طلال سلمان

هوامش

أمـل دنقـل مـا زال يصـرخ بنـا: لا تصالـح!
في البدء كان الحزن… اما في القراءة الثانية فقد غمرني مع الحزن الخجل! وفي القراءة الثالثة بهرتني تلك القدرة على استشفاف الغد بتفاصيله المأسوية المهينة. ومع كل قراءة جديدة كان يتعاظم خوفي من الكتابة عن »امل دنقل« لأنه رأى، في وقت مبكر، هذه الكوارث التي ستتوالى علينا مع اغتيال النصر الممكن في حرب اكتوبر ـ رمضان ـ تشرين وحتى اليوم، فتسحبنا بعيدا عن هويتنا وترمينا في بئر بلا قرار من انعدام الأهلية والتيه. كادت ارضنا تنكرنا لأننا لم نحفظها، فضلا عن انسحاقنا تحت وطأة أسمائنا التي كانت تؤكد فينا المعنى ونجتهد على نفيه منها ما دمنا لا نقدر على استبدالها او التبرؤ من دلالاتها، وهي المغتسلة بدماء من استحقوها قبلنا.
وجدت المدخل في كلمات من وداع مؤسس القصة القصيرة في الأدب العربي يوسف ادريس لذلك الشاعر الذي لم يعرف صديقاً خارج الموقف السياسي:
»لن أطلب منكم الوقوف حداداً، فنحن اذا وقفنا حدادا سيكون الحداد على عصر طويل قادم، حداداً على العصر الذي سيمضي حتى يشبَّ فيه رجال لهم شيم الرجال الذين كان يراهم امل دنقل، وكرم الرجال الذين كان يحلم بهم امل دنقل، وشرف ونبل وإنسانية وشجاعة ورقة الرجال الذين استشهد امل دنقل وهو يراهم، هم البشر«.
بعد يوسف ادريس وفي ضوء نعيه لنا، استذكرت بعض تفاصيل اللقاءات المحدودة مع أمل دنقل، حين جاءنا في بيروت، تتقدمه »ملحمته« الشهيرة »لا تصالح« التي رأى فيها جيلنا »برنامج العمل المرتجى« وخصوصاً انه قد افترض في نفسه القدرة على تحويل مسار التاريخ في اتجاه الصح. لكن صيحة امل لم تكن كافية، فاذا بنا ننساق الى وهدة الخطيئة التي سيطول في قلبها الصراع من اجل التكفير عن الاغلاط او وجوه القصور او الغفلة التي ساقتنا اليها الحماسة، حتى تركنا الأمر لأصحاب الأمر الى ان سقطت علينا الهزيمة كالصاعقة، فأغرقتنا في وحول دمائنا، حتى بتنا لا نعرف لنا مخرجاً منها… بل ان العجز صار يستولد من الهزيمة السياسية هزائم أخرى شملت القدرة على الحلم والإبداع والتجدد، فدمرنا مع العسكر الروح المعنوية، ثم امتد التخاذل وفقدان الثقة بالنفس الى ما كان مشروعاً ثورياً تحت اسم فلسطين. فحاصر اهله بين الموت في الغربة او العودة بالاستسلام الى مقابر في الداخل، على قاعدة: ان لم تستطع اقتلاع العدو من ارضك فمت فيها لعل ارضك تنبت في غدك من هو أقدر منك على حماية احلامك فيها حتى النصر.
سقط على ارض الهزيمة الشعر والأغنية، سقط الحب وعشاق القمر، سقطت الأسماء المباركة، وتم اغتيال ابطال الماضي حتى لا يظلوا شهوداً على عجزنا، ووئدت اللغة وطورد حرف »الضاد« الذي نسب اليه تخلفنا. خلعنا كل ما كان يؤكد فينا هويتنا، وقلنا: نستعير من اهل النصر ثيابهم وأسماءهم المختصرة والتي لا معنى لها الا عندهم، فنخادعهم ونبعد آذاهم عنا!
جاءنا أمل دنقل في بيروت بعدما ضاق بمناخ الاستسلام الذي نشرته سلطة السادات في مصر بعد اغتياله النصر العسكري وأبطاله الذين عبروا الى الفجر في السادس من اكتوبر/ تشرين 1973. كان كمن يلجأ الى »مناخ« ما زال على صلة بزمنه… لكن الحرب الاهلية المنظمة كانت قد سبقته الى لبنان فأغرقت المقاومة الفلسطينية ومعها الحركة الوطنية في الدماء المهدورة خطأ في المكان الخطأ والزمان الخطأ.
رحبنا بأمل دنقل في »السفير«، مرجئين الحديث عن الخيبة الآتية… لكن الصعيدي النحيل كرمح كان له من البصيرة ما جعله يرجع الى خياره الوحيد:
»يرقد الآن تحت بقايا المدينة/ وردة من عطن
»بعد ان قال »لا« للسفينة وأحبَّ الوطن«.
بعد ثلاثين سنة طويلة سنقرأ في ديوان الرثاء الذي يليق بأمل دنقل، والمكتوب بحبيبات قلب عبلة الرويني، الحكاية الكاملة لتلك الرحلة التي أرادها أمل لتأكيد المؤكد: انه سيبقى في مصر لأنه مصر: »الدم.. او يعود كُليب حياً«.
سنقرأ ايضا قصة الحب المستحيل والزواج المستحيل والموت الذي كان أقرب اليه من المستحيل. واذا كانت عبلة الرويني تكتب، بشيء من الدهشة، عن الذاكرة العظيمة لأمل باسترجاعها التفاصيل بل الجزئيات الدقيقة عن كتاب قرأه في ليلة واحدة، فإنها تمنحنا بذاكرتها التي تعيش فيها ومنها كل »امل« بعالمه المتناقض، والثنائية الحادة التي يدمر كلٌ من طرفيها الآخر: »فوضوي يحكمه المنطق، بسيط في تركيبة شديدة، صريح وخفي في آن، انفعالي متطرف في جرأة ووضوح، وكتوم لا تدرك ما في داخله أبداً. يملأ الأماكن ضجيجا وصخبا وسخرية وضحكا ومزاحا. صامت الى حد الشرود، حزين حزناً لا ينتهي. استعراضي يتيه بنفسه في كبرياء لافت. قوته الحقيقية في شعره، وللشعر كبديل للانتحار معنى الثورة:
»أيها الواقفون على حافة المذبحة/ اشهروا الاسلحة
»سقط الموت، وانفرط القلب كالمسبحة
والدم انساب فوق الوشاح، المنازل اضرحة/ والزنازين اضرحة، والمدى اضرحة
فارفعوا الأسلحة واتبعوني/ أنا ندم الغد والبارحة
رايتي عظمتان وجمجمة وشعاري: الصياح«.
لكن هذه »العرافة« التي تقرأ كارثة الغد في كل مكان وكل شيء، يعرف الحب شعراً رقيقاً مثل روحه:
»عيناك: لحظتا شروق. ارشف قهوتي الصباحية من بنِّهما المحروق«
وحين يتقدم امل من عبلة خاطباً فإنه يشرح نفسه ليكون هو امامها:
»انني رجل بدأت رحلة معاناتي من سن العاشرة. وفي السابعة عشرة اغتربت عن كل ما يمنح الطمأنينة. وأعتقد ان السهم الوحيد الذي يمكن ان يصيبني في مقتل سوف يجيء من امرأة، ولذلك اتسمت علاقاتي بالنساء دائماً بالرفض. كنت استغرق في الحب، لكنني في صميمي كنت أهرب منه.
إنني اول الفقراء الذين يعيشون مغتربين/ يموتون محتسبين لدى العزاء
قلت: فلتكن الأرض لي ولهم وأنا بينهم، فأنا اتقدس في صرخة الجوع فوق الفراش الحشية«.
[[[
لا تحتاج الكتابة عن امل دنقل، الذي غادرنا متعجلاً قبل ثلاثين سنة، إلى تبرير وخصوصاً أنه ترك لنا برنامج العمل للغد في معظم شعره، وإن كانت قصيدته »لا تصالح« ستظل الوصية ـ النداء ـ وأمر اليوم.
هي الآن محظورة في العديد من »الدول« العربية، ولسوف تحظر في دول عديدة أخرى فرّ بها حكامها من الميدان بغير قتال.
سيظل صوت أمل دنقل يلعلع في فضاءات اهل الهزيمة بالدعوة التي تعبر عن ضمير الأمة: لا تصالح، وهنا مقاطع منها:
»لا تصالح!.. ولو منحوك الذهب
أترى حين أفقأ عينيك،
ثم أثبت جوهرتين مكانهما… هل ترى…؟
هي أشياء لا تشترى:
ذكريات الطفولة بين أخيك وبينك،
حسُّكما ـ فجأة ـ بالرجولة،
هذا الحياء الذي يكبت الشوق… حين تعانقه،
الصمتُ ـ مبتسمين ـ لتأنيب أمكما…
وكأنكما ما تزالان طفلين!
تلك الطمأنينة الأبدية بينكما:
أن سيفان سيفَك…
صوتان صوتَك
أنك إن متَّ: للبيت ربٌّ، وللطفل أبْ
هل يصير دمي ـ بين عينيك ـ ماءً؟
أتنسى ردائي الملطّخ بالدماء…
تلبس ـ فوق دمائي ـ ثياباً مطرزة بالقصب؟
إنها الحربُ! قد تثقل القلبَ…
لكن خلفك عارُ العرب
لا تصالحْ… ولا تتوخَّ الهربْ!
(…) لا تصالحُ…
إلى أن يعود الوجود لدورته الدائرة:
النجوم… لميقاتها، والطيور… لأصواتها، والرمال… لذراتها
(…) لا تصالحْ
فما الصلح إلا معاهدة بين ندّينْ…
(في شرف القلب)
لا تُنتقصْ
والذي اغتالني محض لصْ
سرق الأرض من بين عينيَّ
والصمت يطلق ضحكته الساخرة!
لا تصالحْ
فليس سوى أن تريد
أنت فارسُ هذا الزمان الوحيد
وسواك.. المسوخ!

سوزان عليوان: القاهرة وأندلسنا الجديدة؟
قالت الصبية التي لا تظهر حقيقة عمرها الفتي الا حين تبتسم:
ـ أنا أعرفك منذ زمن بعيد… لكنك لا تتذكرني، فقد كنت صغيرة جداً يوم زرتنا للقاء والدي في ماربيا، بأسبانيا.
رن اسم ابيها في ذاكرتي فظهرت دهشتي على وجهي: المسافة بعيدة بين المغامر في تجارة العقار، في بيروت ثم في جهات مختلفة من هذه الارض، وبين الشاعرة الشابة التي تقدم لي ديوانها الجديد، تماما كما هي المسافة بين ماربيا الأندلسية (كما تراها النسخة المزورة من العرب الذين وصلوا الى تلك الارض البعيدة فجعلوها جنتهم ثم خسروا أنفسهم فكان لا بد ان يفقدوها) وبين القاهرة التي اعطت الديوان اسمه: »كل الطرق تؤدي الى صلاح سالم«.
انه »إشكال« آخر، بلغة عباس بيضون.
»طريق صلاح سالم«… هكذا بات اسم ذلك الشارع الذي بات جزءا من »المحلق«، أو الطريق الدائري الذي يأخذك سريعاً الى مطار القاهرة.
عليك ان تبحث طويلاً في اختيار هذا الطريق كاسم لديوان شعر، وخصوصاً انه يلتف من حول القاهرة متحاشياً قلبها بالملايين المزدحمين في جنباتها، مخترقاً العصور المختلفة والعهود المتشاكسة والطبقات المصطرعة بصمت، وان كان يمنحك الفرصة لاستكشاف »المدن« الجديدة المتأنقة بقرميدها وحدائقها المخضوضرة، من حول الأحياء المزدحمة بفقرائها حتى اجتياح المدافن ومراكب الصيد لاتخاذها مساكن.
سوزان عليوان تحمل شهادة اعتمادها معها: رشا سليم.
اما »ديوانها« فقصيدة طويلة تعبر العصور والمدن، المشاعر والعواطف، وقصص حب مهجورة تتبدى من خلال قصة حب لا تقترب من النهاية.
ثم إن القاهرة، كل القاهرة، وربما مدناً أخرى، تسري بأهلها في سطور الديوان باعتبارها الشاهد لا المكان، وباعتبارها الزمان والقصة أيضا.
»الإشارة المعطلة منذ الأزل، الشرطي الأسمر القليل،
جذعان على رصيف ذائب، جارته بناية صفراء
بيت/ في طابقها الخامس والأخير،
لا يغادرني…
»على حبل الغسيل، شبح قميص/الدم/يذكر الذراع/
يذرف ملقطه/كفي أرجوحة عصفور
كلما ابتعدت/ اعادتني الكوابيس
كتبتها/ كما كان الوعد/ البتر لا يجدي«
ولأن سوزان »من دخان« فهي تفلت كل خيط وتطير »لأنك في المرأة كامن، كل نسمة سكين«.
تخيم على القصيدة التي لا نهاية لها غيمة حزن كثيف، فالصور دائماً مستلة من »بئر مهجور لأولئك السائرين الى نسيان، يضللون الضوء بظلالهم« المقابر قريبة، القدمان من رماد، محطة الباصات مهترئة، والمصباح لا يصلح مشنقة لحذائي، مراكبنا من ورق والنوارس للنسيان /أسوار عالية/ أبواب تئن/
هل كانت مرة التجارب الى هذا الحد:
»مثل بيتنا نعرف العدم/ الضحك بلا ضغائن/ بعيدا عن اسبابه
البكاء/ العاب العدم بين ضفتين/ الموت مثلنا يتعب.
»… قصورنا في جيوبنا/ في قلوبنا قراصنة، بأسنان ذهب ذائبة«
»… من الوحل حياة/وحوش تؤنس، في الليل ارواحنا.
غيلان بأحضان دافئة/ لا نكاد نألفها.
»بعيداً عن الدودة أرفرف/ مدينة محنطة/ رئة ترسب في بئرها السعال
ملوك على شرفات الضجر/مومياء تعبر المرأة عارية إلا من ورقة جوكر وغمزة بلا معنى«.
في الديوان ـ القصيدة كثير من الكاريكاتور، كثير من الحزن، كثير من ملامح مدينة عظيمة كانت فوارة بالمعنى، وكانت توزع هدايا النصر على الأهل من حولها، ولكنها الآن تحتضر، بعدما فقدت الدور (هذا اذا ما قرأنا الديوان بالسياسة).
هل نخسر الأصل مرة أخرى؟
هل ترسم سوزان صورة مقربة لأندلس جديدة توشك ان تغيب.
لا بد من قراءة ثانية لهذا الحزن الأكبر من شاعرته.

مــن أقــوال نســمة
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
ـ أول الحب شعر، وآخره شعر، وما بين البداية والنهاية لا شيء غير الشعر. هل لهذا لا ينجب الشعر إلا دواوينهم، ولا يرث أبناؤهم غير الحسرة من أنهم »اصغر« من آبائهم، مع أنهم يحبون كثيراً ولا يقولون حبهم إلا لحبهم، فلا يجعلونه مشاعاً؟!

Exit mobile version