طلال سلمان

هوامش

حكاية حب تنشر لأول مرة… بعدما وجدت خاتمتها
جاء زمن الكلام عنكِ بعدما غيبكِ الصمت وقطع حبل الكلام معكِ. ولأنكِ رحلتِ بغير وداع فلسوف أنتقم بأن اروي قصة حبك التي كنت تذوبين خجلاً كلما طلبنا منك أن تحكيها لنا.
كنتِ حتى بعد أن سبقك الحبيب الى مغادرة دنيانا تعتبرينها سرك الحميم. الحب ليس حكاية، لأنه السر الامتع في الحياة، فكيف يكتب وينشر على الناس؟ ليس الخوف من الآخرين، فالحب أعظم من الخوف… لكن الحب أن تعيشه، أما حين يكتب فتلك هي الإشارة الى انه قد انتهى. وحبكِ لم ينته، بل هو فاض على الشخصي الى العام. ولأنه بحر، فهو يتسع للجميع. وكلما انتسب اليه المزيد من مستحقيه فاض يبحث عن المزيد. لكأن قلبك باتساع الدنيا أيتها التي ذاب جسدها حتى شفّت روحها فإذا هي ملء السموات والأرض، تقتحم الناس او تدعوهم اليها لتشركهم في قلبها بغير منّة، وتشاركهم همومهم بغير طلب.
أول القصة التي بلا خاتمة أنها لم تذكر اسمه مرة عند الحديث عنه، مع أن كل الحديث عنه، فهو شمس العمر، فإذا ما غربت بقيت الحكاية تستعيد ذاتها مع كل بدر، فتتغامز النجوم وهن يستمتعن بروايتها مغناة موشحة بنور القلب:
<كنت أتعجل المغيب، حين تختفي معالم الوجوه ويصير عليك ان تتبين حبيبك من حفيف ثوبه، او من وقع قدميه المتعجلتين، او من رائحته التي تميزها ولو كان على بعد مئة ذراع. <كان المغيب موعدنا اليومي. يصعد الى سطح بيتهم الذي تفصله عنا بضعة من البيوت، فيتخذ من المحدلة مقعداً له، وينتظر أن يلمح طيفي وأنا أغدو وأروح أمام منزلنا متشاغلة بملء إبريق مليء من جرة مياه فارغة، لتكون ذريعتي في رحلة جديدة الى العين... وعندما ارفع الجرة يصلني صوته حنوناً ممتداً <بالأوف> ليلاقيني في العتمة فيعانقني ويحملني مع جرتي على جناح النشوة، فإذا المياه تفيض منها، وإذا المزدحمات عند العين يدفعنني خارج ساحتها، فأكمل رحلتي منتشية غير عابئة بشتائم المنتظرات دورهن لملء الجرار، وأقفل راجعة وصوته يشدني اليه فأمتنع، وأتبع خوفي الى بيتي ويشتد خفقان قلبي حتى لأخشى ان يسمع نبضاته من يتصادف وجودهم أمامي او خلفي.
<أصل البيت وأنا شاردة الذهن، أتابع كلمات <العتابا> التي نظمها لي وحدي، ولن يفهم الإشارات فيها احد غيري، لاكتشف بعد حين ان عيني والدتي كانتا تقرآن على وجهي قلبي، وتترجمان تنهداتي شعراً كشعره، ثم تكتفي بأن تأمرني بإعداد العشاء، وطيف ابتسامة يلوح على الجانب الذي لا أراه من وجهها، لكنني أطير فرحاً: إنها تفهمني!
<ولأنني لا اعرف القراءة فقد كان علي أن احفظ شعره... وكي أحفظ الشعر لا بد من ان اسمعه مراراً... وهكذا تتزايد الحيل من اجل التلاقي. وحيل الفلاحين لا تنتهي. بل إن لكل موسم حيله الخاصة: حقول القمح قبل الحصاد، وبيادر الخير خلال الحصاد، الكروم قبل قطافها، والكروم عند قطافها ... بعدها يجيء موسم الدبس، حيث يمكن التخفف من بعض الملابس ومن الأحذية وتكتسب القبل المخطوفة طعم العسل. ثم هناك موسم الذبيح، حيث يتعاون الجيران بالتبادل، في تقطيع لحم اذ يغدو الخروف أقرب الى العجل وزناً، تمهيداً لإعداد <القوارمة> و<القديد>، وتقام المآدب الجماعية للجيران وكل من عاون في إقامة هذا العيد السنوي ولو بجرة ماء>.
أُلح في طلب ما تحفظه من قصائده فيها، فترد بأن ذاكرتها قد تعبت وأن النسيان قد محا ما نظمه… لكنها، تحت إلحاحي، تقبل ان تستعيد بعض أغاني الفرح التي كانت ترددها في الأعراس، بصوتها الذي يجعله الحنين الى ذلك الزمن جميلاً:
<رمانك يا، يا حبيبي ياحبيب قلبي ويا طبيبي رمانك ورده مفتح يا ريته من نصيبي رمانك بالصحّاره مكسب ما هو خساره يا إسلام ويا نصارى قولولي وينو حبيبي>.

ثم تباغتني بمقاطع من أغنية <هلا هالله يا جملو يا عشيرة زماني>.
وحين يهزها الوجد يرتفع صوتها بالنغم الحزين لأغنية الروزانا…
وأقحم <ثقافتي > في الموضوع فأروي لها حكاية تلك الباخرة الإيطالية التي كانت تحمل التفاح الى بيروت لحساب بعض التجار، في حين كان المزارعون لا يجدون سوقاً لتفاحهم <الوطني>… ويبدو ان تجاراً منافسين قد اشاعوا خبر الباخرة وحرضوا الفلاحين فاقتحموا المرفأ وأحرقوا الباخرة، بينما كان أصحاب البضاعة يهربون بها بعد تمويه الصناديق بالعنب فوق التفاح.
يكتسب الغناء مزيداً من الشجن وهي تردد الكلمات:
<يا رايحين ع حلب حبي معاكم راح يا محملين العنب تحت العنب تفاح>
فالموضوع عندها هو الحبيب، وان هي أشفقت على <الروزانا>.
[[[
كيف تعرف هذه العجوز التي لم يعد بإمكانها ان تغادر بيتها، بل غرفتها إلا لماماً، وفي نزهات استذكار قصيرة، أسرارنا جميعاً، كباراً وصغاراً، قبل أن تلقانا؟!
غالباً ما كانت تبادرني بالسؤال قبل ان تنهي السلام، عن بعض أخوتي، او بعض أبنائي او الأحفاد، وبلهفة من يريد ان يطمئن الى ان ما يحدس به غير صحيح… وكنت اصعق لصدق حدسها، فأحاول طمأنتها ، ثم أجدني مضطراً لان اخبرها بحقيقة الأمر، مدركاً ان التمويه لن ينفع، وعندها فقط تستعيد ثقتها بي وتتوجه بالدعاء ان يقف<الأمر> عند هذا الحد.
في المناسبات التي تأخذنا الى التلاقي عندها جميعنا، كانت تستدرج هذه لتسألها عن زوجها، وتلك لتسألها عن تصرف قرأت فيه ما يشغل البال، أما الصبايا فكانت تحكي لهن بعضا من قصة حبها ليجعلنها مستودع أسرارهن، والمستشارة الممتازة في أمور الغرام.
على ان شاغلها الأهم كان <الواجب>: هل عزيتم فلاناً بأبيه أو بأخيه؟ هل عدتم فلانا المريض؟! هل اطمأننتم على جارنا العائد من سفر طويل؟! هل دفعتم <الفطرة>؟!
أما الحب فمطلق، لكنه على درجات:
وحين تأخذ عليها التمييز بين الأشقاء، او بين الأبناء، او بين الأحفاد، كانت ترد بشيء من المكابرة: حتى الله ميز بين أنبيائه، مع أنهم جميعاً حملوا كلمته الى الخلق. أحبهم جميعاً، لكن بينهم من يقربني فأفهمه أكثر، او أشفق عليه من اعتلال صحته فأهتم به أكثر. وحتى من لا يُظهر لي اهتماما كافياً اعذره واقترب منه لأفهمه، لكن القلب يميز وان اتسع للجميع.
تعلمت منها ان الحب لا يشيخ، وان القلب مدى مفتوح بغير حدود، وان الروح أعظم من ان يتسع لها الجسد… كانت كلما ازدادت نحولاً وذبولاً عوضت روحها بأن صارت رقراقة وشفافة مثل أشعة الشمس وباتساع الدنيا، لكل منا، بل لكل إنسان فيها نصيب…
كان الآخرون شركاء لنا في حبها.
وكانت أعظم محرض على الحب: الكراهية تقتل صاحبها، تماماً مثل الحسد. من يكره يَصر أعمى. ومن يكره لا يكبر ولا يتذوق الجمال. لا يميز رائحة الوردة عن رائحة سجائره المحترقة. اما من يحب فإن الدنيا تصير ملكه، حتى لو كان بيته غرفة واحدة. بيت جدك كان داراً مستطيلة، لكنها اتسعت دائما لدزينة من أهلها ومعهم بضعة ضيوف. الضيف بركة، وكلما أكرمته اتسع رزقك.
لم تكن ملاكا. كانت إنسانا جميلاً.
لم تكن مطهرة من الخطايا أو الأخطاء، لكن قلبها كان قابلاً للتوزيع على شعب كامل.
البديهيات لا تحتاج الى قراءة مكتبة من المراجع.
البساطة، أي إعادة الأمور الى أساسياتها، تكفي لفهم اعقد المسائل.
العلاقات الإنسانية لا تحتاج إلى الفلسفة.أعط الناس من قلبك ومن عقلك تفهمهم ويفهموك وتمتد بينكم الصداقة مفتوحة على الخطين. اجتهد ان تنتصر على الحسد والغل والخصومة. ضع نفسك مكان الآخر يسهل اللقاء. لا تستهلك نفسك في المخاصمة. الحياة أجمل من ان نضيعها في دهاليز الأحقاد التي تقتل فيك الإنسان.
[[[
كان الوداع كحياتها بسيطاً، كالحب المصفى.
خجلنا من بكائنا، فأمسكنا دموعنا. كنا نحسها تمشي بيننا، ثم تعود معنا.
ولا مرة كان الموضوع جسدها الذي تحررت منه منذ زمن بعيد.
… وها هي روحها ترف من حولنا ترشدنا الى الطريق: <الحب اولاً، حب الناس كل الناس، والحب أخيراً>. تلك هي الحكاية: حرفان يلخصان الإنسان في كل الأزمنة وفي كل الأمكنة. مع ذلك كثيرا ما نضيع عن الطريق.
هي الآن أمامنا، خلفنا ومن فوقنا تهدينا الى الحب، والمزيد من الحب فنحيا.
[[[
أظنهما الآن معاً، خلف <العتابا> والحيل المكشوفة لاختلاس القبلات او التقارب الى حد التلاصق في الدبكة <فرخة وديك>. لا أظنه سيعاتبها، شوقه اليها لا يتسع للعتاب. افترض أنها تقدم اليه تقريراً شاملاً عن ذريته التي تتزايد أعدادها كأنما لتعويض غيابه.
هما الآن فوق… ونحن هنا نحاول ان نكون جديرين بهما، بقصة حبهما التي أثمرت .
…على أنني أخاف ان تكون قد بدأت اللقاء بمعاتبته عن تأخرها في اللحاق به… وقد يشفع له ان يكون قد أكمل ديوان غزله فيها، لا سيما وقد جعلته كثيراً.
[[[
أعتذر، يا <حاجة أم طلال>، إن كنت كشفت قصة حب رحل جميع شهودها وبقيت لنا تعلّمنا أن نحب… ثم إنك أنت من جعل الحب مشاعاً، فكل من دخل المنزل كان يخرج منه وقد أضاف إلى رصيد علاقته بالحياة مزيداً من الحب، رجلاً كان أم امرأة، صبية أم شاباً، فتى أم طفلة خبأتِ لها، تحسباً، هدية لطيفة.
أما مع <الخاصة> من أصدقاء <أبي طلال> فكنت تستذكرين مزيداً من الأغاني، كاشفة عن الحب الذي كان <لواحد> فصار بعدما تطهّر بالفقد مشاعاً.
وها إن إخوتي وأبنائي جميعاً يحتفظون في قلوبهم وفي ذكرياتهم الحميمة بصوتك وأنتِ تزفينهم بذلك اللحن المثقل بالشجن:
<عريّس، عريّس مد الكف واتحنّا>
وها هي أكفنا جميعاً مضمخة بالحنة… يا من سبقتِ إلى الجنة راضية مرضية كأتم ما يكون الرضا، خصوصاً <أنه> ينتظرك هناك لإنجاز الديوان الجديد.

مـن أقـوال نسـمة
قال لي الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
ـ أغبط عشاق أيام زمان. كان الحب ولادة المعلقات ودواوين الشعر. تكتب قصصه همسات على اوراق الورد…
أما اليوم فالعشاق بالاختيار الحر على وسائل الاتصال الحديث… كيف يعشق من لا يعرف قراءة الرسائل المرمزة؟ هل يطلق الكومبيوتر الآهات حتى لو حركته ارق اللمسات التي تعجز ان تصير شعراً؟!

Exit mobile version