طلال سلمان

هوامش

عندما أمسكنا بالحلم ثم تركنا عبد الناصر وحيداً
في مثل هذه الأيام من العام ,1958 أي قبل نصف قرن، اعتبر أبناء جيلي أنهم قد أمسكوا الحلم بأيديهم وأنهم مؤهلون وقادرون على إعادة صياغته كحقيقة وقاعدة لحياتهم، بعدما عاش أهلنا في أفيائه يحاولون الوصول اليه فيعجزهم واقعهم المتردي الذي يتكشف لهم فجأة حقلا من الألغام.
لم نتوقف لحظة لنفكر في حقيقة أننا سمعنا خبر قيام دولة الوحدة من الإذاعات… ولم تستوقفنا المفارقة المتمثلة في تحقيق الحلم بهذه السرعة، وبهذه البساطة بين من لا يعرفون عن بعضهم البعض إلا القليل القليل.
لم نكن على استعداد لأن نفسد الفرح بالتفكير، أو بالأسئلة المشروعة بل الضرورية التي قد تشوش عليه فتفسده علينا.
أرجأنا الأسئلة التي لم نكن نملك أجوبة عليها مفترضين ان الكبار لا بد قد فكروا في مواجهتها طويلاً، وانهم لا بد قد أعدوا لكل أمر عدته، وأنهم لا بد يعرفون خطورة ما يقدمون عليه.
زحف اللبنانيون، الذين كانوا قد سلموا بأن أوضاع كيانهم الهش، وهي دقيقة جداً وتكمن في تلافيفها الدول ، الى دمشق بحماسة منقطعة النظير، استخدموا وسائط النقل جميعا، الاوتوبيسات، السيارات، الشاحنات، الدراجات، الأحصنة والبغال والجمال… وآلاف منهم، لا سيما أهل البقاع، ذهبوا مشيا على الأقدام.
تلاقى في تلك المساحة الخرافية التي تمتد من ساحة الأمويين الى حيث بات يقام، في ما بعد، معرض دمشق الدولي، الى كامل مساحة المرجة صعودا مع ابو رمانة الى ذرى جبل قاسيون، الزاحفون من بيروت ومن صيدا وصور وجبل عامل وسائر الجنوب ومن طرابلس وشمالها، ومن معظم أنحاء الجبل، مع إخوانهم السوريين المتقاطرين من مختلف أنحاء سوريا، ومع جموع غفيرة من الفلسطينيين والأردنيين الآتين ليشهدوا بزوغ فجر مستقبلهم العربي المؤهل لأن يكون في مستوى تمنياتهم المختزنة منذ قرون… بل لعل البشرى بالوحدة قد استحضرت فلسطين وفرضتها كمهمة أولى على الدولة الوليدة إن لم يكن كشرط وجود.
رأى العرب في إعلان قيام دولة الوحدة تحت اسم الجمهورية العربية المتحدة إيذانا بتصحيح التاريخ والجغرافيا، وبالتالي الكيانات السياسية التي استولدها عصر الاستعمار.
كانت العيون تتجه نحو الأردن ، الذي ترى فيه الغالبية اقتطاعاً بريطانياً من قلب العروبة العروبة تمهيداً لاستنبات اسرائيل فوق أرض فلسطين وعلى حسابها، ونحو العراق فترى أن ملكه الهاشمي قد أضاع حلم الأمة بدولة العرب الواحدة الموحدة بل باعه بمملكة له الى جانب إمارة لشقيقه.
ها هي لحظة تصحيح الأخطاء قد حانت أخيرا. ها نحن نعود الى التاريخ كمساهمين في صناعته، لا كأحجار شطرنج في يد اللاعبين الكبار.
[[[
لم نكن نرى في جمال عبد الناصر رجلاً كالآخرين.
حتى ونحن أمامه، نمد اليد لمصافحته مبهورين، كمن نجح أخيرا في الإمساك بحلمه، كنا نتطلع اليه على أن فيه سحراً، وان له من القوة ما يمكنه من اختراق المستحيل ومن قطف الأمنيات.
كنا نراه وكأنه قد صار جميعنا، بأمانينا وأحلامنا ومطالبنا من حياتنا. كثير من سكان الرصيف خلال فترة وجوده في قصر الضيافة كانوا آتين ليطالبوه بمياه الشفة والكهرباء والمدرسة الى جانب تحرير فلسطين وطرد الانكليز من العراق واستعادة النفط من الاميركان… ولعل بعضهم كان يطمح أن تبني له الوحدة بيتاً يحمل اليه فتاة الأحلام التي يعطل زواجه منها الافتقار الى شقة.
لم يكن جمال عبد الناصر أطول الناس قامة، لكن الجمع كان يراه عملاقاً، وبالاستطراد فهو خارق القدرة. وكانت عيناه لامعتين، والنظرة حانية، ولكن من تسنى له أن يصافحه عاد يروي الحكايات عن قدرته على قراءة الغيب وكشف المخبوء.
لم يكن المصريون كالسوريين لا في علاقتهم بالسياسة ولا في إيمانهم بالعروبة وقضية الوحدة. وفي ما عدا جمال عبد الناصر والقلة من صحبه فإن كبار الموظفين المصريين لم يكونوا معنيين بالدلالات السياسية الخطيرة لمشهد الحشد الشعبي غير المسبوق وللهتافات والشعارات التي تتجاوز شخص البطل لتركز على أهداف كانت تتقدم عليها عند المواطن المصري (تحديدا) مطالب أبسط بكثير ومع ذلك يستعصي عليه تحقيقها.
[[[
من دمشق الى حمص وحماه وحلب، الى جبل الدروز وحوران، الى الحسكة والرقة ودير الزور، ثم الى اللاذقية وطرطوس وسائر بلدات الساحل، تكررت المشاهد الأسطورية: الجماهير تندفع متزاحمة فلا تنتظر أن يترجل القائد بل تحمل السيارة وهو فيها وقد بلغت حماستها الأوج هتافاً وتهليلا وتكبيرا، كأنما سيقتحمون به ومعه باب المستقبل المرصود.
كان قهر عصور التبعية والالتحاق والاستعمار يتهاوى تحت أقدامهم وهم يتقدمون به، وقد زودهم بالقوة التي يحتاجون لإنجاز النصر: فالوحدة، عندهم، هي الحرية، وهي فلسطين، وهي هي الخبز مع الكرامة، وهي تعويض ما فاتهم من أسباب التقدم، ثم إنها هي هي الديموقراطية، أليس بإرادتهم قد قامت هذه الدولة التي تصون ولا تبدد، تشد أزر الصديق وترد كيد العدو ، وتستقدم الغد الأفضل على عجل لتعويض ماضي القهر والإذلال والضعة.
[[[
ها نحن بعد خمسين عاماً، قد تراخت أيدينا وأصابنا الوهن فإذا أحلامنا كوابيس، واذا ما تأكدت القدرة على إنجازه قد سقط لأننا عجزنا عن حمايته. لقد تعجلنا ملهوفين أن نخوض المعارك جميعا دفعة واحدة، وأن نواجه الأعداء مجتمعين، معتمدين على عواطفنا التي لا تغني عن المعرفة بالذات وبالآخر، وأساسا بالعدو. افترضنا أن الحشد يغني عن الفرد، وأن الاجتماع على الفكرة يغني عن التدقيق في القدرات وفي التفاصيل، وأن الزعيم يجمع في شخصه الإرادة والقدرة والخطط والمعرفة التفصيلية. ذبنا فيه، وأرخينا على كتفيه الأعباء جميعا، ثم عدنا الى بيوتنا وكأننا أنجزنا ما علينا وأن عليه وحده أن ينوب عنا في المواجهة وفي المتابعة، في التفكير والتخطيط والتنفيذ، في المحاسبة وفي المساءلة وفي توقيع العقاب ومنح الثواب. لقد أضفينا عليه الكثير من صفات الخالق ثم حاسبناه محاسبة المذنب، المقصر، الطاغية، الدكتاتور وأخيرا… المهزوم، والمتسبب في انكساراتنا الجديدة وفي إضاعة الفرصة لتحقيق الحلم.
… ها هو الشارع مفتوح الآن، كما لم يكن، في أي يوم، للبغضاء، للكراهية السوداء، العصبيات القاتلة طائفية ومذهبية وعشائرية وعنصرية. ها هي اسرائيل تقتحم علينا بيوتنا فتغتال وحدتنا وقدراتنا وأحلامنا. وها هي الراية ذات النجوم الكثيرة تظلل سرايا الحكم في بلادنا جميعا من أدناها شرقاً الى أقصاها غرباً. وعلينا أن نحاسب أنفسنا لأننا أخلينا الشارع، ولأننا وأدنا أحلامنا خوفا من السيد الأميركي أو الإسرائيلي.
ها نحن أولاء بلا أحلام. كيف يكون إنساناً من يعجز عن حماية حلمه، وعن التقدم في قلب الصعب لتحقيقه. من لا يحلم يغرق في الاستحالة ولا نجاة. وها نحن غرقى في مستنقعات ضعفنا القاتلة. من يعجز عن حماية حلمه لا حق له في المستقبل، فجنين المستقبل في قلب الحلم، ونحن أصغر من أحلامنا… حتى إشعار آخر!

عبد القادر حجار يذكرنا بالثوار الذين استعادو الجزائر…
أخيراً، عاد إلينا عبد القادر حجار من حيث لا نتوقع… دخل على صديق مشترك بكتاب يحمل توقيع المناضل في صفوف الثورة الجزائرية على شكل شهادة أسير خلال ثورة التحرير وتحت عنوان الحب والحرب بين الذكرى والذاكرة .
ولقد عرفنا في لبنان وسوريا وفلسطين ومصر وأقطار عربية اخرى، عبد القادر حجار سفيراً يرى الدبلوماسية مواصلة للثورة بأسلوب يختلف شكلا عن الكفاح المسلح لكنه لا يتناقض معه في الأهداف… ومن هنا فإن كثيرين من زملائه أو من القادة السياسيين كانوا يتهيبون لقاءه، ويخافون صراحته التي لا تتقيد دائماً بموجبات الدبلوماسية، كاعتماد الثورية بديلاً من الصراحة، أو المجاملة التي كثيراً ما تطمس الحقيقة. فعبد القادر حجار يرى الإنسان نسخة واحدة، وبالتالي فلا بد أن تظل الحقيقة واحدة حتى مع اختلاف أساليب إعلانها.
نحن أمام مذكرات ذلك الفتى المتحدر من نسب شريف لأسرة كان اضطهاد المستعمر قد أذلها بالفقر وإنكار الهوية، والذي تسنى له أن يحصل على قدر من التعليم، مرتكزه ديني أساساً، فكان طبيعيا أن تلفحه رياح الثورة في وقت مبكر وأن ينضم الى صفوفها التي كانت قيد التكوين… وكان طبيعيا من ثم أن يعتقل، وأن تتعدد زنازين سجونه، قبل المحاكمة على تهمة خطيرة مفادها أنه جزائري وليس فرنسيا، وبعد المحاكمة التي قضى عدلها بحبسه ضمن مجاميع المناضلين الذين اعتقلوا ثم سجنوا حتى يبرأوا أو يتبرأوا من هويتهم الوطنية فلم ينفع السجن إلا في تثبيت إيمانهم بحقيقتهم وبانتمائهم الثابت الى وطنهم والى دينهم الحنيف الذي كان رافعة عظيمة لنضالهم الوطني.
في الكتاب الذي تختلط فيه السيرة الشخصية مع ذكريات أيام النضال ضد الاحتلال الفرنسي شهادات حق في العديد من المناضلين، رفاق السجن، وروايات عن الجرائم التي ارتكبها المحتل سواء في عمليات التمشيط الكبرى بحثا عن الثوار، أو في الاغتيالات الجماعية التي نفذها بحق المجاهدين، الذين كان يضيق عليهم الحصار بعد إقفال الحدود الغربية والشرقية.
ثم إن فيه إشارات ولو سريعة الى الدور التعليمي الذي قام به هذا المجاهد الذي وجد نفسه مضطراً لان يتولى تدريس رفاقه في السجون، لأنه كان أعرفهم، وهكذا فإنه قام بتعليمهم أصول اللغة العربية والتاريخ والجغرافيا والكثير من مبادئ الإسلام وتعاليمه من دون كتاب…
الكتاب الذي يضم نتفا من ذكريات المجاهد القديم، رواها في صالون غازي الثقافي العربي ، والذي أهدي الى الجزائر العربية: الوطن والمدينة والثقافة والهوية بعض ملامح النضال المتعدد الوجوه. لم يكن الاستعمار الفرنسي للجزائر تقليديا بل كان استيطانيا، يشابه الى حد كبير الاستعمار الاستيطاني الاسرائيلي لفلسطين. من هنا كانت الضراوة في مكافحة اللغة العربية، وأساسا في مكافحة الدين (الإسلام) ومحاولة اقتلاعه من صدور أبناء الشعب المحروم من أن يكون ذاته، لا تقل عن الضراوة في محاولة استئصال المجاهدين الذين انخرطوا في صفوف الثورة ومنحوها حياتهم.
ايه ما أعظم الثورة وما أعظم الثوار .
فمع الانتصار جرى الإفراج عن السجناء والمعتقلين، وتم تنظيم دقيق لاستقبالهم، ينطلق من عند باب السجن مباشرة، حيث تستقبلك جماعة باسم النظام ويقودونك الى حيث تجهز لك الملابس بعد التدقيق في المعلومات عنك وعن رغبتك في الالتحاق بالجهة التي كنت فيها .
ومع أن الجانب الشخصي من المذكرات كان مأساوياً، اذ إن السجين العائد الى قريته لم يعرف أين يجد أباه، إلا بعد جهد، في حين ان أمه كانت قد غادرت الدنيا، واختفت تلك التي أحب، فإن الجانب السياسي لم يكن مبهجاً اذ ان خلافات الثوار سرعان ما شوهت وجه الانتصار وكادت تذهب بالثورة جميعاً.
وبالنسبة إلينا، نحن الذين عشنا مع الثورة، وحملنا في القلب رموزها، فإن انتصارها بإعادة الجزائر الى هويتها وأهلها، كان يكفينا… في انتظار أن يكملوا الجهاد الأصغر بالجهاد الأكبر، وتلك هي المهمة التي تنتظر الجميع في غدهم.
أهلا بك سي عبد القادر في نادي الكتاب، مناضلاً صلبا، ورجل المهمات الصعبة، و العربي الذي زادته الثورة إيمانا بعروبته، فكان خير سفير لتلك البلاد التي لا يتقن أهلها الدبلوماسية لعنفهم في الصدق مع الأخ كما مع الصديق، وهو هو العنف الذي استنقذوا به هويتهم الوطنية بمليون من الشهداء.

الحياة تنتظر عند بابك…
لو أنك تسمحين لي ببعض وجعك لكنت صرت أرق عاطفة وأسخى عطاء وأقوى في مواجهة الصعب.
لو أن لي مثل قلبك الذي ملأ الدنيا حباً، واتسع للناس جميعاً، وظل يركض خلف الأطفال ليدرأ عنهم ثلج الصد وبرد الوحدة، ويستجلب لهم الفرح من دفء الأمومة الشاملة التي تأنف من التمييز، وتراهم جميعا في لثغة تلك عرفت المعنى قبل أن تفهم اللغة،
على أنني أعرف أن الصدر الذي يضم كل تلك القبائل من المبدعين والعباقرة، والذي طالما حنا على التعساء وأبناء السبيل وأمدهم بالأمل وبالثقة وبالقدرة على التحمل، سيحول مشرط الجراح الى ريشة لرسام ينثر البهجة في الهواء لتصل الى الناس جميعاً، فإن أعجزه التصوير انطوى على عوده ليضيف الى نعمة الحياة النشوة بالموهبة،
الحياة تنتظر عند بابك بالهدايا. فخذي حياتك بيديك واكتبيها لنتعلم منها كيف نكون جديرين بالحب، فنعيش له وبه.

من أقوال نسمة
قال لي نسمة الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
كلما أعطيت من قلبك زادت قدرتك على الحب.
الحب نهر في حالة طوفان دائم، يروي العطاش وينعش في صدورهم تلك البذور الهامدة فتدفع بورودها الى السطح احتفالاً بالعيد الذي اذا ما رعينا نموّه سيكون حياة…

Exit mobile version