طلال سلمان

هوامش

أدونيس ينفي الجميع ليؤكد نفي نفسه
يبدو أدونيس وكأنه في تنافس دائم مع ذاته: كلما أنجز عملاً تصدى لإكماله ولو بنقضه، وكلما أبدع شعراً جديداً تفرغ لقصيدة جديدة لا تستهدف تجاوز ما أبدعه فحسب بل ولترسم أفقاً جديداً للتحدي، تحدي الذات قبل الآخرين. في النثر كما في الشعر، في السياسة كما في الفن، في ما يتصل بالمجتمع وقيمه كما في ما يتصل بالانسان وتحولاته.
انه في قلق ابدي، لا يقبل ان يفترض الناس او ان يفترض هو ذاته انه قد وصل ـ اخيراً ـ الى اليقين فاستقر معه وعليه. إنه المتحول أبداً ولو افترض انه قد انطلق من ثابت. انه يترك لأفكاره، المكتنزة بثقافة العين والقلب، التجربة والمعايشة، وقبل ذلك كله وبعده السفر، أن تشكل ذاتها… أن تنتقل من طور جنيني، كخاطرة، الى مشهد له إيحاءاته العديدة، ثم يعيد غزل المشهد عبر إيحاءاته، نثراً كما الشعر، او شعراً كما النثر، فإذا الصورة تستولد صوراً تتكامل عبر تدخله الحثيث من أجل تجاوز الذات، حتى إذا ما استقرت على صيغتها الأخيرة نقضها وباشر إعادة البناء من جديد دون ان يضيع عن الوجهة التي قرر ان يقصدها بوعي يكاد ينفي ذاته ببراءة طفولية يحسد عليها.
كل ما يفعله أدونيس بقرار شخصي واع منه، اسمه، صيغة شعره، اسلوب نثره، تحولاته المفتوحة دائماً على التحول، »موطنه«، هويته، وإن ظلت نقطة البداية محافظة على اسمها وعلى موقعها الجغرافي: »قصابين« فاتحة المنفى، دنيا وفناً، ثقافة وعلاقات، وهو الذي حفظ القرآن غيبا وهو في سن الثانية عشرة وتعلم الخط والقراءة في الكتاب تحت شجرة في الهواء الطلق.
»كان عليّ أن أكون نفسي. أن أنفيها من هذا المنفى«
وهكذا انتسب ادونيس الى الحزب السوري الاجتماعي طلبا للعلمانية التي افترض انها طريق التحرر من واقعه المزري في بيئته المتخلفة، والتي لم تكن »الدولة« تعترف بها الا كملحق: »لا الخارج بيتي والداخل ضيق عليّ«
الاسئلة لا تنتهي في مجموعة المقالات ـ الخواطر ـ التهويمات ـ الالتماعات التي جمعها ادونيس في كتاب اعطاه اسم »رأس اللغة ـ جسم الصحراء«، بادئا بالتساؤل عن موقع ماضيه ناظرا اليه من المنفى المتحرك: أهو بعض ذكريات تمسك بك الى الجهة الاولى من طرف الهاوية ام أبعد من ذلك..«
بعدما »اختار« عبر انتمائه الحزبي »الامة السورية« بينما اختار غيره »الامة العربية«، انتبه هذا القَلِق أبداً ان »هذه الامة لا تقبل أحداً الا اذا التهمته.. لا تنتظر أي شيء. لا يفاجئها شيء. ترسمها المصادفة، وجراحها لون اول في هذا الرسم«.
الحرية هي الهاجس المسيطر على أدونيس الذي لا يتعب من تحريك كل مصادر القلق في رحلته المضنية بحثا عن الذات… فهو لا يشعر أصلاً ان له بيتاً، بل إن البيت عنده فاتحة المنفى. والبيت حيث يقيم الانسان بحرية، ويفكر ويكتب ويعبر بحرية، وتتفتح طاقاته بحرية… فهناك »بيته ـ وطنه«. الوطن فكرة.
ظل المتنبي يطل من كل ما كتب وسيكتب ادونيس. فهو يتمثله شخصاً قبل الشعر، ولعله في الشعر يحتفظ به استاذا وناقداً ورائداً، متجاوزاً كل تأثير الثقافة الفرنسية والثقافات الأخرى المترجمة التي قدر له ان يطلع عليها او يأخذ منها.
فالمتنبي عاش هو الآخر، داخل الغربة. عاش وكتب وارتحل الى الامام، في المخيلة، لا كي يصل، بل كي لا يصل: »أنا في أمة، تداركها الله، غريب…« كانت اللغة وطنه الحقيقي. بيته الحميم. وشعره قطيعه وانشقاق. فهو مليء بالتمزق والانتهاك والمخالفة والحيرة والمرارة والتصدع والترحل والنسخ والفصم«.
يعترف ادونيس انه كتب »الكتاب« مرتديا قناع المتنبي.. وأن ذلك »الكتاب« انما هو نشيد داخل غربته القديمة وداخل الغربة الحديثة المتواصلة. وأنه محاولة اولى لجعله »ناطقا«.
مع المتنبي وعبره تأتي اللغة: »اللغة العربية، هنا، لغتي. لغة انتمائي الانساني والثقافي، هي مدار هذا المكان، وهي طينه والأفق ومادة المعنى. وهي فضاء التمرد وسماء الحرية. الوطن هنا ذائب حاضر في المنفى. والمنفى هنا ذائب مقيم في الوطن«.
لا يتعب أدونيس من تأكيد تمرده على الثابت: مكانا، بيتا، إطاراً، قافية، اسلوب كتابة، رؤية، قيماً، أفكاراً. لا ثابت عنده ولا مقدس: »لن تعرف نفسك حقا الا اذا خرجت منها. هل تقدر ان تخرج؟«. وبالطبع فإن قلة من يخرجون. و»الهجرة مدرسة في أحضان التعب.. وأنت في المهجر، إليه او منه، محكوم بالحرام، تعود الى سماع الحكم بأرغن الدم«.
ولان أدونيس قرر ان يكون في الخارج، فهو ينظر الى العرب فيراهم من داخلهم فيفزع من واقعهم: كل ما حلم به العرب، وكل ما خططوا له انتهى الى نقيضه تماما«.
ومع استذكاره ان العرب يتباهون بأنهم قد اخترعوا الصفر فإنه يجدها فرصة اضافية للسخرية منهم بمرارة: حمدا للصفر! الصفر القومي! انه ابتكارنا، ويكاد الآن ان يكون مجدنا القومي العربي الوحيد.
ولانه يكره »الثابت«، دينا او عقيدة او انتماء او هوية، فهو يعبر عن ضيقه بالارض التي أنبتته: »وضعتنا الكتب المقدسة في ارض مقدسة، ليست الا سجونا مقدسة. لك القداسة ايتها الكتب ايضا وأيضا..«.
يحوم طيف المتنبي حول كل ما ينتج أدونيس، شعراً ونثراً، وإن اتخذت مغامراته بداراً بعيداً عن »السلطة« التي أحرقت المتنبي، الا انه كثيرا ما يستذكر معه ابا العلاء المعري: رهين المحبسين. وفي تقديره ان المعري قد سافر في العالم ورآه وكان بين المُبصرين. فأنت في الاقامة أعمى عن العالم، لكن هل السفر يجعلك بصيرا«.
أدونيس ينفر من كل ما في الواقع العربي: الامكنة، الانظمة، الأديان، الاحزاب، العقائد، التقاليد… ومن هنا فإن المنفى مستقر. انه يريد ان يصنع حياته. ان يبتكرها ويرفض ان يأخذها معطاة له على نحو جاهز ومسبق.
ان العربي، في تقديره، يولد منفياً نفياً مزدوجاً: تراثيا ودينياً.
وأدونيس ليس مقاوماً للخطأ. لا ينتدب نفسه مناضلاً من اجل التغيير. انه يوصّف حالتنا من على بعد كاف. انه يكشفنا، يفضحنا، يسخر من نمط حياتنا. يكاد يتبرأ منا. يعتبرنا عبيداً لايمان ثابت، لانظمة ثابتة، لقيم ثابتة.
انه ينظر الينا من علٍ، وهو يجتاز بلادنا »العربية« طولاً وعرضاً، بالطائرة من على علو كاف لجعله بعيداً عن »أذرعة الانظمة«… وهو يجول بين المنافي النظيفة، الأنيقة، التي تمتلك قصوراً وقاعات فخمة للفرق السيمفونية، ومتاحف ومعارض وشوارع نظيفة مسورة بالورود، ولا يحرس الشرطي فيها ظلام الليل ولا هو يقبض على نور النهار. إنه يستمتع بمنفاه: يزور معارض الكتب، يقرأ شعره على من يحتاجون الى مترجم تقدم له ترجمة للإنتاج بحيث تقربه اللغة الثانية من المستمع اليه. وتبعده عن صاحبه… لكنه مع ذلك يلقى الترحيب بتصفيق متكرر.
انه يخرج منا وينظر إلينا من خارجنا. وهو يكتشف الواقع الذي نعيش في أسره، لكنه يقف بعيدا ـ او في الأعالي ـ ويعيّرنا بواقعنا، كأنما نحن اقل رفضا له منه: أُلغيت فكرة الوطن، وحل محلها النظام. أُلغي النفي سياسيا، وحل محله القتل، بشكل أو بآخر«. هذا صحيح، لكن ماذا يهم من ينظر الى هذا الواقع من خارجه، من الطائرة التي تختزل العالم، او من المنافي الأنيقة؟
من قال ان الذين في الداخل هم اقل طموحاً وأقل رغبة في التغيير من ادونيس. لكن من الصعب على أمة بكاملها ان تقتدي بمن خرج من اسمه الاول، علي، الى اسم ثان، ادونيس، وتعلن حروبها على نفسها على طريقة ادونيس ضد علي.
ربما يكون حلم التغيير ان يقوم به علي باسمه وبقدراته وبحقه، بوجعه وآلامه، وعذاباته وجراحه وقهره… وكلها حــوافز للتغيير الذي قد يتبدى موعده بعيداً، ولكنه يستــحق النضال أساساً لأنه بعيد، كالحلم، وبهي كالحــكم، ولكن له بعضاً من وجوه الذين لم يهاجــروا ولم ينفوا أنفسهم، ولم يتباهوا ـ من ثم ـ بأن منافيــهم أجمل من أوطاننا؟!
تجاوز أدونيس دور المحرّض. صار خارجنا، وصار كلامه اقرب الى التشهير.. وليس التشهير سلاحاً فعالاً في التغيير، وفي تحويل الاحلام الى واقع يمكن ان يعيشه اهالي قصابين، ذات يوم، والتي تكون ميتة، ولسوف يستولد ناس هذه الأرض.

كلمات حسين حيدر للريح والأرض… والمقاومة!
من زمان غاب عنا صوت شاعر منبري، عربي العبارة والعقيدة، يقظ الوجدان حتى لقد نصّب نفسه حارساً بالقصيدة لعروبة الأمة ونضالاتها وحقها في الوحدة، لا سيما وهي مخضبة بدماء الشهداء الذين كتبوا الافتتاحية لسيرة النصر بالمقاومة ومجاهديها الأبرار.
لم يكن المرض وحده السبب، ولا الشيخوخة، لكن القدر ابتلى هذا المحامي القدير الذي امضى حقبة من عمره في أقطار الخليج، يعمل بلا تعب، بفاجعة مشهودة: فقد سقط وحيده »رواد« مع من سقط من الشهداء في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط 2005.
مع ذلك فقد تحامل حسين ابو فريد حيدر على مصابه الشخصي لاجئاً الى الله وصبر أيوب وديوان الخنساء، حتى اذا جاء النصر المخضب في الحرب الاسرائيلية 12 تموز ـ 14 آب ،2006 استعاد صوته كما استعاد شعره ألقه ومضى ينشد الناس سيمفونية النصر وينظم للمقاومة أناشيدها.
لقد جاءه العوض في الصورة الأبهى التي يشتهي: نصراً للأمة على عدوها الذي كان لا يقهر فقهره فتية آمنوا بربهم فزادهم هدى، لا سيما وقد احتضنهم شعبهم جميعاً، وشعوب الأمة دون حكامها الذين فوجئوا ففجعوا بما وقع، وصار لخوفهم على مستقبل طغيانهم مصدر جديد وأكيد: لقد ذهب ليل الهزيمة التي كانوا بها يحتمون، وها هم ـ كما العدو الاسرائيلي ـ يستشعرون الخطر على مستقبلهم بعد زلزال الحاضر.
في ديوانه الجديد »كلمات للريح والأرض«، وهو الجزء الثاني من المجموعة الكاملة، يقدم حسين حيدر بعض ذاته، بعض تاريخه، بعض تدفقه الشعري حزنا على اصدقاء غادروا بغير وداع، وفخراً بشهداء سقطوا في الميدان وما بدّلوا تبديلاً، وتقديراً »لآخر القلاع، وإلى المبدعين الصامتين في الوطن الكبير الكاتمين أصواتهم او المصادرة أصواتهم«.
إذا ما تجاوزنا بعض أروع قصائده في المقاومة وقائدها السيد حسن نصر الله، ومعظمها قد نشر في »السفير«، كان علينا ان نتوقف وأن ننحني امام حزن الثاكل وحيده:
»رحيلك يا رواد قطع مطلق/ كما قطعتني قسوة من زمانيا/ فكيف يعزّى والد بوحيده/سلامتكم عوض، عزيز عزائيا«
وآل حيدر يمتدون سكناً ما بين اللبوه وبعلبك وبدنايل، ومن قبل تمددوا في السياسة ما بين بيروت ودمشق وبغداد، اما في الشعر فكان منهم في كل عشرة سبعة شعراء بينما الباقون يستعدون…
وحتماً على ابن حيدر ان يقف في حضرة بعلبك وقلعتها متعبدا:
»يا كعبة الفن والإبداع هل حجر/ يقول لي في حنان كيف اعتمر«
ولأن حسين حيدر يمسك على قوميته كما يمسك المؤمن بالجمر فهو قد حيا أطفال الحجارة في فلسطين الذين وجد فيهم بعض ملامح المستقبل:
»جيل الحجارة يكفي زندكم شرفا/ أن السلاح غدا من صنع ملتزم/ إن قصرت ضربة المقلاع عن هدف/ شعت عيونكم كالبرق في الديم«
قصيدة الديوان هي التي قالها في رجل القرن، استاذ الاجيال، احسان عباس، ولانه لم يقل كل ما يريد فيها فقد أتبعها بثانية:
»يا شاعر الحب ويل للذي حرقت/ أيامه العشق ويل للذي عشقا«.
أما ناجي العلي وحنظلته فلهما الصدراة، والقصيدة أشبه بالنبوءة:
»ارسم لي يا ناجي وطنا/ يبكي فيه غير العاشق/ وليرجم حنظلة زمنا مسبيا من زمن مارق«
اضافة إلى قصائد التحية الى كمال جنبلاط والخميني وسناء محيدلي وتل الزعتر والشيخ سليمان اليحفوفي والعديد من الاصدقاء والأقارب تختفي الحماسة وتتدفق العاطفة رقراقة حين يجيء دور الكلام عن الأحفاد… والى حفيدته »تكي« يوجه هذه الوردة:
»نشتاق الوردة في المنهل/ تسأل/ لم خليت الصبح الأجمل/ يرحل«
في الإهداء كتب حسين حيدر يقول انني عرفت شعره الملتزم فظنته مقتصراً عليه… وها قد عرفت من الديوان الثاني »كل« الشاعر، وإن كنت قد احتفظت لنفسي بقصائده العائلية التي فيها العاطفة مصفاة والشعر رقراق كمياه رأس العين، أيام كانت للرأس عين.

مــن أقــوال نســمة
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
ـ لا تنتظر ان يعطيك حبيبك. انه بدوره ينتظر ان تعطيه. اذا جاءك حبيبك خذه، او اتركه يأخذك، فالتردد يقتل الحب بسوء الظن. الحب ان تكون حبيبك. الحب ان يكونك حبيبك. الحب ان تكونا الزمن ماضياً وحاضراً ومستقبلاً.

Exit mobile version