طلال سلمان

هوامش

بيوت الشيخة مي تضيء البحرين شعراً وموسيقى وكتابة… بالألم!
بين لبنان والبحرين روابط متينة أبرزها محاولة تعويض ضآلة الحجم الجغرافي وعدد السكان بنفخ الارث التاريخي، نسباً عريقاً واسهاماً في ابتداع الحضارة الإنسانية، ودوراً في المعارضة والاعتراض تأكيداً للتميز بل الفرادة.
وكما يبتسم اللبنانيون لمفاخرة بعضهم بأن بلدهم الصغير هو نقطة ارتكاز الكون، فإن البحرانيين لا يخفون دهشتهم من محاولة توسيع أرض الجزيرة بالدفنة ، أي بمحاولة طمر ما تيسر من البحر، لمد الشاطئ و اختلاس مساحة إضافية لابراج فورة النفط والغاز، وتعويض ما تحتله القواعد العسكرية الأميركية (وارثة القواعد البريطانية) من تلك الجزيرة التي يتوارث أهلها الأساطير عن ان فيها بدأ التاريخ الإنساني ومنها انطلق… ومنها أيضاً اندفع الفينيقيون غرباً حتى حطوا رحالهم على الساحل اللبناني، قبل ان يتابعوا مسيرتهم المظفرة حتى قرطاج (في تونس) لينطلقوا منها إلى أوروبا في غزوة عسكرية فاشلة (هنيبعل) وفي بعثة حضارية ناجحة عبر أليسار من صور على ظهر الثور، أعطت تلك القارة اسمها، على ما تقول الأسطورة التي كاد الزجل اللبناني يجعلها بداية للحضارة الإنسانية.
… ولأن ظروف عملي لم تتح لي ان أعرف البحرين (الجغرافيا) عن قرب، برغم انني عرفت الكثير من مناضلي البحرين ومثقفيها، من نُفي منهم قبل ان يعود ليسجن، ومن ظل في البعيد يجاهد من أجل العودة بعد التحرير ، وقد حمل جزيرته الجميلة في قلبه وعلى سن قلمه نثراً وشعراً وابداعاً فنياً، فقد اسعدتني الدعوة التي وصلتني لمحاضرة عن واقع الصحافة العربية في هذه اللحظة .
كنت قد زرت البحرين، خطفاً، مرتين من قبل، في مناسبة أولى ذات طابع شعري، وليوم واحد، وفي مناسبة ثانية للمشاركة في مؤتمر قومي عربي، وليوم واحد أيضاً أمضيت ساعاته مع عزمي بشارة ووليد نويهض و طلال الثاني .
في الطائرة، تكفلت الصحف الصادرة ذلك الصباح باثارة ما يكفي من الشجون لرحلة قصيرة افترضت انها ستريحني موقتاً من همومي اللبنانية. كانت أخبار الشقاق السياسي تنضح بمخاطر الفتنة المذهبية التي تتهدد الإرث النضالي للحركة الشعبية الذي جعل البحرين درة الخليج العربي، خصوصاً انها كانت طليعته ثقافياً واجتماعياً.
الصورة أكثر وضوحاً الآن: اضرب طلائع التقدم بموروثات التخلف تفتحِ الطريق عريضاً لعودة قوى الاستعمار (الجديد) معززة الآن بالزحف الإسرائيلي تحت عباءة التخويف من الخطر الإيراني.
ما علينا… وصلنا مع الليل، وقبل انتصافه كنت قد سمعت فعرفت ما يكفي عن واقع الحال السياسي الاجتماعي الاقتصادي.
الأهم انني كنت قد سمعت لمحة عن الشيخة مي وجهدها في تعويض البحرين ثقافياً عن الاساءة التي تلحق بصورتها السياسية نتيجة الصراع المفتوح ب0ين السلطة والمعارضة التي عانت وتعاني انشقاقات ضربتها لوثة الطائفية فشوهت صورتها التي كانت مشرقة وجاذبة للراغبين في اقتداء نموذجها، في محيطها.
مع الصباح جاءتني تلك السيدة اللبنانية التي نذرت نفسها، من دون ادعاء، لخدمة البحرين، وأسعدها حظها بالعمل مع الشيخة مي في جهدها لتحقيق طموح ثقافي غير محدود، وفي مجالات متعددة، تشمل الشعر والموسيقى والصحافة وأدب الأطفال.
الاسم: ازميرالدا قباني، وهي في البحرين، مع زوجها وبناتها، منذ سبعة عشر عاماً. ولقد أدمنت البحرين، وكادت تختارها بديلاً من بيروت التي لم تعد تعرفها بعد البشاعات التي شوهت النسيج الاجتماعي وعلاقات الناس فيها الذين صاروا أخوة أعداء .
طافت بي السيدة ازميرالدا على منشآت الشيخة مي وهي أربع قابلة للزيادة: ثلاث في المحرق ، هي بيت الشيخ عيسى بن علي آل خليفة ، و مركز الشيخ ابراهيم محمد آل خليفة للثقافة والبحوث ، و بيت عبد الله الزايد لتراث البحرين الصحافي … أما بيت الشعر ابراهيم العريض ففي المنامة.
ويرتبط بيت الشيخ ابراهيم بمؤسس أول مجلس ثقافي في جزيرة المحرق.
أما بيت عبد الله الزايد القائم في موقع تراثي من مدينة المحرق فيأتي مكملاً لعملية المحافظة على التراث المعماري، ويضم الطبعات الأولى من صحف البحرين، وأُولاها صحيفة البحرين التي أسسها عبد الله الزايد .1939
بيت محمد بن فارس لفن الصوت الخليجي هو في التخطيط متحف يحتوي على آثاره وعلى وثائق الحقبة التي عاشها، ومركز للدارسين والباحثين في الفنون الشعبية.
أما بيت الشعر ابراهيم العريض الذي لعب دوراً ابداعياً وتنويرياً، فهو للأمسيات. وهناك أيضاً بيت الكوار و اقرأ مكتبة الأطفال .
لكل بيت حكايته ودوره… وكان الهدف المحافظة على الحي التراثي بكامله، لكن بعض المتضررين من الثقافة ومن إعادة اسم البحرين إلى توهجه ونفض اسمال الصراع الطائفي في ظاهره السياسي في عمقه، دخلوا مشاغبين على المشروع، فاشتروا بعض البيوت المحيطة وهدموها ليقيموا برجاً على نمط دبي التي تبيع الماء والرمل والهواء، فتعذّر اكمال مخطط الشيخة مي.
المراكز الأربعة أنيقة من دون فخفخة، تحفظ تراث الرواد من دون ان يُرسَّموا قديسين… ثم انها تحيي رواد الأمس من أجل استقدام الغد عبر الكتاب والباحثين والشعراء والصحافيين وكبار الفنانين الذين يبشرون به بالكلمة والصوت الجميل واللحن المنشي.
وفي القاعات البسيطة، التي ترتفع على شرفاتها صور الذين جاءوا فحاضروا أو قرأوا قصائدهم أو غنوا فأطربوا (ومنهم، مؤخراً، السيدة فيروز، والمطربة المجتهدة في التجديد تمتيناً لحبل السرة مع الأصالة ريما خشيش) يحتشد جمهور بحراني ليست أعداده غفيرة لكن اهتمامه جدي، وحضوره لطيف يؤنسك بلمسة عاطفية ويناقشك بوعي يؤكد عراقته في الحضارة وجدارته بأن يضيف إليها، إذا أُوقفت الحرب عليه بالأسلحة المحظورة… إنسانياً!
تستحق الشيخة مي، التي تشرف مباشرة أو بعينها الساهرة ازميرالدا، على التفاصيل جميعاً، ثم تقف خلف الجمهور لتستمع إلى ضيوفها يقولون ما يفترضون انه ينفع الناس أو ينشيهم فينسيهم ولو لساعة وبعض الساعة هموم حاضرهم واشباح المخاطر التي تتهدد مستقبلهم.
… وتحية الى أجدادنا في دلمون، ان هم صدقوا اننا احفادهم!
إبراهيم سلامه يتذكر كيف يدخل المدينة!
أخيراً فعلها إبراهيم سلامه: شهر قلمه الذي يقطر في حالات الرضا ظرفاً ولطفاً وكياسة، ويتقطر في حالات الغضب والرفض سخرية مرة طالما أضحكت قراءه الذين داخوا السبع دوخات خلفه وهو يرحل من صحيفة إلى مجلة، ومن عاصمة في قارة سمراء إلى عاصمة في قارة شقراء، وكتب ما يتذكر مما عاشه بالطول والعرض في عالم الصحافة الذي تتداخل فيه السياسة بالاجتماعيات والشعر بالغناء وما يربط بين هذه العوالم جميعاً من أصناف النساء.
إبراهيم سلامه يتذكر: غداً سندخل المدينة … هذا هو العنوان الذي اختاره، على الأرجح، واحد من رفاق عمر برهوم في الصحافة وما يتفرع منها أو تمتد إليه من عوالم المشاهير الذين يتحولون في حضور قلم كسن الرمح إلى كاراكوزات أو عرائس من خشب: ذو الفقار قبيسي.
وذو الفقار للمناسبة دخل مجالات الصحافة جميعاً، وكان كلما نجح في واحد من فضاءاتها هجره منتقلاً إلى فضاء آخر، وهكذا فهو جرب التحرير من كعب السلم إلى قمة رئاسة التحرير، وكتب في السياسة كما في الاقتصاد فقال جديداً… وسافر فتولى مسؤولية التحرير في بعض صحف الخليج، ونجح… وعندها قرر ان يتقاعد فكسر قلمه وصمت.
أما إبراهيم سلامه الذي عرفه قراء الستينيات والسبعينيات، وسمع عنه قراء الثمانينيات، وسمع منه قراء التسعينيات، ثم أقفل عينيه وأذنيه ورمى قلمه وانطوى في قوقعة وجعه من تبدل الاحوال وغياب الرجال ومكر النساء، فقد انصرف بكليته إلى مواصلة المسير في جنازة الكلب التي تعلم فيها الكتابة وابدع قصائد من خشب !
عناوين أبواب الكتاب تدل على مضمونه: فبعد التقديم الطويل الذي قال فيه ذو الفقار قبيسي رأيه في عالم أيامنا هذه، تتوالى اعترافات إبراهيم سلامه التي تكشف قليلاً من الاسرار، وكثيراً من الرجال الأعلام، وبينها:
مرض الاسم المطبوع، روز اليوسف في مصر، علاقاتي باليسارات العربية، عصر أنور الجمل وعلي الشاعر وصحافة لبنان، أبو عصام (أي سعيد فريحة)، سليم سوني (أي اللوزي)، وصفي التل، أبو أياد، التنوري الرجل الذي لا ينام، الجاسوس والناقوس، رحلة الصين، سليمان بك (فرنجية)، ثلاث ساعات وزيراً لخارجية لبنان، عندما نسي سوكارنو عدم الانحياز، هواري بومدين، أم كلثوم وجيهان السادات. أما الخاتمة فتحمل استنتاجات إبراهيم وذو الفقار معاً: هل صرنا فعلاً خارج التاريخ.
ليس لهذه الذكريات منهج، وما هي إلا نتف مما عاشه إبراهيم سلامه، الذي أعطى نهاره لقلمه، وليله للندامى، وأخذت بيروت قلبه والقاهرة وجدانه، أما باريس فقد أعطته أكثر مما طلب، فلما حط الرحال في قبرص، كان قد تعب من انتظار نهايات الحروب، فجلس على الشاطئ يطلب بيروت ولا ينالها لأنه لا يعرف السباحة، فليس في نابيه بحر، وان كانت تطل عليه ويلفحها رذاذ أمواجه حين يعلو الموج ويهدر غضباً.
لم ينس إبراهيم سلامه واحداً من زملائه الصحافيين، صغارهم الذين كبر معهم، والأساتذة الذين صيروه كبيراً، خصوصاً انه تنقل بين مختلف المجلات والصحف في لبنان والمهاجر: من حوادث سليم اللوزي، إلى صياد سعيد فريحة، إلى الأسبوع العربي لصاحبها جورج أبو عضل، إلى الصحافة مع جان عبيد، إلى المحرر مع محسن إبراهيم وهشام أبو ظهر وغسان كنفاني، فإلى المستقبل في باريس مع نبيل خوري، فإلى الدستور مع علي بلوط، وغيرها كثير من المطبوعات. دار إبراهيم سلامه حول العالم ليعود إلى نقطة الصفر… فإذا الحرب في لبنان لا تزال مستمرة! وصعق، فهو قد نفد منه البارود، ونضب الحبر في قلمه باليأس، وخسر كثيراً من الأصدقاء والزملاء، ونسي ان يتزوج وان ينجب، ولم يعد في القاهرة ما يشده شغفاً، ولا في باريس ما يبهره، ولا في قبرص ما يريحه، وأقفرت بيروت من أصدقائه الكثر، وصارت لندن البعيدة اصلاً أكثر بعداً، وهكذا لم يتبق له إلا نابيه ونتف من الذكريات التي جعلها كتاباً.
غداً سندخل المدينة يحوي لمحات من سير العديد ممن صنعوا زمن إبراهيم سلامه، فيهم من قادة الثورة الفلسطينية كثيرون، وفيهم من رجال الجزائر بومدين، ومن لبنان الرئيس سليمان فرنجية وريمون إده، ومن الأردن وصفي التل وآخرون، ومن سوريا أكرم الحوراني والعديد من البعثيين على تعدد انشقاقاتهم…
فيها أيضاً نتف من ذكريات أهل إبراهيم سلامه في الوطن والمهجر، وبينهم عبد المحسن قطان (الفلسطيني) ورجا صيداوي (السوري) وطوني تنوري (اللبناني).
أما الخاتمة فنتركها لكاتب المقدمة ذو الفقار قبيسي: كتب إبراهيم سلامه لي وللقراء أن هجوم العسكر إلى المواقع المدنية والعلمية والنهضوية في الحكم يبدو كأنه عودة بني عثمان في آخر الأزمان .
مبروك يا برهوم انك ما زلت تعرف كيف تمسك بقلمك الذي كاد يأكله الصدأ!
أرجوحة في مدار العينين!
كانت قريبة منه، وفي مواجهته تماماً، حتى لقد رأى نفسه جرماً صغيراً في مدار عينيها. كلما افترض انه قد استقر فيهما انتبه إلى انه بالكاد تعرف إلى لون الحدقتين ثم أخذه انبهاره إلى نشوة مسكرة… بينما هي تواصل أرجحته بينهما!
أصغى فلم يسمعها، لأنه كان مشغولاً بانفراج الشفتين وانضمامهما وتلك الابتسامة التي كانت أول الأمر مجاملة، ثم صارت طبيعية، قبل ان تتفجر الضحكات لتكسب العينين صفاء دامعاً، ولتكسب الوجه اشراقة مكهربة.
تلعثم بكلمات متقاطعة، واستمرت تشرح مهمتها بعناد رآه تحدياً، فاكتفى بهزات من رأسه، بينما عيناه تهربان من معانقة مستحيلة مع عينيها اللتين اشتعلتا حماسة، لتتابعا حركة يديها اللدنتين بالاصابع التي من لجين.
وحين قامت منصرفة رآها من خلال احباطه أقصر مما كان يفترض وهي جالسة، واسمن قليلاً مما قدر، وثرثارة أكثر مما يحتمل، ومشغولة بذاتها بما يمنعها من منادمة من يسمعها.
على انه برغم ذلك لم يستطع ان يمنع نفسه من تنشق شميمها الذي صار عنوانها الذي لا يعرف الطريق إليه.
من أقوال نسمة
قال لي نسمة الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
لا تغرنك النساء بعقولهن. ففي كل امرأة طفلة تستعصي على الزمن، فلا تكبر أبداً، وتظل تريد لعبة تؤكد اهتمامك بها. من تعامل مع عقل المرأة ناسياً الطفلة داخلها لم يصل إلى قلبها أبداً، وحرمها نعمة الحب.

Exit mobile version