طلال سلمان

هوامش

وجيه رضوان واللقاء المتصل منذ ألف عام!
خلا الطريق من ذلك الطيف الذي كان ينبت فجأة أمامي بغير موعد، بين حين وآخر، فيرمقني بنظرة ود وألوّح له بتحية من يدي، بعدما كنا توافقنا على ان يتابع كل منا سيره إلى مقصده، وقد اطمأن الى ان صديق عمره ما زال يدب على قدميه… نحو باب الخروج!
أحياناً، كان يعدل خط سيره فيقصدني في مكتبي في غدوه او في إيابه من نزهته اليومية، ليطمئن الى ان جيلنا قد نجح في خرق المستحيل ، وأن جريدته التي لم يكتب فيها حرفاً تواصل نشر رسالته الى الناس…
وفي كل مرة كان يجهد نفسه ليترك ابتسامة ساخرة خلفه علها تكشح شيئاً من اليأس الذي كان قد بات أسيره وهو يشهد انهيار معظم الأحلام التي دغدغتنا وزودتنا بالحماسة والطاقة والاندفاع إلى الإنتاج ونحن نبدأ علاقتنا التي ستغدو حكاية عمرنا مع الصحافة.
قبل ألف عام مما تعدون التقينا، وجيه رضوان وأنا، في شقة ببناية خلف قصر فرعون اتخذ منها سليم اللوزي مكاتب لمجلة جديدة اسمها الحوادث ، لنبدأ رحلتنا مع الصحافة بإشراف قائد الثورة الدائمة شفيق الحوت وبرعاية منح الصلح العارف بكل الناس وكل الأحوال وكل البلدان في كل الأزمان.
بدأنا الرحلة متهيبين. كان وجيه أفضل مني حظاً، فاهتماماته ثقافية فنية، في حين أخذتني الحماسة إلى مطبخ المجلة، بدءا ببريد القراء، إلى التحقيقات والمقابلات وبعض الشطحات الوجدانية.
كانت الدنيا غير الدنيا: الوحدة تمد ظل عبد الناصر من القاهرة إلى دمشق والعروبة تمتد بالثورة من جنوب اليمن إلى الجزائر في المغرب العربي، والأحلام تتفتح إنتاجا ثقافيا ممتازاً وحياة فنية تتدفق نشوتها حماسة تجعل الأغنيات لغة لحب الأرض والناس، والمواجهات مع أعداء إرادة الحياة تعطي العمل والإبداع نكهة الانتصار على اليأس ومقولة العجز بالتكوين البيولوجي.
غمس وجيه رضوان قلمه في بحر النشوة التي عاشتها الأمة وهي تكتشف ذاتها بطاقاتها غير المحدودة… وكان يسكن في بيت النغم، فشقيقه المبدع موسيقى الفرح عفيف رضوان، وخدين عمره ثنائي طرب الانتصارات نجاح سلام ومحمد سلمان، والوجدان حبل موصول مع أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وزكريا احمد ورياض السنباطي وفريد الأطرش وعبد الحليم حافظ وفايزه أحمد وشاديه ومحمد الموجي وكمال الطويل وبليغ حمدي وألف ألف مبدع آخر، يقابلهم من لبنان وفيه الرحابنة وفيروز ووديع الصافي وزكي ناصيف والشحرورة التي تشيخ ويظل صوتها صباحاً.
[[[
ذات يوم فاجأني وجيه رضوان بعرض خرافي: ما رأيك ان نسكن معاً في شقة ممتازة في إحدى البنايات الجديدة في الحمراء؟
كان أجر الشقة يعادل النصف من راتبينا معاً. وكان مؤكدا اننا لن نستطيع الصمود طويلاً في الشقة التي عجزنا عن تأثيثها.. وبالفعل فقد غادرناها بعد شهرين يتملكنا شيء من الزهو: لقد انتصرنا فقهرنا فقرنا ولو لأيام، وتزحلقنا في الشقة التي أرضها من الخشب المشمع والتي تجرأت تلك السيدة التي تعهدت نظافة العمارة فصارت تعرض علينا أن توصلنا بسيارتها إلى المكتب ، فعيب ان يقف سكان الحي الفخم في انتظار السرفيس .
[[[
اختلفت بنا الدروب بعد انطفاء زمن الحماسة وانقلاب الأحلام الى ثورات مضادة. اختفى قلم وجيه رضوان من على صفحات الصحافة اللبنانية، ليطل مجدداً عبر بعض أبدع ما أنتج تلفزيون لبنان من مسلسلات. وفاض به الشعور بحب الناس، فإذا أبطاله وبطلاته يطلون على الناس محرضين على الحب والمزيد من الحب، وإذا به يعيد صياغة ثقافته الواسعة ليقول بها ما لم تعد تقوله السياسة والصحافة السياسية.
وعندما انتهى زمن القول انطوى وجيه رضوان على نفسه ودخل قوقعة الصمت ليغرق في أحزانه على انطفاء الزمن الجميل… لكن كوكبة الشباب الذين تركهم خلفه اخذوا عنه ان يعملوا ويعملوا ويعملوا حتى يبدلوا ما لا بد من تبديله، وإلا بمزيد من التعب الذي لم يقدر عليه وجيه رضوان.

رخام الماء يسيل عشقاً مع جوزف حرب
يغيب جوزف حرب عن السمع، ويختفي تماماً ممتنعاً عن المشاركة في الأنشطة العامة والمناسبات الخاصة، حتى إذا اكتملت قصة الحب الجديدة صدرت قصيدته نهراً بحجم ديوان تتعاظم صفحاته دون أن تكفي لعرض الوجوه المختلفة للحب الذي به وعليه وله يحيا هذا الشاعر الذي يكاد يكون متفرغا لنظم قلائد لأعناق عشيقاته الكثيرات حتى لكأنهن واحدة.
ولأنه متفرغ للعشق، فلدى جوزف حرب قليل من الوقت ولذا فإنه يمضيه في استرجاع قصص حبه قصائد تأخذ الواحدة بناصية الأخرى حتى يفيض البحر حباً، فيتفرغ جوزف لتقليب موجه وليكتب فوق صفحاته الزرقاء قصائد الملح، الغمام، الرقص في خصر التموج والرياح الغابرات وغمسة المجذاف والبرق المزيّح والشتاء.
ولأن أجمل ما في البحر ما ليس به، ولان البحر نحات، وذي الاشياء منحوتاته من سروة الينبوع حتى نخلة الصحراء، فهو يسكن التماثيل في رخام الماء، بينما يحيل جوزف حرب الرخام الى نساء في إيوانه المكتظ بالنغم المشجى.
لكنه الحزن يسكن جوزف حرب ولا يغادره حتى في ذروة الانتشاء بالحب: تعبت من العقل والروح، من كل ما هو سر ومنزل… جميل لأنني جئت، ولكن، لكم هو أجمل أني سأرحل…
ولأن جوزف حرب متفرغ للشعر فهو يسكن الهواء ونور الشمس وينطلق كمهر عفي إلى الصيف الذي كاد ينتهي، وهو يعرف ما لا تعرفه من أن مساء الشمس أجمل عنده من الصبح فيها، إذ هو الحب يدمن فيك النبيذ، فكيف سيختار ما عصر الآن منه على ما تعتق منذ سنين… ألا أشعلي الشمع فوق السرير، وكالشمع ذوبي .
ولكنه دائماً ينتهي إلى الطاولة المتعبة الوحيدة في الحقل خلف بيتنا القديم يلقي عليها ظل وجهه فتفوح من أسى أخشابها الشهيدة رائحة القصيدة..
وهكذا يجلس في فيء حبه ليكتب ديوانه الجديد.
رب أنعم على جوزف حرب مزيدا من الحب ليجعلنا نسبح فوق طوف من دواوين حبه التي تخرج من كل قصيدة فيها ألف حواء، ثم يعيد صياغتهن جميعا في شعره الذي يكاد يشي بملامحهن فتكاد الواحدة تعرف الأخريات… وهذا ما يحزن هذا العاشق الذي يعيش لشعره، بينما بالكاد نستطيع أن نكون بين قرائه.

رسالة من دارين التي تخاف على الحب…
قد تكون رسالتي هذه محاولة بائسة، ولكنني آثرت الكتابة على ان أبقى مسمرة في مخاوفي واضطرابي… وكتبت بالرغم مما يعتريني من قلق يشبه قلق المحب عند انتظاره محبوبه، من ان تعطل عاديات الزمن مجيئه فيتعذر عليه احتضانه.
هي جرأة مني ان استل قلمي لاكاتب صديقك نسمة الذي لم تعرف له مهنة الا الحب، والذي يطل علينا بجرعة أمل فينعش الحب في قلوبنا من جديد…
صديقك نسمة جعل قلوبنا تنبض بفرح الحياة. اعاد الى الدنيا الوان الطيف فاستعادت عيوننا صفاء الرؤية، واستعادت آذاننا القدرة على سماع نغمات الكمان والناي تدندن بها همسات الليل ورفيف أجنحة الفراشات..
كثيرا ما كنت أحسد نسمة على عالمه هذا الذي يغمره الحب، بينما نحن في أمس الحاجة الى الحب، نطلبه فلا نبلغه، لاننا نعيش في زمن يقضى بالإعدام على كل من يحب… أليس الحب الحياة؟!
انه زمن لا مكان للحب فيه، حتى في الأروقة الضيقة. لا حب في ارض الجوع والعطش، ولا مساحة لعطر الحب في هواء مثقل بدخان التفجيرات والسيارات المحروقة.
كيف نقرأ الحب والكلمات تضج بالنقمة، والسطور السوداء تنضح بالتهديد والوعيد، وقد انقطعت لغة الحوار، وصرنا نتبادل الكراهية من قبل ان نتعارف.
كيف نحمل الحب في قلوبنا وقد قتلت آمالنا في الأرحام وقبل ان تولد…
هلا سألت، يا سيدي، صديقك نسمة ان يعلمنا كيف نمتهن الحب..
لأننا حين نحب نستعيد نعمة الصفح والغفران، ونتواصل عبر الوجدان وبوصفنا بشراً لا أنبياء معصومين… ولأننا حين نحب نعطي فنسمو بحبنا الى حيث يليق بانسانيتنا.
لكم نحن محتاجون الى الحب. اللهم أعطنا أن نحب حتى يبقى الوطن لانسانه ..
هذه مقتطفات من رسالة دارين ، الصبية التي يحرمها المناخ المسموم في البلاد نعمة ان تحب وأن تكون حبيبة، والحق في ان تكون لها حياة تليق بإنسانيتها.
غمرتني موجة من الخجل سرعان ما فتحت الباب للأحزان على مصراعيه… فالكلمات التي خطتها ريشة هذه الصبية المقبلة على حياتها بكل الشوق الى بهجة الحياة، وبكل قوة حقها في ان تكون الحياة باتساع قلبها، وأن تنال منها بقدر طاقة صباها على العطاء، قد أصابتها السياسة بلوثة الخوف على الحب. فإذا كانت الحياة في ايدي اهل السياسة فلسوف يحكمون على المحبين بالموت في جهنم الكراهية والبغضاء… ولسوف ينتزعون القلوب من صدور الأجنة، والعقول من رؤوس الفتية، حتى تكون لهم الزعامة والقيادة وحق الإمرة على قطعان كارهي أنفسهم كمقدمة حتمية لكراهية الآخرين.
لكن الحياة أقوى، يا دارين، لانها بالحب تكون، وبالحب ينتصر ابناء الحياة.
وصديقي نسمة الذي لم تعرف له مهنة الا الحب قد علمني بخبرته الطويلة وتجاربه الحافلة ان الكراهية في السياسة استثمار مجز لكن موسمه قصير! فالإنسان بقلبه وبروحه، والقلب نبيل، والروح سامية، وبلدنا الصغير بحجم قلب قد عاش فجيعة الفقد بدل المرّة مراراً، وقد اكتوى بنار الحرب الأهلية فاكتسب مناعة ووعيا وتنبهاً لمخاطر جحيمها بحيث لن يسمح لهم بأن يفرضوا عليه التجربة المرة من جديد.
ربما لهذا يقبل شباب لبنان على حياتهم بكل هذا النهم الأسطوري، يغبون من ينابيع المتعة فلا يرتوون، يستبكرون العشق من قبل سن البلوغ، ويندفعون الى السفر في عباب بحر المتعة من قبل ان يتعلموا السباحة، فإذا غرقوا فيه كتبت لهم حياة ثانية وثالثة وما ارتووا، يرقصون حتى تتعب الحلبة، ويغنون حتى تهرب الطيور من أعشاشها قبل ان ينبلج الفجر…
هي مرحلة صعبة من حياتنا مثقلة بما خلفته حروب الطوائف من جراح وأحقاد وما استولدته مغامرات في السلطة وعليها من انكسارات ومرارات كان لا بد ان تترك آثارها في النفوس…
والسلطة قتّالة، يا دارين. السلطة بلا قلب ولا مشاعر. والطامع بالسلطة يطلق الرصاصة الأولى على قلبه والثانية على عقله ثم يفرغ الباقي في جعبته من الرصاص على الناس. لكن الناس أكثر من رصاصاته، وأقوى من قدرته على القتل.
وهؤلاء المشغوفون بالسلطة مصابون بالعمى. إنهم لا ينتبهون الى صورتهم في عيون الأطفال. انهم لا يسمعون شدو البلابل. انهم لا يجرؤون على النظر في عيون أمهاتهم. انهم مرضى، يتقصدون ان ينشروا عدواهم بين الأصحاء.
لكن الحب أقوى. لن يجرؤ واحد من طلاب السلطة هؤلاء النظر في عينيك يا دارين. لن يقدر تقديم جواب واحد على أي من أسئلتك الكثيرة. لن يقوى مواجهة شوقك الى حقك في الحياة. ولسوف تهزمينه بالتأكيد، ولسوف يهرب منك ومن محاورتك، لانك بقدرتك على الحب أقوى منه.
الى الصفوف ايها المحبون: الى التلاقي وتشكيل جبهة ابناء الحياة، لمطاردة الذين يحاولون ان يفسدوا علينا حياتنا.
لقد انتصر الذين يحبون أرضهم، ويحبون أطفالهم، ويحبون بيوتهم، ويحبون جيرانهم كأخوتهم، ويحفظون حق الجار وود الصديق… انتصروا على العدو الذي لا يقهر، ثم جلسوا ينظمون قصائد الحب ويرسلونها مع الفراشات والحساسين إلى أحبتهم الذين زادوا بهم شغفاً وصاروا أقدر على العطاء.
الحب هو التميمة التي تحمي غدنا وتحمينا فيه.
ليكن لك من الحب، يا دارين، بقدر طاقتك على أن تغبي منه وتعيشي به وله. لتكن لك في الحب حياة.
مع صادق الود والشكر لانك نبهتنا الى ما كاد اهل السياسة يقتلونه فينا او يغيبوننا عنه: الحب… وهو أصل الحياة وذروة الأمل فيها.

من أقوال نسمة
قال لي نسمة الذي لم تعرف له مهنة الا الحب:
لقد بدأ يداخلني الخوف. لاحظت ان الناس يفقدون أكثر فأكثر القدرة على الابتسام. أحس ان ثمة خللا قد طرأ على علاقة الناس بحياتهم. أخاف أن يكون الحب إلى نقصان. الابتسامة دعوة الى الحب او قبول لدعوته. ليملأ الله قلوبنا ابتسامات.

Exit mobile version