طلال سلمان

هوامش

رجاء النقاش: نوارة الثقافة العربية المعاصرة
تعودنا، زملائي من أبناء جيلي وأنا، أن نسمي أحياء القاهرة، عاصمتنا الكبرى في الستينيات، بأسماء أصدقائنا الذين كانوا يفتحون لنا قلوبهم وبيوتهم فنتلاقى لنغزل أحلامنا معاً، فإذا وطننا العربي قد توحد، واذا نحن شهود ميلاده الجديد: هذه ضاحية أحمد بهاء الدين، وهذه محلة بهجت عثمان، هنا حي صلاح عبد الصبور، هنا حاضنة نجيب محفوظ، هنا منتجع لويس عوض، وهنا رباط آل النقاش، هنا عزبة هيكل، وهنا ضاحية أحمد عبد المعطي حجازي وهنا قلعة محمد عوده الخ..
على أننا سرعان ما حوصرنا بحزب رجاء النقاش الذي صارت له فروع في القاهرة الكبرى!
ورجاء النقاش الذي أطل على الثقافة كصاحب منهج نقدي رصين كان في حقيقة أمره داعية لنهضة عربية عنوانها عقائدي ومضمونها العروبة… فهو قد استشف من نتاج المبدعين في المشرق والمغرب، كتّاب قصة وروائيين وشعراء، وحدة الوجدان، والتوحد في حلم النهوض الذي يكون بالأمة جميعا ولا يكون بأي قطر منفردا.
كانت صورة الغد واحدة في شعر المشارقة وفي روايات المغاربة ، وكانت الشخصيات الروائية موحدة السمات في نتاج كتّاب مصر وبلاد الشام. ولم يكن الدين هو عنصر التوحيد، بل قبله وبعده كان الهم السياسي يطل عبر السطور ليفرض التصور الموحد للغد المرتجى.
ربما لاكتشافه وحدة الوجدان هذه اتهم رجاء النقاش بأنه بعثي ، ثم تأكدت التهمة عندما كتب بعض المقالات لصحيفة الجماهير في دمشق، أيام دولة الوحدة (الجمهورية العربية المتحدة بين مصر وسوريا) في أواخر الخمسينيات.. وكذلك في مجلة الآداب وصحف اخرى في بيروت.
وهكذا تحول رجاء النقاش من محرر ثقافي، ثم ناقد أدبي، الى ظاهرة سياسية، خصوصاً وقد تعزز بفيلق من شقيقاته وأصهاره (فريدة وأمل النقاش، حسين عبد الرازق وصلاح عيسى)، فصار حزبا يتأكد موقفه السياسي، كداعية، عبر منهجه النقدي الذي تعاطى مع النتاج الثقافي العربي، باعتباره التجسيد المباشر لوحدة الوجدان على المستوى القومي .
وعندما انفصمت عرى دولة الوحدة تعالت أصوات الانفصاليين، في مصر كما في سوريا، كما من كتّاب السلطة في مختلف الدول العربية، محاولة تسفيه كل ما يجمع بين العرب، وتشويه العربي كإنسان، وتحقير كل النتاج القومي التوجه.
على هذا لم تكن مصادفة أن يكون رجاء النقاش أول من تولى التعريف بشعراء المقاومة الفلسطينية، وأول من قدم الأدب السوداني (الطيب صالح خصوصا)، وأول من عرّف القراء على الشعر الحر في مصر والعراق ولبنان.
ولم تكن مصادفة أن يتصدى رجاء النقاش للانعزاليين في مصر، وان يبادر الى احتضان معظم رموز الإبداع الأدبي في الوطن العربي فيبشر بكل موهبة جديدة ويرعاها وكأنها من غرسه. وهكذا كتب لأحمد عبد المعطي حجازي مقدمة ديوانه الاولى مدينة بلا قلب ، كما تولى تقديم الرواية الحدث للطيب صالح موسم الهجرة الى الشمال .
لم يكن رجاء النقاش ناقداً فحسب. كان كاتباً صاحب رؤية، وكان يعتبر أن القيمة الفكرية لا تنفصل عن النبل الإنساني، وكان متفرغاً للقراءة والكتابة. وهكذا أمكن لهذا الشاب ابن الدقهلية الذي بدأ في مجلة روز اليوسف محرراً أدبيا، ثم في أخبار اليوم ، أن يقفز الى رئاسة تحرير مجلة الهلال برعاية أحمد بهاء الدين، عندما تولى الإشراف على دار الهلال بمجلاتها وإصداراتها جميعاً.
بعد انتكاسة الحركة القومية، وانطفاء مصابيح الدعوة في مصر، جاء رجاء النقاش الى الدوحة في قطر ليعمل في جريدة الراية قبل أن يتسنى له أن يطلق منها مجلة الدوحة التي حاول أن يجمع فيها بين العربي و الهلال فتكون منشورا ثقافيا شهريا جامعاً، ومساحة لأولئك الملعونين والمحجور عليهم من الكتّاب والمبدعين العرب.
ولان رجاء النقاش كان متفرغا للقراءة والكتابة فهو قد أمكنه أن يصدر خمسين كتابا في النقد الأدبي والتعريف بالنتاج الجديد، بينها أكثر من كتاب حول أزمة الثقافة في مصر وخارجها، وبينها في الشعر والشعراء وبينها في التعريف بالجيل الذهبي للمسرح المصري: محمد مندور ولويس عوض وعلي الراعي وعبد القادر القط ومحمود أمين العالم… وبينها كتابه عن الشاعر التونسي الممتاز ابو القاسم الشابي الذي كان نتاجه مطموساً بقرار.
رجاء النقاش الداعية لم يتعب أبدا من التبشير بمشروع الحركة الفكرية العربية بشكل عام والمصرية بشكل خاص، مع التأكيد على جناحيه: الحرية والعدل.. حرية لا تؤدي الى الفوضى وعدل يمنع ظلم طبقة لأخرى أو الاستئثار بكل الامتيازات على حساب المجموع. ومصالحة وطنية يتم فيها تحقيق وفاق كامل بين الإسلام والنظام أو بين الفكر الديني والدولة المدنية الحديثة. وهو كان يحمّل المثقفين مسؤولية عظمى، ويرى أنهم الجناة الحقيقيون لأنهم انقسموا تجاه القضية قسمين: قسم يستفز الناس بما يكتبه، وقسم يتعامى عن الموضوع برمته وقد يخجل أصلا من الكتابة عن الإسلام.
ولقد أحب رجاء النقاش الشاعر نزار قباني الذي جعل الشعر جزءا من حياتنا، حتى صارت كل قصيدة حدثا ، وبرغم اعتراضاته على انحرافات أدونيس فهو ظل يعتبره شاعرا عظيما، بل من أكبر شعراء العرب ، وكان يقدر من بين كتّاب الخليج محمد جابر الأنصاري، وفي مصر كان يحفظ تقديرا عاليا لعبد الوهاب المسيري.
وبقدر ما كان يتحسر على زمن طه حسين والعقاد وزكي مبارك والزيات ومحمد هيكل، فإنه كان يشفق من انحدار الوضع الثقافي وترديه:
على أنه في القضية لم يتهاون أبدا: من المستحيل أن يكون هناك تطبيع ثقافي مع اسرائيل. ان التطبيع مثل الزواج والحب وسائر العلاقات الإنسانية العالية، فكيف يمكن أن يقتنع أحد بإقامة علاقات مع قاتل يصر على مواصلة جرائمه.. ولا يمكن أن يخون الإنسان نفسه ويخون مشاعره ليغني لقاتل يريد أن يقضي عليه بعد أن سرق أرضه وتاريخه ووطنه.
[[[
رجاء النقاش يعيش، هذه الأيام، محنة صحية تتهدد حياته بالخطر، ولقد تنادت الهيئات الثقافية، رسمية وشعبية، لتكريمه في ما يشبه حفلات الوداع، أو الرثاء المبكر، كما أصدرت الهلال عددا خاصا عن نتاج هذا النهر الثقافي الممتاز على امتداد خمسين عاماً.
إنه أحد المصابيح المتبقية مهدد بالانطفاء. إنه زمن الظلمة.
سنتذكر دائماً هذا القلم المضيء الذي منحنا مكتبة تنير عقلنا وطريقنا، وتصحح الكثير من المفاهيم التي طرحت لتشويه الذاكرة، بحيث نحتقر أنفسنا ونقبل بإلغاء ذاتنا قبل أن يلغينا العالم الجديد وهو أميركي إسرائيلي بامتياز.
سهيل قاشا: كاهن الحزن العراقي شاعراً!
حين دخل علي الأب سهيل قاشا استعدت ذكريات نائمة عن رحلة ممتعة الى شمال العراق حيث تتمازج الأصول والأعراق والأديان مقدمة لوحة فذة لبدايات التاريخ الإنساني: عرب وأكراد وتركمان وكلدان وأثوريون (أو أشوريون)، مسلمون بمذاهب عدة ومسيحيون بطوائف متقاربة ويزيديون متهمون بعبادة الشيطان أو إله الشر، وصابئة متهمون بعبادة النار…
أما حين انطلق الأب سهيل قاشا يتحدث عن عراقه فقد اكتشفت أنني لا أعرف عن تلك الدولة التي غيبها الاحتلال الأميركي، وريث الطغيان المحلي، إلا القليل القليل… فلما تصفحت بعض البعض من كتبه (أنتج حتى الآن أربعين كتابا عدا المقالات التي لا تحصى)، فقد تبين لي أن العراق كان وسيبقى وحدة، بنسيجه الاجتماعي الفريد وبأعراقه التي تتلاقى فيه لتقدم نموذجا فذا للانصهار الإنساني بالقرار السياسي الواعي لأهمية الجغرافيا في التاريخ.
قال الأب سهيل قاشا الذي يفاجئك ظرفه يطل عبر حزنه العراقي المعتق، إنه يعيش في دير في لبنان منذ ستة عشر عاماً، ولكنه ما زال عراقيا حتى العظم وسيبقى، وانه ما زال عربيا حتى العظم وسيبقى.. ثم قدم لي ثلاثة من كتبه، التي يفيد تقديمها أنها عينة من أربعين كتاباً أنتجها شعراً ونثراً وأبحاثا تاريخية جدية، جلها عن العراق، وبعضها عن الإسلام ونبيّه (سيرة محمد البيئة والنشأة)، فضلاً عن مئات المقالات التي نشرها في دوريات في الموصل أو بغداد، أو بيروت وصولا الى طرابلس.
في التعريف بنفسه قال الأب : انه سهيل بطرس متى قاشا، ولد في بلدة باخديدا (قره قوش)، مركز قضاء الحمدانية في محافظة نينوى. وانه كاتب، شاعر، مؤرخ، عالم اجتماع، مثقف في الشريعة والدين.. بين مؤلفاته الحكمة في وادي الرافدين تاريخ أبرشية الموصل للسريان الكاثوليك المرأة في قانون حمورابي القيثارة النارية ديوان المطران بولس بهنام حكمة أحيقار وأثرها في الكتاب المقدس رؤية جديدة في المعتزلة الصهيونية تحرف الإنجيل أغاني الغربة وأناشيد الحصار الثقافة والحجر (عن فلسطين) قراءة جديدة في شهود يهوه المسيحيون في الدولة الإسلامية الصحافة العربية في البلاد الغربية مذهب اليزيدية في منطقتي نجار والشيخان قديسة الإسلام، رابعة العدوية التوراة البابلية، أثر الفكر العراقي القديم في صياغة أسفار التوراة لنا القدس، مسرحية شعرية…
إنه دائرة معارف .. قالت الصديقة التي قدمتنا، واحدنا الى الآخر، وضحك الأب سهيل قاشا! بعد انصرافه، أخذت أقلب ما أهداني من كتب فاستغرقت في بعضها ناسيا الوقت.
قرأت عن بغداد: أعرف أنك خالدة، وشمسك أشرقت منذ بدايات الزمان، لا أصدق النبأ، لا أجرؤ أن أنقل الخبر الى أبي جعفر، أنادي الرصافي، الزهاوي ومحسن الكاظمي، أسألهم عن حزن السياب والجواهري .
أما في رسالة الى آدابا فقد قرأت: سيدي آدابا، باسم الآلهة، آيا، انكي، انليل، تيامات، غزايا جداه، سهول شنعار، وآدنا النور، صلانا النور،
يا آدابا، لو أبيدت سلالة قائين على مر الزمان. لو قتل يعرب بن قحطان… نحن عرايا وضحايا، فهذا زمن التطويع، زمن التركيع، زمن الترقيع فالتجويع، والتدوير والتربيع والتوقيع. نحن وهابيل وجوه ومرايا. هذا زمان كلاب الصيد… بغداد مهابة مئذنة، تهدل في الأزهر حماماتها، قتلوا في الأقصى مصحفها، تهرول حول الكعبة، تزور كنائس عيسى ومساجد أحمد، لكن الوعاظ أقاموا للذلة سوق عكاظ
وقرأت: أواه يا عراق. تاهت الذاكرة. سئمت الغربة فوق البحار بين قوارب الحياة الخشبية وزنزانات الجريمة.. .
وقرأت: يا نخلة الخير.. كأنك طير الفلامنكو الوردية. تعشق البحر، تصفق بجناحيها فوق الحلفاء الخضرا. صارت بلون رغيف الخبز. صارت بلون عيون حبيبتي في باخديدا.. .
ويأخذ الشجن سهيل قاشا الى قصيدة الحزن العراقي المعتق بلسان مظفر النواب: مرينا بيكم حمد واحنا بقطار الليل وسمعنا دك كهوه وشمينا ريحة هيل ياريل صيح بكهر صيحة عشك يا ريل صودر هواكم ولك حدر السنابل كطا .
ثم يختم: يا وطني، ما زال الجواهري ينادي: نامي جياع الشعب نامي ونحن نردد: حرستك آلهة الطعام .. وما زال السياب يستجدي ثمن الدواء ويبيع القصيدة بأكلة كباب… يا وطني، ما زال الرصافي يصرخ ونحن رجع الصدى:
علم ودستور ومجلس أمة.. كل عن المعنى الصحيح محرّف .
من أين لك هذا كله يا سهيل قاشا؟
يجيب كتابة: كان والدي يحب قراءة الكتب الأدبية. يوما جلب ديوان النابغة الذبياني وديوان عروة بن الورد.
لكن الجواب الصحيح: إنه العراق يا أبانا. إنه جرحنا الذي يغمر دنيانا بالحزن ونحن في قطار الليل ذاته، يا سهيل قاشا.
من أقوال نسمة
قال لي نسمة الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
ينسى المحب أحيانا أن حبيبه إنسان، فيحاسبه وكأنه ملاك.. وهو بهذا يستحضر الشياطين جميعا لتلتهم حبه.
اترك لحبيبك مساحة للخطأ، فهو لو كان نبيا معصوما لما أحبك ولما استطعت أن تحبه.
أما أنا فحبيبي إنسان… وطاقته على الحب غير محدودة!

Exit mobile version