طلال سلمان

هوامش

محسن العيني يعيد كتابة اليمن… على الهواء!عرفت محسن العيني بألقاب عديدة وفي مناصب »متنوعة«: في البدء كان »المناضل« في صفوف حزب البعث العربي الاشتراكي، نهاية الخمسينيات وعشية إقامة دولة الوحدة بين مصر وسوريا التي كان بين شروطها حل الحزب…ثم مع تفجر اليمن بالثورة في 26 أيلول 1962 اطل هذا الطليعي من اليمنيين الذي اتيحت له فرصة الدراسة في بيروت، بداية، ثم في القاهرة قبل ان »يعاقب« بمنحة دراسية في باريس، من موقع وزير الخارجية في العهد الذي انهى جاهلية عصر الامام احمد حميد الدين وأعاد اليمن الى خريطة الدنيا.من الوزارة التي لم تعمر طويلاً، وبالاعتماد على الحكمة التي هي يمانية اختار محسن العيني ان يذهب بعيداً عن صنعاء المضطربة بزلزال التغيير الذي كان لا بد له من قوة إسناد فجاءته من مصر جمال عبد الناصر، وهكذا اختار ان يكون رجل الثورة في الامم المتحدة ليستعيد مقعد اليمن فيها، مستبدلاً اسمها وشعارها وعلمها توكيداً لقيام الجمهورية وانتهاء عصر »المملكة المتوكلية اليمنية«.من نيويورك كان يتابع بمزيج من الشغف والقلق حركة الثورة التي قادها عبد الله السلال ورفاقه وسط تلك البيئة التواقة الى التغيير والتخلص من »إمامة الجهل والقمع« من دون ان تعرف كيف، وفي ظل غربة شبه كاملة عن العصر… وكان يشفق على القوات المصرية التي اوفدها عبد الناصر، الذي كان يعاني بعد من صدمة انفصال سوريا وانهيار الدولة ـ الحلم، خصوصاً ان السعودية قد احتضنت الامام البدر الذي لجأ إليها، والعديد من شيوخ العشائر الذين يمكن ان يكونوا »جمهوريين« في الصباح و»ملكيين« في المساء، بحسب »المزاد« المفتوح.ولأنه يحب ان يكون »الاول«، فلقد نجح في ان يكون اول سفير للجمهورية معتمد لدى الولايات المتحدة الاميركية، التي كان رئيسها آنذاك جون كينيدي وهو من حاول ان يغير في نظامه فقتله هذا النظام العاتي، بدم بارد.من واشنطن الى وزارة الخارجية في صنعاء، لكن لشهور قليلة، عاد بعدها سفيرا في واشنطن، ثم أمرته الحكمة اليمانية بأن يستقيل احتجاجاً… ليكون جاهزاً، وهو الخبير برصد التحولات، كي يتولى رئاسة الحكومة في أواخر ،1967 وبعد انقلاب الجمهوريين على رئيسهم عبد الله السلال. لكنه سرعان ما »انسحب« بهدوء ليعود سفيراً في الامم المتحدة، ثم في موسكو. وفي تموز 1969 طلب منه القاضي الايرياني، وكان قد غدا »الرئيس«، ان يشكل حكومة جديدة، فوجدها مهمة مستحيلة. وهكذا عاد سفيرا لليمن في الامم المتحدة.المحطة الفاصلة كانت في شباط 1970 حين شكل حكومته الثانية، واعلن انتهاء الحرب، وباشر المصالحة الوطنية، عبر »التفاهم« مع السعودية طبعاً، مع ضمان عدم اعتراض مصر. لكن هذه الحكومة لم تعش الا سنة واحدة… وبعد ستة اشهر فقط كلف بتشكيل الحكومة التي سيقدر لها ان تدخل التاريخ لانها اتخذت القرار الشجاع بمنع »القات«، وهي الآفة التي تفتك باليمن، رجالاً ونساء، اقتصاداً وزراعة، و»تلغي« احتمالات قيام الدولة.ولأن القات بعصابات المتاجرين فيه وبضعف مدمنيه وبتراخي السلطة، كان الأقوى، فقد محسن العيني السلطة وفقدت اليمن فرصة للشفاء…الرحلة طويلة حافلة بالصعاب والمفاجآت، بالانقلابات وحروب الدول، بتفتح الشهوة الى السلطة عند العسكريين، بفشل الادارة المصرية في فهم اليمن التي سرعان ما تحولت ثورتها من نصر سياسي باهر الى عبء عسكري واقتصادي وسياسي، خصوصاً ان جمال عبد الناصر كان قد صار الاضعف في نظامه، بينما طغى نفوذ »المشير« الذي خسر كل معركة عسكرية فرض على مصر ان تخوضها، عبد الحكيم عامر، معززاً ببروز دور انور السادات، وقد توليا مشتركين ملف »اليمن السعيد«.يروي محسن العيني حكايته الممتعة في كتابه الجديد الذي جمع فيه مقابلات مطولة اجراها معه الزميل احمد منصور في برنامجه المعروف »شاهد على العصر«، وكذلك الزميل خالد الحروب في برنامجه الجيد »الكتاب خير جليس«، فضلاً عن لقاءات مع بعض الصحف في اليمن وخارجها، »اصداء خمسين عاماً في الرمال المتحركة في الفضائيات والصحافة«.والحكاية ـ الرواية تكاد تلخص مأساة اليمن، بل مأساة العرب عموماً، في السعي للخروج من ليل الجهل والتخلف والقهر، بغير دليل جدي الى طريق التغيير المحقق للأماني.محسن العيني الذي، كمعظم اليمنيين، لا يعرف تاريخ مولده بالضبط، في قرية الحمامي، القريبة من صنعاء، حاول ان يكون موضوعياً في سرده وقائع الحقبة الغنية من تاريخ اليمن، التي عاشها من داخلها وقريباً منها ومن خارجها… لم ينزلق الى توزيع الاتهامات، وان كان اشار فأصاب المَقاتل في النظام المصري، وفي حركة الضباط الاحرار في اليمن، وحاول ان ينصف السلال، واكد جدارة »القضاة« والمستنيرين من رجالات اليمن (الايرياني، النعمان، الزبيري، صبره، المحلوي والدعيس، بني راجح، السنيدار، الاكوع والمطاع، الدريث والكبسي والوزير، و»ضباط البعثة العراقية« الذين كانوا من الرواد، العنسي والحورش والثلايا والبراق والمروني والسياغي والغسيل والجايفي وبيت هايل سعيد… الخ).كذلك فهو لم يغمط رجالات القبائل حقهم فذكر »بيت ابو راس، بيت الشايف، بيت ابي لحوم، القردعي، بيت الاحمر، بيت هارون وبيت دماج«.لقد اخذته العزة بيمنيته ففاخر بالجميع، بدءا بالامام يحيى والسلف الصالح من أسرة حميد الدين، وصولاً الى الضباط الاحرار، الى طلائع القائلين بالتغيير، ومنح عفوه للقبائل الذين قاتلوا مع الملكيين، واشار الى ضرورة التفاهم مع السعودية لانها قادرة على التخريب.اما الذين حكموا في الجنوب بعد استقلاله وبشعارات ماركسية متطرفة جداً بينما لا يملك الناس قُوت يومهم، وامموا حتى زوارق الصيد، والدكاكين ومصادر الرزق جميعاً، فلم يقبلهم محسن العيني ولم يغفر لهم تغربهم عن مجتمعهم، وصراعاتهم الداخلية الدموية المخيفة و»الحروب« التي افتعلوها مع أهلهم في الشمال.بين اطرف الحكايات التي يرويها محسن العيني واحدة وقعت على هامش احدى المحاولات الانقلابية، وكان هو بين المسؤولين الكبار المجتمعين في مجلس الرئاسة، حين »اعتقلوا« حيث هم… يقول: »كانت الغرفة تهتز بنا على وقع ضربات الدبابات والمدفعية. أتذكر واحداً من ضباط الصف طلبت منه ان يصحبني الى دورة المياه… وقد عرفني بنفسه وانه كان تلميذاً في المعهد العلمي بعدن، حيث كنت ادرسهم التربية الوطنية. سألته: وهل علمناكم ان تستخدموا سلاح الوطن ضد مواطنيكم؟ وهل هذا الرشاش في يدك يجعلك اقوى مني لانني لا احمل الا القلم؟!«.المهم، ان المحاولة فشلت وأبعد جميع الضباط المشاركين في الاحداث بطائرة واحدة… الى الجزائر!محسن العيني الذي يعرف أكثر مما يجب يتكلم بحساب دقيق، حتى وهو الآن خارج السلطة، مع انه ليس من النوع الذي يميل الى التقاعد.من يدري، لعل الرجل الذي يعرف متى يغيب عن المسرح السياسي ومتى يحضر يستعد او تعد له الاقدار دورا جديدا في اليمن، البلاد التي لم تعرف السعادة (عبر تاريخها الطويل) الا في اسمها!..شـجار عنـد عتبـة الجنـة..لم يعرف أي منهما كيف شجر الخلاف بينهما، فجأة.كانا يتنزهان في خميلة ارضها سندس وجدرانها ورد والاغصان المتهدلة للبواكي تكيف لهما الهواء حتى يصير نسيماً عليلاً.قالت معاتبة: ها قد أعدتك الى الجنة!قال ممازحاً: لكنك من أخرجني منها!قالت ساخرة: أيمكنك المقارنة بين جنة أنا فيها، وتلك التي كنت فيها وحدك، لا تعرف لنفسك جنساً ولا اسماً، لا متعة ولا صحبة مؤنسة.قال بنبرة تحد: كانت كل تلك الجنة لي، وأنا ملك الملوك فيها، الوحشي من الحيوانات يركع عند مروري، والاكثر شراسة يحملني الى حيث أقصد، وجميل الصوت منها يغني لي حتى أطرب، وقد ترقص لي، وقد يداعبني الاودع منها ليؤنس وحدتي.ـ لكنك كنت وحدك..ـ كانت لي الجنة كلها، وهي بمدى السموات والارض، لا يحدها عقل او خيال.ـ وانت وحدك… بغير مؤنس، بغير صديق، بغير حبيب يسعد لسعادتك ويقاسمك همك، بل ويأخذه عنك.قاطعها: وبغير من يرهقني بمطالبه ويزعجني بمعابثاته..نبرت: وبغير حب.رد بحدة: وهل أخفيت عنك حبي؟ لكن خياري كان صعبا بين الجنة والحب.هدأت فسالت كلماتها تودداً: أوليس الحب هو الجنة؟قال: أحيانا تلغي احدى الجنتين الأخرى. أتنسين انني ضحيت بالجنة من اجلك… لماذا تذكرينني دائماً بأن خياري ذاك كان خاطئاً.ـ وماذا كنت تفعل وحدك في جنة ليس فيها انسان سواك. لا يُسمعك احد الشعر، ولا ينتشي بصحبتك صديق او رفيق، خل او عشيق، محب او شريك في هواية.ـ وماذا نفعل الآن، بعدما افقدتنا الجنة غير الشجار؟ـ كنت تقول انني خير لك من الجنة مع الوحدة.ـ فلماذا تصرين على أخذي الى جهنم؟!ـ هو من أمر فأطعت، ولقد جعلتك انساناً. انطقتك بعد بكم، وفتحت عينيك على الجمال وكنت أعشى لا تميز بين الوردة والبلبل، لا تعرف الاسماء ولا الألوان ولا النغمات. لا تعرف الفرح ولا الحزن المبارك.كنت لا تميز بين الفيل والأسد، ولا بين الغزال والارنب. كنت مثل تلك القطعان من الحيوانات: ابكم، اخرس، أعشى، تنظر فلا ترى، فإن رأيت فلم تعرف كيف تقول… حتى جئتك فصرت انسانا، وصرت الآمر الناهي.ـ من اجلك طُردت من الجنة.ـ وبات عليّ ان اصطنع لك جنتك!صرخ وقد ضاق بهذا الجدل: كفى! لقد جعلت نفسك مكان الرب، ولم تتركي لي ان أكون الا رعية.تقدمت فاحتضنته وهي تهمس في اذنه: اعتذر… هيا آخذك الى الجنة مرة أخرى.مــن أقــوال نســمةقال لي »نسمة« الذي لم تُعــرف له مهنة الا الحب:ـ امنح حبيبك، بين حين وآخر، فرصة للتنفس. لا تضيق عليه برقابتك. لا تطارده بالأسئلة فتنهكه في قلب الصمت. افتح له باب القفص واثقاً من انه لن يخرج إلا قليلاً، وسيعود ليبقى.

Exit mobile version