طلال سلمان

هوامش

استعادة لزيارات أولى بشعر حديث: هل أنتِ مصر؟!
في أول رحلة لي الى القاهرة، بداية الستينيات، امكنني ان امضي اسبوعين فيها بنفقات لم تتجاوز الخمسين جنيها، اي ما كان يعادل عشرين دولاراً، واقل من مئتي ليرة لبنانية.
كنت سائحا لا اعرف في تلك المدينة الساحرة احداً، وان كانت ذاكرتي تزدحم باسماء المشاهير: كتّابا وأدباء وشعراء وصحافيين، قادة ثورات وأبطالاً وطنيين، فنانين وفنانات، مطربين مبدعين ومطربات اجيال، رسامين ونحاتين ومصورين… اما الامكنة فكانت في ذهني، ولم اكن احتاج الا الى دخولها، سواء أكانت شوارع أم مقاهي أم دور سينما أم ملاهي، لتتكامل صورتها بدءا بسور الازبكية وانتهاء بشارع الهرم وما حمل!
كان المصريون فقراء، اجمالاً، لكنهم يعيشون حياتهم مستمتعين بنعمتها. وكانوا ظرفاء، لطفاء، يرحبون بالشوام وسائر الأخوة العرب ، ويتحدثون بشغف عن بيروت وبحب عميق لدمشق، وان ساد لهجتهم شيء من التحفظ عند الحديث عن الخليجيين الذين يتباهون عليهم بذهبهم!
كان رجل الشرطة رمز الدولة، يختلط فيه مزيج من ملامح الفرعون والقدر والسلطة المطلقة، و الشاويش سلطان المحلة في المدينة، بينما العمدة سلطان الارياف.
وكان النيل مصدر السحر والشعر والشغف وديوان الحب و كورنيشه المتنزه المفتوح للعشاق الفقراء يقتعدون مصاطبه الحجرية وفي ايديهم أكواز الذرة او يقزقزون اللب، يتهامسون ويضحكون فتسري النشوة في صفوف العابرين او السكارى بصمت ذلك العالم المهيب الذي اسمه النيل.
بعد رحلتَي عمل، كصحافي، او ثلاث رحلات كنت قد غدوت صاحب ثروة من الاصدقاء، معظمهم زملاء في المهنة، ورفاق سلاح في طلب المستحيل، كتّابا، محررين، رؤساء تحرير، رسامين ومصورين ومشاريع قادة سياسيين. معظمهم يتحدر من اصول شيوعية، وقلة عربية الوجهة، مشارقة، بلغهم شيء من أفكار حزب البعث، او حركة القوميين العرب، او انهم تأثروا بطروحات جمال عبد الناصر وحركته الثورية، او انهم كانوا عربا بالفطرة… وكانت كثرتهم اقرب الى المعارضة من قلب النظام ، بمعنى انهم كانوا يطالبونه بتسريع الانجاز، مع الالحاح على حرية اكثر، وديموقراطية اكثر، واشتراكية اكثر، او بمصرية اكثر لخوفهم من الأخوة العرب الذين يطلبون من مصر الكثير ولا يقدمون إليها ما يتوجب عليهم المشاركة فيه.
كان اصدقائي بمجملهم من متوسطي الدخل، لكنهم يعيشون حياتهم براحة. وحين اصدر جمال عبد الناصر واحداً من قراراته المثيرة بتحديد سقف الراتب الأعلى في الدولة بخمسمئة جنيه مصري، رحب به الجميع.
كنا نتلاقى كل ليلة، بعد انجاز العمل، في بيت واحد من الزملاء، فنسهر ونسمر، نأكل بمتعة ونشرب بمتعة، وتهدر أصواتنا بالضحك، والكل صاحب نكتة او انه ماهر بالتشنيعات. احيانا كان يتجاوز عدد الساهرين العشرة، وقد يتصاعد الى العشرين. كان البعض يأتي حاملاً شيئاً من السمك، او بعض القريدس، او شيئا من الفول، او زجاجة شراب، كمشاركة في نفقات السهرة.
ولطالما شهدت مجالس انس يتجاور فيها احمد بهاء الدين وطارق البشري مع حلمي التوني وبهجت عثمان وجورج البهجوري ويوسف القعيد، او مكرم محمد احمد وحمدي فؤاد وسامي منصور، وعبد العظيم انيس ومحمود عبد الفضيل ونجيب محفوظ وحرافيشه، وبينهم ناديا لطفي واحمد مظهر وتوفيق صالح وسعد كامل، او لويس عوض وغالي شكري وصلاح عبد الصبور، او احمد عبد المعطي حجازي ومصطفى الحسيني وفتحي غانم او جميل مطر ومحفوظ الانصاري ومصطفى نبيل وغيرهم كثير…
لم يكن ثمة ترف. لكن الكل كان يعيش حياة طيبة. الايجارات معقولة، واسعار النقل متدنية، وكلفة الكهرباء والغاز والمياه لا تتجاوز سقفا معلوماً.
عرفت مهندسين شباناً يعملون في مشاريع النهوض الاقتصادي العظيمة، بدءا بالسد العالي في أسوان، الى مصانع الحديد والصلب في حلوان، الى مصانع الغزل والنسيج التي تم تجديدها في كفر الدوار والمحلة، الى مئات بل آلاف المصانع الجديدة التي انشأتها الدولة فوفرت العيش الشريف لمئات الآلاف من العمال و الصنايعية . كان الكل يرتدي ثيابا صناعة مصرية، ويأكل من انتاج مصر. يتعلم في الجامعات المصرية، ويتباهى بأن كل ما في بلاده، تقريباً، من صنيع ايدي المصريين.
ثم عرفت عشرات من المتخرجين، مهندسين واطباء وتقنيين، اندفعوا فور تخرجهم، بتكليف، الى الجبهة بعد نكسة 1967 ليسترجعوا ما ضُيع من أرض وكرامة ومن حقوق الوطن والأمة. كانوا يتقاضون مرتبات رمزية، لكنهم لم يحتاجوا ولم يطلبوا اكثر. وكانوا يعطون بلا حساب.
كانت تنشأ أزمات او اختناقات تموينية، وغالبا كانت تحصل نتيجة ضغوط وحصار سياسي معلن… لكن الدولة كانت تحسمها بسرعة، وبكرامة، ومن دون تنازلات، معززة بتأييد الشعب وصبره التاريخي غير المحدود.
[ [ [
في رحلاتي الأخيرة الى القاهرة، بت أنكر ما أرى واشهد واسمع.
منذ وصولي الى المطار وحتى مغادرتي إياه، وعبر الصور المتلاحقة والمشاهد غير المألوفة، وغير المقبولة، كنت استعيد بغير ان اقصد تلك القصيدة الممتازة التي نظمها محمود درويش حين قصد القاهرة بعد سنة من حرب العبور المجيدة، والتي عنوانها سؤال موجع: هل أنتِ مصر؟!
مصر التي في خاطري متغيبة لبعض الوقت، لكنها عائدة حتماً… ان لم يكن من باب الخبز، فمن باب فلسطين. ان لم يكن من باب قهر القهر فمن باب التغيير طلباً للديموقراطية والكرامة، راجعة فوق الصعب ماشية .
الصبر طيب، يقول المصريون. آن ان يجدوه علقماً.
الراقصون على قبورهم
الآن صرنا اكثر إدراكاً لماذا يتحاشى القادة العرب اقامة تماثيل لهم، او لآبائهم وأجدادهم من السلف الصالح، في الساحات العامة!
لقد ظلوا ينفخون في غرور صدام حسين ويعظمونه ويسبغون عليه الألقاب الحسنى، ويدفعونه الى خوض حروبهم، حتى اذا ما استفز العالم اجمع، تخلوا عنه، ثم استقبلوا بالزغاريد القوات الاجنبية التي سوف تدمر العراق…
والآن، ها هم يستمتعون باستعادة مشهد تحطيم تمثاله الضخم في ساحة الفردوس، ويغفلون عن مشهد طوابير الدبابات الاميركية وهي تحتل كامل العراق… وكامل بلادهم، وكامل ارادتهم، ان كانت لديهم ارادة خاصة.
الذهب يعمي، حتى عن رؤية المحتل… او انه يخدع البصر فترى البصيرة في المحتل محرراً وصديقاً كبيراً يستحق التوشيح بأرفع الأوسمة.
حكامنا يرقصون على قبورهم.
انها الوجه الآخر لصورة التمثال المهيب يهوي مشحوطا بدبابة اميركية!

عن المشايخ الذين زرعوا جبل عامل بالعلم والمقاومة: عبد الحسين صادق
لعله كان ضروريا ان نعرف سيرة الاب لنفهم، بالدقة، مصادر المعرفة عند الابناء، وينابيع الموهبة المتدفقة في نتاجهم، نثراً وشعراً، وآداب الحديث التي تميز لغتهم .
فأن تكون ابنا لشيخ عالم فقيه نخفي، وحفيداً لشجرة من المشايخ العلماء تضرب عميقا برموزها الثلاثة عشر في التاريخ، فهذا ما قد يفسر سلوك صديق عزيز مثل حبيب صادق واللغة الأنيقة، والتفجرات الشعرية لقاض مثل محمد علي صادق.
لكأن الشعر ينتقل هو الآخر بالوراثة، عبر عشق اللغة والتعرف على مكامن جمالها، وعلى غزارة الايحاءات والايماءات والدلالات التي تثقل الكلمات ولا تفتح باب السر فيها الا للمدنفين بحبها… فضلا عن التزام آداب المجالس والتهذيب الرفيع، واناقة اللفظة والتعفف عن استخدام الخشن من الالفاظ، والاكتفاء بالايماء والايحاء ترفعا، في حالة الغضب.
النجف تطل عبر الكلام، مرسلا نثراً او شعراً، كما عبر السلوك. وعبر ذلك النوع الراقي من التدين الذي لا شبهة للتعصب فيه، والذي لا يتعارض مع الاطلالة على الفكر التقدمي من موقع خالص العروبة، واحترام تجارب الشعوب في سعيها لتغيير واقعها بالثورة، من دون تصادم مدمر مع الدين.
ولكأن هذا الموقع المميز لابناء جبل عامل، على سائر اللبنانيين عموما، والشيعة منهم خصوصاً، يعود الى الكنوز النجفية التي عاد بها الرواد، جيلا بعد جيل، ممن ذهبوا الى تلك الحاضرة الجامعية فدرسوا وغرفوا من الثقافة شعراً ورواية وأدب رحلات ونثراً غنيا، وهذبوا نفوسهم وتعارفوا مع آخرين وافدين من انحاء مختلفة من العالم الاسلامي، فسمعوا منهم وتبادلوا التشكي من اوضاعهم، وتعاهدت نخبهم على العمل من اجل التخلص من قهر التخلف والاحتلال والطغيان بالعلم والثقافة.
هذا التقديم ضروري، ربما، لندخل ديوان سقط المتاع للشاعر العلامة الشيخ عبد الحسين صادق (1862 1942)، والذي صرف عليه نجله حبيب صارق الكثير من الوقت والجهد في جمعه وتحقيقه وتقديمه.
في التعريف بالشاعر العلامة، ينتهي بنا نسبه الى مخزوم وهي فرع من قريش. وهو ولد في النجف الأشرف، حيث كانت اقامة الأسرة. وكان رضيعا يوم فقد والدته وهي عائدة به من العراق الى موطنه في جبل عامل، للالتحاق بوالده الشيخ ابراهيم الذي كان سبقهم واقام في بلدة الخيام عالماً دينياً عقب عودته من النجف .
ولقد نُكب الطفل، مرة اخرى، بفقد والده وهو في الخامسة من عمره، فاحتضنته شقيقته الكبرى الحاجة خاشية صادق حرم الحاج محمد عبد الله.
بعد ذلك نقف امام لوحة ذات دلالة عن احوال جبل عامل في أواخر القرن التاسع عشر: فلقد غادر الصبي الذي سيصير شيخاً للخيام، وارتحل في طلب العلم من قرية الى قرية… في مجدل سلم قرأ الصرف والنحو على العلامة مهدي شمس الدين وفي عيتا قرأ المعاني والبيان والمنطق على العلامة جواد مرتضى، وفي كفرا درس الآداب والاخلاق على العلامة الشيخ سبيتي، ثم الى بنت جبيل حيث قرأ على العلامة الاكبر الشيخ موسى شرارة في علم اصول الفقه قبل ان يغادر الى العراق لاكمال دراسته في النجف.
عاش دارساً ثم مدرّساً في النجف ستة عشر عاماً، وكان بين اساتذته الحجة الشيخ كاشف الغطاء من رجال العلم وفرسان القريض، شاعر ابن شاعر وابو شعراء، خفيف الروح، حسن الطلعة .
بعد العودة نزل الشيخ عبد الحسين صادق في دار والده الشيخ ابراهيم في الخيام… وبنى فيها مسجدا ضخما ومدرسة تولى التدريس فيها ست سنوات قبل ان ينتقل الى النبطية بدعوة من أهلها، بعد وفاة عالمها صديقه السيد حسن يوسف.
هذا في الدين والتدريس والعمل الاجتماعي. اما في السياسة فإن الشيخ كان صاحب موقف قاطع في وضوحه وفي تعبيره عن موقف أهله في جبل عامل…
… ولما وصل الامير فيصل بن الشريف حسين الى بيروت، وخرج من الدارعة الى المحل المعد لاستقراره (قصر عمر الداعوق، رئيس بلدية بيروت آنذاك)، اقبلت وجوه الناس للسلام مترتبين، يدخلون من باب ويخرجون من آخر، عمل مدير شؤون الوفود على تأخير الوفد العاملي… فلما سمح للوفد بالدخول، وقف الشيخ عبد الحسين صادق فأنشده:
لو جاز سعي الأرض تعظيما / الى استقبال مولى
لسعت إليك بلادنا / عزا واجلالاً وطولا
وجرت بمضمار السباق / وعامل بالسبق أَولى
وفهم الأمير فيصل الرسالة ، فدعا الشيخ ووفده للذهاب الى الشام. وبالفعل، توجه الشيخ مع الأمير في اليوم الثاني او الثالث، الى دمشق بالقطار، وكانت الجماهير تستقبله للتحية على طول الطريق.
في دمشق، وفي 5 أيار ,1919 حيث تمت البيعة، قام الشيخ عبد الحسين بعد نوري الشعلان، شيخ مشايخ الرولة، وبعد نسيب الاطرش الذي بايع باسم حوران وجبل العرب، وبعدهما قام الشيخ عبد الحسين صادق فقال: باسم أهل جبل عامل ابايعك.
وفي 3 حزيران شارك الشيخ في المؤتمر السوري .
ولما جاءت اللجنة الدولية (لنغ كرين) والتقت اهالي الجنوب في بلدية صيدا (10 تموز 1919)، قدم الشيخ العلامة تقريراً مسهبا صادق عليه الجميع برغبات جبل عامل .
[ [ [
تلك لمحات من حياة العلامة الشيخ عبد الحسين صادق، قدم بها نجله حبيب لديوانه الذي اضناه البحث عن اجزائه وتدقيق قصائده وتأريخها، ورواية مناسبتها، حتى جاء على احسن وجه.
ولان الشيخ من مخزوم، فلقد كان وثيق الصلة ب بدر آل صعب، زعيم العشيرة الصعبية في جبل عامل الشاعر محمود الفضل، وكذلك مع كامل الاسعد (الكبير) بدر الوائليين في جبل عامل… .
ثم انه كان عديل كامل الاسعد وزعيم جبل عامل، وهكذا فقد رثاه بقصيدة عصماء كان مطلعها:
نزلت فضاق بخطبها الدهر / والاوسعان البر والبحر .
لقد اضاف حبيب صادق الى المكتبة العربية أثراً طيبا لشاعر عالم وفقيه وأديب ومصلح اجتماعي وصاحب قضية وطنية، هو العلامة الشيخ عبد الحسين صادق. فشكرا انه اضاء مصباحاً على طريقنا الى مستقبلنا الغامض، لا يمكن اعتباره من الماضي لانه مكتوب بقلب كان يكشف الغد.

من أقوال نسمة
قال لي نسمة الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
للمحبين لغات كثيرة بينها النظرة واللمسة والآهة، الابتسامة والضحك، التأفف والتعجل والضيق بالوقت… لكن اخطر اللغات هي الصمت.
لا تغرق حبيبك في صمتك. الصمت ولادة هواجس.
بالصمت تكونان اثنين، فإذا تحدثتما صرتما واحداً.

Exit mobile version