصوصاً في منطقة الجزيرة والخليج بما فيها العراق الشهيد وايران الاسلامية التي يرى فيها البعض »الشيطان الرجيم«، بينما يرى في الادارة الاميركية، بمشروعها الدموي للهيمنة، بطل التحرير ومثبت الايمان بالدين الحنيف.المهم انني استقبلت كغيري من المهنيين، بالترحيب واللهفة للتعرف الى الجديد، الصحف الكويتية الصادرة حديثا، وكذلك طابور الصحف والمجلات المصرية المتعددة الألوان والانتماءات السياسية والتوجهات الملتبسة قدر التباس القوى والتجمعات الفاعلة في المجتمع المصري هذه الأيام.من السهل القول ان الطفرة المالية الناتجة عن الارتفاع الفاحش في اسعار النفط قد حولت منطقة الخليج عموماً الى بؤرة استثمارية ندر مثيلها في العالم أجمع: كم هائل من الثروات في بلاد محدودة عدد السكان، مفتوحة للتطور، مستقطبة للاستثمارات كافة، وفي مختلف المجالات من الاعمار وما اتصل به من بنى تحتية، الى الاستهلاك باشكاله كافة، الى اسباب الرفاه عموماً، وصولاً الى الخدمات العامة، الصحة والتعليم والاسكان والتواصل… حتى بلغ الامر حدود استيراد المتاحف والجامعات ذات الشهرة الدولية، واستضافة الحائزين جوائز نوبل، فضلاً عن استقدام الرؤساء كمحاضرين، والنجوم العالميين من المغنيات والمغنين والفرق الراقصة لتقديم الفواصل بين الندوات العلمية ومحاضرات الخبراء في الاستراتيجيات الكونية، فضلاً عن سباق الهجن ومباريات الفروسية والتباهي بالممتلكات من أحصنة العز العربي القديم.هذا في الخليج، اما في مصر فواضح ان حالة الضيق العامة التي يعيشها المجتمع المصري نتيجة شيخوخة النظام وعجزه الفاضح، سياسياً واقتصادياً، واجتماعيا على وجه الخصوص بدليل الكوارث ـ الجرائم التي تتوالى على المواطنين والمؤسسات فلا تجد من يحاسب المسؤولين عنها وعما الحقت من اضرار بالغة بالمجتمع وسمعة الدولة، قد فرضت توسيع هامش التنفس… وهكذا سمح باصدار صحف جديدة، معظمها لرجال المال والاعمال الذين استنبتتهم الصفقات المشبوهة المرافقة لبيع القطاع العام، بمؤسساته التي كانت مفخرة مصر ومصدر اكتفائها واستغنائها عن استيراد الكثير من احتياجاتها بالاعتماد على صناعاتها المحلية.ومع ان بعض الصحف المصرية الجديدة يخترق حدود المحظور نشره، عادة، كما في ما مضى، فيقدم للقراء خدمة اعلامية ممتازة، عبر تحقيقات ووثائق ومقالات سياسية تكشف بعض ما خفي عن صفقات النهب المنظم، او عن التنازلات المهينة التي تقدَّم لاسرائيل، فضلاً عن تلك المقدمة بلا حدود للادارة الاميركية، الا ان بين هذه الصحف ما لا يضيف جديدا، بل هو قد يحسم من رصيد الصحافة المصرية ومكانتها لدى قرائها، داخل مصر وخارجها.اما الصحف الكويتية الحديثة الصدور فإن بعضها يتجاوز الهدف التجاري، بأرباحه الباهرة، الى التعبير عن مصالح وتطلعات سياسية، خصوصاً ان بعضها يمثل ـ بأشخاص مصدريها والقيمين عليها ـ محاولة لتجديد تجارب سابقة، او لنفخ الروح في الصحافة باعتبارها الميدان الذي تتقاطع فيه المصالح السياسية والاقتصادية بأبعادها العربية والدولية، والحرص على تطوير الحياة العامة في هذه »الدولة« التي »الغاها« صدام حسين بغزوته الكارثية ثم أعيدت الى الحياة بجراحة دولية مكلفة عربياً، سيكون علينا ان نتعايش لزمن طويل مع تداعياتها غير المحدودة… وليست احوال العراق تحت الاحتلال الاميركي، ثم ما أصاب قضية فلسطين من تدهور بلغ حدود الاقتتال الأهلي، اكثر من عناوين بالأحمر لطبيعة المرحلة المقبلة في دنيا العرب كافة.ليس غنى السوق الخليجية عموماً، والكويتية خصوصاً، بالاعلان التجاري الغزير، المبرر الوحيد لهذه الطفرة. فعلينا ان نلتفت ايضا الى احتدام الصراع السياسي بين الاتجاهات المختلفة (الليبرالية والاسلامية والكيانية)، التي تدور حتى الساعة تحت سقف النظام والأسرة الحاكمة التي لا يناقش احد شرعيتها، وان كان ثمة جدل يطاول قدرات بعض ممثليها في السلطة، او دور رجالاتها في ادارة الدولة بالمقارنة مع المستحقين من اهل المال والاعمال، ابناء البيوتات التي لا تقل عراقة عن اسرة الصباح، التي يحفظ لها الكويتيون التقدير لدورها التأسيسي في هذه الدولة الغنية بنفطها كما بكفاءاتها، رجالا ونساء، تجاراً ورجال اعمال وكتاباً ومفكرين، ومؤسسات ثقافية ذات دور مؤثر على المستوى العربي العام…. وربما لأن المصادفات التاريخية ساقتني الى الكويت في بداية انطلاق صحافتها للعب دورها التنويري، بداية الستينيات، تتبدى في عرضي حماسة لدور هذه الصحافة في المستقبل..ففي مثل هذه الأيام من صيف العام ،1962 ركبت الطائرة، لأول مرة، قاصداً الكويت لأتولى المسؤولية عن اصدار المجلة السياسية الأولى في تلك »الامارة« العربية في الخليج، التي كنا نعرف بعض أهلها كمصطافين، في حين يعرف أهلها الكثير من المهنيين الذين قصدوها من لبنان (كما من أقطار عربية أخرى، كمصر وسوريا، وان ظلت الافضلية المطلقة للفلسطينيين)، كي يقايضوا عرق الجباه والزنود ببعض المال الحلال، خصوصا ان عملية البناء الهائلة كانت قد بدأت لاستيلاد الكويت الجديدة.لكن تلك قصة أخرى، ممتعة في بعض جوانبها، ومفيدة بمعلوماتها عن البدايات الصحافية، في الكويت، وعن روادها الأوائل، فإلى الاسبوع المقبل وقصة اصدار »دنيا العروبة«.عبد الله عبد الدايم يرحل إلى المستقبللن يحظى غياب الدكتور عبد الله عبد الدايم بالاهتمام الذي يستحق، ولن تقطع الفضائيات العربية برامجها، ولن تبرز الصحف العربية خبر وفاته في صفحاتها الأولى، ولن يستل كتاب صفحات الرأي اقلامهم كي يقرظوا نتاجه المميز الذي اعطاه معظم سني عمره، فأصدر كتباً عديدة يحاور فيها المختلفين معه حول العروبة، فكرة وعقيدة وهوية، بغير تعصب وبغير تشنج ينتهيان بتصنيف المختلف »جاسوساً« او »عميلا لاسرائيل«.فعبد الله عبد الدائم عاش لأفكاره، فقرأ كثيراً وناقش كثيراً وأمضى عمره مع ايمانه بعروبته. شغلت »العروبة« اهتمام عبد الله عبد الدايم دائماً: كان يقرأ في الواقع أن هذه »الاقوام« المتناثرة على امتداد الارض بين المحيط والخليج تعيش البؤس ذاته، مشتتة، مفقرة، مضيعة، مهانة، مستغلة، مقهورة، محكومة بالمستعمر الاجنبي او بالمستبد الداخلي، الذي قد يبدأ ضعيف الارتباط به، لكنه غالباً ما ينتهي »عنده«: هو يحطم مجتمعه تاركا للاجنبي ان يستوعبه او يعيد احتلاله بلا أساطيل وقوات غازية.وببساطة توازي البداهة، رأى عبد الله عبد الدايم في الاحتلال الاسرائيلي لفلسطين حافزاً اضافياً لتلاقي »الدول« المحيطة التي أُسقطت عمليا، حين تم التخلي عن فلسطين للاسرائيليين بحماية الاستعمار البريطاني، ومن خلفه الغرب والشرق جميعا.كانت المعادلات واضحة في ذهن المفكر الذي تخرج من جامعات فرنسا، ودرس التجارب الاوروبية، وقرأ حالات النهوض الاقتصادي الاجتماعي، التي من شروطها تقارب الدول المتماثلة في طموحاتها واحتياجاتها وتغليب المصالح على العداوات المعتقة، والاستقواء بضرورات الغد على معيقات الأمس…ثم انه كان يرى ان وجوه التكامل بين هذه الكيانات العربية التي يصعب القبول بمعظمها كـ »دول«، أقوى بما لا يقاس من المعوقات وهي بمعظمها تتراوح بين اغراض الطغاة من حكامها الضعفاء امام الاجنبي، والقاصرين عن معالجة هموم مجتمعاتها، وبين مطامع اسرائيل التوسعية بوصفها حارس المصالح الاستعمارية من موقع الشريك…. كل هذا قبل ان »يختار« بعض المتحدرين من صلب »البعث« الذي انتسب اليه عبد الله عبد الدايم وحاول اغناء فكره باجتهاداته ودراساته، الدبابة بديلاً من الحزب للاستيلاء على السلطة بذريعة تقريب الموعد مع الوحدة، فكانت النتيجة اغتيال الوحدة وتكريس الانفصال بين الكيانات القائمة، التي دفع الخوف القيمين عليها الى طلب الحماية من مخترعي الكيانات والمستفيدين من انفصالها الى حد الاحتراب.ولقد قارب الدكتور عبد الله عبد الدايم السلطة، أحياناً، لكنه سرعان ما كان يعود الى طلابه في جامعات الوطن العربي، مشرقاً ومغرباً، او الى بعض المؤسسات الدولية، ومنها اليونسكو، ليحافظ على نظافة أفكاره، خصوصاً ان تجربة تسلم الاحزاب ذات الشعار القومي للسلطة في اكثر من بلد عربي، انتهت بنتائج مأساوية.وفي بعض كتبه تطل الدروس المستفادة من تلك التجارب السلطوية البائسة التي كادت تغتال العروبة بذريعة حماية الحكم المعادي بطبيعته الدكتاتورية للشعب والأمة وأحلام الوحدة والحرية والاشتراكية جميعاً.لقد رحل واحد من أساتذة الجيل، ممن عملوا في يومهم بصمت من اجل مستقبل عربي أفضل. وبالتأكيد فان أفكار عبد الله عبد الدايم ستكون في المستقبل.من أقوال نسمةقال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:لا تندم ان أعطيت حبيبك كل قلبك، فتصرف كأنه يريد أكثر. انك بعطائك تكمل نقصا فيه ليغدو جديراً بك. المحب طماع… والحب بحر بلا ضفاف، ومن يعطِ يزدَد سمواً وغنى، فأَعط ولا تخف، لان جنة الحب ستستعيد الخائف على حبه من حبه.

Exit mobile version