طلال سلمان

هوامش

لقاءات أقل، حب أكثر.. مع محمود درويش!
لم يترك لنا محمود درويش الكثير لنقوله فيه وعنه. لقد قال ذاته بكل تحولاته، انكساراته، زهوه، مرارته، دواوين عشقه، أشواقه، رغبته في الحياة التي جعلها حياتين، ثلاث حيوات أو أربعاً، بل خمساً، بل ألفاً… فكلما كان يحس بقرب النهاية ابتدع حياة جديدة وبدأ ينظمها أشعاراً وأقماراً وعاشقات وباقات ورد وسخرية من الموت واستغراقا في تحديه ثم الاعتذار منه، فإذا ما قبل الاعتذار انقلب يصف جنازته بكل ما فيها من مراسم، انتهاءً بالشتائم التي سيكيلها له الشعراء!
قرر محمود درويش أنه »الكل في واحد«. هو فلسطين، بالقدس ويافا وحيفا وبيت لحم وجنين ونابلس وطولكرم، بالبيرة أولاً حتى لو مُسحت عن وجه الأرض، فهو الأرض وأهل الأرض، وهو من يسمّي الناس والمدن والقرى. ثم إنه الشام ومصر والقطار الذي لم يتبقّ منه إلا قضبان السكة الحديد وصدى دوي صفارته العابرة المسافات على أجنحة الطيور المهاجرة. هو رام الله السجن والمكتب والديوان والمقبرة. هو المغني والغناء، هو الحادي وصوت البكاء في حنجرة الناعي. وهو دموع الثكلى التي ترفض بعقلها قبل قلبها أن يكون قد رحل وخلاها.
قرر محمود درويش أنه فلسطين التي كانت تسمى فلسطين وستبقى تسمى فلسطين، وأنه بلاد الشام جميعا، حيث يكون الموت حقاً نائماً. وحيث أرض الحلم عالية ولكن السماء تسير عارية وتسكن بين أهل الشام، وأنه مصر التي تجلس خلسة مع نفسها فتكتشف أن لا شيء يشبهها وترفو معطف الأبدية المثقوب من إحدى جهات الريح، وهو تونس »التي أرجعتني سالماً من حبها«، وهو العراق إذ يتذكر السياب »فكن عراقياً لتصبح شاعراً يا صاحبي«، وهو طريق الساحل، طريق المسافر من.. والى نفسه، جسدي ريشة والمدى طائر، طريق السنونو ورائحة البرتقال على البحر، طريق طويل بلا أنبياء فقد آثروا الطرق الوعرة.. طريق يؤدي الى طلل البيت تحت حديقة مستوطنة،
وقرر محمود درويش، ايضا، أن الموت يعشق، فجأة، مثلي، وأن الموت مثلي لا يحب الانتظار! وأن كل قصيدة أم/ تفتش للسحابة عن أخيها، قرب بئر الماء: يا ولدي سأعطيك البديل، فإنني حبلى، وكل قصيدة حلم: حلمت بأن لي حلماً سيحملني وأحمله الى أن أكتب السطر الأخير، على رخام القبر: نمتُ لكي أطير…
[[[
لكأنه كان يعرف كل شيء عن الأرض وناسها، عن البلاد من قبل أن يزورها، عن النساء قبل أن يعشقنه، عن الرجال قبل أن يتحطموا على جدران العبث أو الفساد أو اليأس أو الانتحار. ولقد ميز دائماً بين الذين ولدوا شهداء وبين الذين غادروا ليكونوا في الغد.
يختلط فيه المؤرخ والراوية والشاهد والشهيد، الطفل الذي ولد في قلب الشراسة/ كان عليه أن يقاوم محوه، أن يؤكد أنه باق بأرضه وإن مُسحت عن سطحها قريته، وباق بوطنه وإن حاولوا تبديل هويته علمه واسمه بالقهر. كان عليه أن يكون وطنه فكأنه في الصحو والغفلة، في الحلم كما في الكابوس.
قاس مع نفسه ومع الآخرين. يرى نفسه فلسطين، فيحاسبها إن ابتسم أو بكى/ في علاقاته بالآخرين. ولأنه أطل على الأفق الإنساني الأوسع فقد تجاوز »المحلي« فيه وحاول أن يقدم لفلسطينه وللفلسطيني الصورة التي لا تثير في العالم الشفقة لأنه مسكين، أو الذعر لأنه إرهابي، أو السخرية لأنه متخلف.
كان العالم يقبل »الآخر« الذي حوّل الخرافة الى دولة من حديد ومشانق ونار، ولا يقبله هو الحقيقي بلحمه ودمه وأرضه وتاريخه الذي لا يمكن فصله عنها.
[[[
ولقد عرفت محمود درويش أكثر مما رغب وأقل مما أحببت. تسكعنا قليلا وتجادلنا كثيرا. تقاسمنا حب البعض من الأصدقاء، وتناكفنا ونحن نتبارى في احتقار الأدعياء وطلاب الزعامة ولو على أطلال الكتابة. تجادلنا في القاهرة على مصر وعبد الناصر. ثم اكتشفت »خيانته« عندما حمل إلي صديق قصيدته التي لم تعرف كثيرا في من قال فيه: »نعيش معك، نسير معك، نجوع معك، وحين تموت نحاول ألا نموت معك. لماذا تموت بعيدا عن الماء والنيل ملء يديك؟ لماذا تموت بعيدا عن البرق والبرق في شفتيك؟ نراك، نراك، نراك، طويلاً كسنبلة في الصعيد، جميلا، كمصنع صهر الحديد، وحراً، كنافذة في قطار بعيد، ولست نبياً، ولكن ظلك أخضر! أتذكر كيف جعلت ملامح وجهي/ وكيف جعلت جبيني وكيف جعلت اغترابي وموتي أخضر، أخضر، أخضر؟!« بداية ثم يختمها بقوله: »ولست نبياً، ولكن ظلك أخضر.. نعيش معك، نسير معك، نجوع معك، وحين تموت نحاول ألا نموت معك.. ففوق ضريحك ينبت قمح جديد، وينزل ماء جديد، وأنت ترانا نسير، نسير، نسير«.
.. وبكينا معاً ونحن نودع إبراهيم مرزوق المبدع مثله، والذي عشق الفنون جميعاً وأعطاها عصارة عمره وألوانه ورؤاه. وكان، مثل محمود، يحس ان وجوده قليل فسرّع ريشته وريشة العود وعلّمنا مع الرسم الغناء والموسيقى وعشق الأرض وياسمينها:
»كان إبراهيم رسام المياه، وسياجاً للحروب، وكسولاً عندما يوقظه الفجر.
ولكن لإبراهيم أطفالاً من الليل والشمس، يريدون رغيفاً وحليبْ؟
»ما الذي أيقظك الآن، تمام الخامسة؟
»كيف تعرف؟ هي بيروت الفوارق/ هي بيروت الحرائق/ ما الذي أيقظك الآن تمام الخامسة؟ إنهم يغتصبون الخبز والإنسان منذ الخامسة.
»كان إبراهيم رساماً وأبْ/ كان حياً من دجاج وجنوب وغضب/ وبسيطاً كصليب/… في تمام الخامسة، كان إبراهيم يستوي على اللون النهائي/ ويستولي على سر العناصر/ كان رساماً وثائرْ/ كان يرسم/ وطناً مزدحماً بالناس والصفصاف والحرب/ وموج البحر والعمال والباعة والريف/ ويرسم/ جسداً مزدحماً بالوطن المطحون في معجزة الخبز/ ويرسم/ مهرجان الأرض والإنسان خبزاً ساخناً عند الصباح/ كانت الأرض رغيفاً / كانت الشمس غزالة/ كان إبراهيم شعباً في الرغيف… وهو الآن نهائي.. نهائي! تمام السادسة. دمه في خبزه. خبزه في دمه. الآن، تمام السادسة«.
… وبكينا معاً حين غادرنا أمل دنقل، الذي جاءنا في بيروت عله يجد فيها القاهرة التي ضُيّعت، وفلسطين التي ضُيّعت، والقصيدة التي ظلت تعرف أهلها، فلما اكتشف أن مصر أوسع من أن يغادرها وأبهى من أن ينساها عاد ليموت فيها ومن أجلها:
»واقفا معه تحت نافذة/ أتأمل وشم الظلال على ضفة الأبدية
قلت له: قد تغيرت يا صاحبي… وانفطرت!
فها هي دراجة الموت تدنو/ ولكنها لا تحرك صرختك الخاطفة..
»قال لي: عشت قرب حياتي/ كما هي/ لا شيء يثبت أني حي/ لا شيء يثبت أني من الغياب يرف كزوجي حمام على النيل/ ينبئنا باختلاف الخطى فعل المضارع الجنوبي يحفظ طريق الصعاليك عن ظهر قلب.. ويشبههم في سليقتهم وينام على درج الفجر: هذا هو البيت، بيت من الشعر، بيت الجنوبي… قرآنه عربي، ومزموره عربي، وقربانه عربي.
وفي قلبه زمنان غريبان، يبتعدان ويقتربان: غد لا يكف عن الاعتذار: نسيتك لا تنتظرني، وأمس يجر مراكب فرعون نحو الشمال: انتظرتك، لكن تأخرت«.
[[[
ضحكنا حتى حدود البكاء ونحن نستعرض الملوك والرؤساء والأمراء والشيوخ الذين يحكمون شعوب هذه الأمة الممنوعة من أن تكون.
قال يصف من التقى، وقلت أصف من التقيت.. وبعدما هدأت موجة الضحك من الذات سألني: هل تشاركني في كتاب عنهم؟! ذلك السلطان الذي لا يحب الأطفال، وذلك الأمير الذي يعوض عن قصره بطول يده، وذلك الرئيس الذي يتباهى بأن الخصية الواحدة لا تمنع الإنجاب، وذلك القائد الذي يدّعي لنفسه وراثة الرسول العربي، وذلك الأمير الأبله الذي عرف بالسمع أن ثمة خللاً في أجنحة الطائرة.
وصلنا الى بعض الأسماء المحظورة، التفت إلي فتطلعت الى الناحية الأخرى، فقام الى الراديو يبحث عن محمد عبد الوهاب والأغنية التي يحب »كل ده كان ليه«؟! وحين عبرت فيروز أوقف الإبرة ورفع الصوت الى المدى الذي لا تحبه السيدة وعاد يفرك كفيه: وجدت ما يعوّضني عن سماع ترّهاتك!
قلت: نتحدث عن العواصم، عن البلاد، عن أهلها… عن العشق!
ونظم محمود ديواناً جديداً.
[[[
دخل عليّ ذات يوم وفي يده قصيدة. استغربت. لم يكن، في العادة، يقبل إلحاحي بالنشر في »السفير« أولاً… فالشعر عن لبنان الحرب الأهلية مصدر خطر، والشعر عن مصر يجب أن يُنشر في مصر، وعن الشام في الشام، وعن فلسطين في أربع رياح الأرض.
كانت القصيدة عن »عودة الأسير«: جندي مصري وقع في الأسر في سيناء، ثم استطاع أن يهرب فقطع الصحراء مشياً على قدميه في الليل، أما النهار فللطائرات.. وحين أطل على مصر أنشد يقول:
»النيل ينسى.. والعائدون إليك منذ الفجر لم يصلوا
هناك حمامتان بعيدتان، ورحلة أخرى، وموت يشتهي الأسرى
.. وهذي فرصتي، يا مصر، أعطيني الأمان
لأموت ثانية، شهيداً لا أسيرْ،
.. قد طاردوك ـ وأنت مصر ـ وعذبوك ـ وأنت مصر
»هل أنت يا مصر… هل أنت مصر«.
… وعندما عاد، مرة، من زيارة لعدن تحت حكم الحزب الاشتراكي كتب يقول:
»ذهبنا الى عدن قبل تاريخنا فوجدنا اليمن
حزيناً على امرئ القيس، يمضغ قاتاً ويمحو الصور
أما كنت تدرك يا صاحبي، أنّا لاحقان بقيصر هذا الزمن«!
أما الشام فكان كلما عاد منها، اشتهى أن يعود اليها. كان يطلبها لذاتها وبذاتها، ويذهب اليها بناسها وحسرته بردى:
»بكى الناي، لو أستطيع ذهبت الى الشام مشياً كأنني الصدى،
»ينوح الحرير على ساحل، يتعرج في صرخة ليل لم تصل أبدا،
يا رمح، صمت المدى، حين يصرخ: يا شام، يا امرأة هل أحب وأبقى؟ (وبكى الناي. لو أستطيع البكاء كناي.. عرفت دمشق![)
في اللقاءات الأخيرة، كما في الاتصالات الأخيرة، كان الموت ثالثنا دائماً.
كان واضحاً أنه قد دخل معركته مع الموت مواجهة.. لذا كان يخاف أن ينام حتى لا يأتيه في غفلة. كان يريد أن يواجهه في عينيه! لم يكن دون كيشوت. لم يكن عنترة العبسي. لكنه كان قد سئم لعبة الاحتمالات:
» ـ يحبونني ميتاً ليقولوا: لقد كان منا، وكان لنا
سمعت الخطى ذاتها منذ عشرين عاماً، تدق على حائط الليل، تأتي ولا تفتح الباب.
لكنها تدخل الآن ويخرج منها الثلاثة: شاعر، قاتل، قارئ..«
وكان يفترض أنه، وقد قرر بنفسه موته فإنه سيختار لونه:
»كيف تطلب موتك؟! أزرق مثل نجوم تسيل من السقف«
ولأنه يكره الرثاء بقدر ما يحترم الشهداء، فقد أعطى لنفسه الحق بحراستهم:
»عندما يذهب الشهداء الى النوم، أصحو وأحرسهم من هواة الرثاء
أقول لهم: تصبحون على وطن، من سحاب ومن شجر، من سراب وماء«.
[[[
اختلفنا، غير مرة، في نقاشنا السياسي حول المسار السياسي للقيادة الفلسطينية. كنت أكثر حرية، وكان أكثر حرجاً. إن له اعتراضاته، لكن ماذا تراه يفعل وقد تداخلت الهوية والأرض والقضية والسلطة؟ لقد بات متعذراً وضع الحدود بينها. كذلك فقد بات العجز فاضحاً.
وليس من السهل الادعاء أن استيلاد بداية جديدة أمر ممكن. تلك مهمة أجيال جديدة. وتلك مهمة تحتاج الى زمن إضافي لا نملكه. ثم إن صورة العدو تتبدل في ضوء قدراتك: اذا كنت قوياً كفاية صار قبولك بالصلح تسامياً منك وعفواً كريماً عمن أخطأ بحقك! أما اذا كان الضعف يتهدد هويتك في يومك، فكيف يمكنك أن تستنقذ منها ما أنت بحاجة اليه في غدك؟
ثم إن محمود درويش يعرف إسرائيل من داخلها. يعرف أحزابها ومنظماتها. يعرف عن جيشها وعن مخابراتها. يعرف عن »العرب« فيها. ويعرف الفروق بين اليهود الأصليين واليهود الذين استوردوا من بعض أوروبا، ويعرف من هودوا ليصيروا إسرائيليين.
في يقين محمود درويش أن الحق لا يضيع والأرض لأصحابها مهما جرى، وأن مسار التاريخ واضح، بشرط أن يكون أهله حاضرين:
»على هذه الأرض ما يستحق الحياة. على هذه الأرض سيدة الأرض، أمّ البدايات، أمّ النهايات. كانت تسمى فلسطين. صارت تسمى فلسطين. سيدتي، أستحق، لأنك سيدتي، أستحق الحياة«.
لفلسطين الحياة، ومحمود درويش منها ولنا ومعها وفيها.

مــن أقــوال نســمة
قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
ـ أعطاني محمود درويش لغة الحب. وهي ستبقى معي. لقد ارتقى بلغتي، فصرت أعرف كيف أقول لحبيبي إنه أرضي وسمائي وقمري والقبّرة التي تجيء مع الحصاد والحسون الذي يغرّد ليطرب حبيبته.
محمود درويش يسكن في حبي، من قبل، وسيبقى فيه الآن… فهو غنـائي وشجني. إنه اسمانا وقد اجتمعا.

Exit mobile version