طلال سلمان

هوامش

نسمة أجزاء .. بين أيدي المجنون وعلى شفاه عشاق الحياة
دخلت قاعة مسرح الحمراء في دمشق متهيباً.. هذه أول مرة سأكون معروضاً لا متفرجاً ، وفوق الخشبة لا في مقاعد الجمهور، تحت.
كان فضولي أعظم من خوفي: أريد أن أكتشف السر في تلك اللعبة التي تحول الكلمات المرمية في زاوية مطموسة من صفحة داخلية في صحيفة يومية أولها السياسة بمعناها المبتذل وآخرها السياسة مكتوبة بدمائنا، الى حركة تتجاوز بتعبيرها قدرة الكلمات على الإيحاء واستثارة الحزن أو الفرح أو.. الفضول!
كيف تعيد الكلمة خلق إنسانها: يقولها حزينا أو سعيداً، ملولاً أو مشوقاً، استذكاراً لطيف أو هربا من شبح مزعج، فتقوله فتفضح صدقه غالبا، أو كذبه أحيانا، فإذا الكلمة تتدفق مرحاً أو تعاسة، يأساً أو استبشاراً، زهداً أو إعلانا رماديا عن انكسار أخرس.
عندما أطفئت الأنوار في القاعة، صار ممكنا الانتباه الى ستة أشباح في خلفية المسرح، يجلسون متجاورين، ذكراً فأنثى، ثم يعلنون عن وجودهم بإيقاعات تشارك فيها، مع الموسيقى التي يتصاعد دوي ضرباتها، أقدامهم وأيديهم، بينما تتسع دائرة الضوء لتكشف ملامح ذلك المخلوق الوهمي المتكرر الذي لا يتعب من القول نسمة ، والذي سيباشر الآن مغامرته في مواجهة من افترض أنه يتقمصهم أو من افترضوا أنه أو أنها، كان أو كانت، تعبر عنهم أو عنهن.
في البداية كنت معنيا باكتشاف موقع كلماتي ، أنا الذي طالما أحببت المسرح كمتفرج، في الحركة التي تتحول تدريجا الى حكاية وتقدمني الى الناس بغير صفتي التي يعرفون، وأعرف… ثم أخذني توالي المشاهد بالحركة النشطة والإيقاعات الراقصة، والإيماءات الدالة، فنسيت علاقتي بالنص الذي بات الآن لغيري، حتى انتبهت الى أنني أسمعه وهو يأتيني من خارجي .
في لحظة، دوّت في أذني كلمات لي بها صلة قربى، مع أن غيري قد استخدمها كثيراً قبلي وسيستخدمها غيرنا بعدنا، لكنها في تلك اللحظة عادت إلي تطالبني بأبوّتي: ألم نتفق أن نصنع زماننا، أن نخلق دنيانا لتغنينا عن اتساع الأماكن. ألم تقل: يمكننا العيش في حدقة العين، في نبضة القلب، في لمسة اليد، في همسة نسمة معطرة تسحبها نحلة الى خليتها في قفير العسل.. .
كان عليّ أن أقرر: إن رصدت الكلمات سأخسر متعة متابعة حركة الممثلين والممثلات، تلك الحركة التي يمتزج فيها الرقص التعبيري مع استيلاد المضمون بالتجاذب تقاربا حتى الذوبان وتباعدا الى أبعد تخوم الخصام، اعترافا بالاحتراق أو تفاديا له بالخطيئة.
لم أكن قد قرأت النص ، كما أعاد صياغته المخرج الشاب أمجد طعمه، هذا الذي أراد أن يكون ممثلاً وصحافيا وكاتباً ثم غلبه جنونه فقرر أن يكون تلك المهن جميعا.. واختارني حقل تجارب، بالتواطؤ مع نسمة ، فإذا تلك الأقوال غير المأثورة تتداخل، تتقاطع، تتباعد، تستولد المعنى والسياق، فيتصدى لها أمجد، مجددا، ليحولها الى أجزاء : جزء من فضول، جزء من كذب، جزء من تردد، جزء من قلق، من حصار، من مغفرة، من خيانة، من فرح، شك، رغبة، وجع، ومن جزء أخير إن اكتمل اكتملنا فيكون صبح، بعد كل هذا الليل، ويكون بوح بعد كل هذا الصمت، وتكون روح نحيا بعد كل هذا الموت الذي نعيش.. وهذا التقديم، في ذيل الإعلان، لأمجد.. بطعمه شخصيا!
وفي الجزء الموجع ، الذي يجعله أمجد بالعامية، تختصر هي الموقف: الحب يسكن جوا الوجع، إذا ما قدرنا نفهمه.. فهمت!
أما في جزء من الشك فتواجهه المرأة بقوله: عرفت نتفاً من امرأة وسط طوفان من النساء، لا المرأة اكتملت لأحبها، ولا النساء سمحن لي بالاكتمال … وتهب نيران الغيرة الحارقة فتأخذ المرأة الى الكفر، ولكن رجلها يعيد على مسامعها مقاطع من كتابة أخرى: كم امرأة فيك أيتها التي يختفي اسمك في ثنايا أنوثتك البرية، تأخذني امرأة منك الى امرأة، وفي الطريق تخطفني امرأة، ثم ترميني في بحر من النساء المتشوقات الى أحزان الرجل الوحيد.. … ولأنها تعرفه وتحفظه بشخصه وبكلماته عن ظهر قلب فإنها ترد عليه بكلماته، مرة أخرى: من قال إن المرأة قابلة للقسمة؟ إنها قابلة للجمع فقط.. .
حين نصل الى جزء من الخيانة نكون قد تهنا في فهم العلاقة، ومن منهما تغير، والى أي حد…
ثم تجيء المغفرة أو جزء منها: إنه الغرور جعلك تغفر لتزهو.. أضافني غرورك إليك لترضيه، أرضيته واختفيت أنا فصرت عظيما بي.. ولكنه يرفض أن يكون إضافة.
أما في جزء من التردد ، فننشدّ الى الاعترافات:
يقول: كان عليّ أن أستوطن الحلم، لأنه يسكنني. لأنني أغمض عيني وأدخل مغلقا الباب خلفي حتى لا يغادرني، ودائما تسكنين حلمي. أخرجك، أطردك لكنك تعودين.
وتقول: اذا أردتنا أن نفترق اجعلنا على الأقل نلتقي في الظن، في التمني.
تخيل أن سرباً من الطيور قطع الصحراء كلها وكاد يصل الى واحة، لكنه تراجع مللاً ليموت في الصحراء…
ثم تستدرك فترميه بفكرة أخرى: لقد سخر الرب من البشر جميعا. أغراهم بأكل التفاح الذي خلق ثم طرد البشر والتفاح من الجنة.
في جزء من الفضول الكاذب يحاول أن يستدرجها للاعتراف بخيانته، وتطالبه بأن ينسى…
يستمر الحوار بين الحب والغيرة، بين كراهية الخائن والعجز عن المغفرة، لأنه ينسى أنها إنسان فيصر على محاسبتها كملاك، فيستحضر الشياطين جميعا لتلتهم حبها: اترك لي مساحة الخطأ، لأنك لو كنت نبيا معصوما لما أحببتك، ولا استطعت أن تحبني .
أما في جزء ما قبل الاكتمال فيتفارقان ويرفرف شبح الخيانة المتبادلة التي ما عاد أي منهما يحاول تبريرها فيملأ المسرح.
[[[
أجزاء . لقد جعلني أمجد طعمه أجزاء . لكن الممثلات والممثلين البارعين والبارعات في أن يعيشوا الحب، الغيرة، الهجر، الخيانة، لقاء اللهفة والعجز عن الافتراق، ونقص القدرة على الذوبان، قدموا ساعة من المتعة للعشاق جميعا، سواء الذين يعيشون حبهم، أو الذين عجزوا عن جعله جنتهم فصار جحيمهم.
ليس لي أن أمتدح أو أشيد. فما أنا بناقد مسرحي، ولا أنا بملاك متطهر. فاسمي على العمل ، ولو من دون علمي، ومن دون إذني. وهذا ما يفرحني. لقد سمعت اسم أمجد طعمه عندما تكرّم بدعوتي عشية افتتاح جريمته …
ولكنني سعدت حقا بالتعرف الى ممثلين وممثلات من جيل الشباب، كلهم خريج المعهد القومي للمسارح والموسيقى في وزارة الثقافة السورية.
وإنني أحس بعرفان الجميل لكل من رغدا شعراني وشادي مقرش ولمى حكيم وأيهم أمجد آغا ولاوند هاجو ولميس منصور. لقد حولوا أجزاء أمجد طعمه الى عمل فني، لوحات عشق راقصة، وأضفوا على الكلمات من روحهم حتى صار نسمة قيساً معاصراً أو ليلى من القرن الحادي والعشرين.
هل عليّ أن أشكر كل من شارك في الاختيار والإعداد، أو شجع على هذه المغامرة التي كانت تحتاج مجنونا ومجموعة من الطامحين الى الجنون لإخراجها بكل هذا الجمال والبهاء والرونق وسائر ما يستدعيه الحب ويضفيه على حوارييه؟
قبل الشكر وبعده عليّ الاعتراف بأنني فرحت بالتعرف الى الدكتور عجاج سليم الحفيري، مدير المسارح والموسيقى في وزارة الثقافة، الذي شجع على ارتكاب هذا العمل الممتع، وسمير عدنان المطرود، وهو كاتب ومخرج مسرحي ومدير مسرح الحمراء، على أن يفتح مسرحه الحميم لهذا العمل المجنون كتابة، وإخراجاً وتمثيلا ورقصاً وإيماء ورواية.
جوزف سماحة: الحضور الكثيف للغياب
ولا جوزف! اظهر وبان، عليك الأمان!… لن نفشي سرك لأحد، لأننا أصلا لم نعرف منك إلا ما أردتنا أن نعرف، فبقيت لك في أذهاننا وفي وجداننا الصورة التي أردت أن تبقى، في حين ظللت معتصما داخل قوقعة وحدتك التي لا يخترقها الجمع، ولا حتى المفردة التي يستهويها اكتشاف عوالم داخلك الرحب.
ولا جوزف! ألم تضجر بعد من هذه اللعبة: تختفي فجأة وتغيب في البعيد حتى نكاد ننساك، ثم أجدك ذات عصر في مكتبك منحنيا على أوراقك تبذر فيها أفكارك لينبت معها ومنها الغد الأخضر… أو متمدداً فوق كنبتك في الركن الحميم تقرأ بالفرنسية التي تفهم إيماءاتها ودلالاتها المضجرة، لا سيما أنك تعرف بعض الأهم من كتّابها… أو بالانكليزية التي تعلمتها بعنادك، ما ترى ضرورياً أن تفيد منه لإغناء تحليلاتك فيقرأها العرب فيفهمون أنهم انما يمشون بأقدامهم الى الكوارث التي اصطنعها تخلفهم وجهلهم أو تواطؤ بعض حكامهم مع أعدائهم على أهلهم.
ها قد أعدتنا أيها الماكر الى السياسة، أنت الذي لم أعرف منك وعنك أنك ما أحببت من أهل السياسة إلا اثنين. أولهما القائد الذي حاصره نظامه وفرض عليه أن يصارعه وحيدا حتى صرعه وانتصر عليه بالتواطؤ مع أعدائه الكثر، جمال عبد الناصر.
والثاني هو القائد الذي يقتحم بجهاده أسوار العدو الذي لا يُهزم فيهزمه بإرادة الأمة ودماء فتيتها البررة الذين آمنوا أن من يتخلى عن أرضه لعدوه لن يكون له غد فيها ولن تكون له جنة بعدها… فأول الدين أن تحرر أرضك لتحرر إرادتك ولتسترد حقك في أن تكون أنت لا ما يراد لك أن تكون. وكنت ترى أن السيد حسن نصر الله هو نسخة جديدة من جمال عبد الناصر مع اختلاف يفرضه اختلاف العصر وظروف التحولات.
ولا جوزف… مؤكد أنك تتطلع من عليائك الى اجتماعنا هذا من حول اسمك بكثير من السخرية، أيها الماكر الذي كنت ترى الموت بعيداً جداً حتى ليمكن نسيانه، وقريباً جداً لا يحتاج الى تذكرة سفر وتأشيرة، مع ذلك فقد اشتريت التذكرة وسافرت إليه على عجل فاحتضنك الى جانب الصديقة مي غصوب لتكتمل مأساة رفيق العمر حازم صاغية، ذلك الذي كان كل لقاء بينكما يؤكد اختلافكما الفكري العميق وفي قلب الاختلاف تتعمق الصداقة متجاوزة إطار الأخوة.
أغلب الظن يا جوزف أن معظم أصدقائك هم ممن تخالفهم الرأي ويخالفونك في يقينك… وبالتأكيد فإن العديد منهم لم يكن يحب أن يرى الصورة الوحيدة في مكتبك، وهي صورة جمال عبد الناصر، ولا هم أحبوا اندفاعك نحو المقاومة الى حد التوحد مع وجهتها، حتى وأنت تعترض على بعض ما يتضمنه خطابها وما يحيط بمواكبها من شعارات يغلب عليها الطابع الديني.
وكنت مؤهلاً، أيها الماكر، على الفصل المطلق بين صداقات الليل والعلاقات مع الزملاء والموقف من أهل السياسة نهاراً…
وكثيراً ما اتصلت بك هامسا على الخط الداخلي لأخبرك أن فلانا أو علانا من السياسيين عندي، ونادرا ما جئت لتنضم إلينا… ولعلك أكثر تساهلا في انتقائيتك ليلاً عنك نهاراً، فلم تكن تجيء للمشاركة إلا اذا كان الضيف خصماً لتجادله فتفحمه، أو سياسياً مستنيراً لتناقشه محاولا تشجيعه على مزيد من الوضوح في تعبيره عن موقفه.
في البداية كانت العروبة، والوطنية تنبع منها وتصب فيها، وكذلك التقدمية وحتى الموقف من الدين.
وفي هذه اللحظة فإن المقاومة هي القضية، من ساندها ونصرها فهو صاحب الحق في نقدها لترشيدها ومن داخل التسليم بأنها من يمسك بمفاتيح الغد الأفضل، ومن هاجمها واستعداها واستعدى عليها الدول كان ناقص الأهلية وطنيا، وكان يذكي الفتنة ليحمي بها العدو، أما الطائفي والمذهبي فيمكن تصنيفه كمجرم حرب يخدم العدو من داخل خطوط الدفاع…
عدنا الى السياسة،
لكنني لا أعرف من وجوهك، أيها القريب على بعده، الصديق على نقص تعبيره عن وده، أيها الذي أربكتني في علاقتي بك كما لم يربكني أحد… فأنت من السفير في صميمها، محرراً ثم مسؤولاً لصفحة الرأي فيها، وفي فترة لاحقة وبعد غيبة أولى مديراً للتحرير، ثم بعد غيبة أخرى رئيساً للتحرير تفرض عليّ وأقبل منك ما لا أقبله من غيرك أن أتحول الى ناشر وما أنا بناشر، وكاتباً لافتتاحيتها أعتز بنتاجه بقدر ما أعتز بنتاجي وأكثر.
وأعترف بأننا لم نكن صديقين تماما… فلقد ظل هذا الماكر يعاملني بمشاعر يختلط فيها الزميل مع الأستاذ مع الأخ الكبير، وربما في لحظات مع صورة مهزوزة للأب الذي لم يعرفه جوزف كثيراً، ولم أرغب في أن أكونه أبداً، أنا الفاشل في هذا الدور أصلاً.
وله جوزف… لم نجتمع هنا بمبادرة من الذين فرضوا عليك صداقتهم وأحبوك رغم أنفك، إلا لنقول إننا نحفظك برغم محاولاتك نسياننا، وإننا سنظل نذكرك ونلتقي على اسمك، برغم نفورك من التأبين والاستذكار والعيش في ظل الموت ومن يختطفهم منا، ونحن نحبهم كثيراً حتى من قبل أن نعرفهم تماماً.
ها نحن نعرف الآن كم هو مفجع غيابك الذي لم تحدد، هذه المرة، موعده ووجهته، والذي لن نستطيع استعادتك منه إلا عبر ما كتبت راسماً لنا ملامح الطريق الى الغد بهدوء، والآن… هنا.
سلاماً أيها الذي لم يسمح لنا أن نعرفه أكثر، ربما وهو الماكر، لكي نحبه أكثر.
وشكراً لهؤلاء الذين جمعونا باسمك وعليه.
(كلمة ألقيت في حفل أقامه محبو جوزف سماحة في الذكرى الأولى لغيابه بدعوة من نادي اللقاء في مسرح المدينة).
من أقوال نسمة
قال لي نسمة الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
لا يمكن الحديث عن الحب بصيغة الغائب، أو المجهول. إن الحب يستحضر ذاته بذاته. اقرأه في عينيّ من تصادف، في رعشة من تصافح، في التماعة عينين من ينتظر حبيبه كلما انفتح الباب، أو صدحت الموسيقى.
الحب هو أنت، هي، هم، هن، أما شهود الحال فسيغرقون في تنهداتهم الحرى وهم يستذكرون أو يطلقون الدعاء: اللهم لا أطلب منك إلا حبا يجعل للعمر معنى. تعيش من عمرك زمان حبك.

Exit mobile version