طلال سلمان

هوامش

»عايزني أزوَّر يا شعراوي«؟!
يروي محمد فائق، باستمتاع شديد، حكاية نادرة بطرافتها.. يقول: بعد وفاة الرئيس جمال عبد الناصر، وخلال الفترة الانتقالية التي ينص عليها الدستور، في مصر، كان علينا أن نعد لاستفتاء شعبي عام على الرئاسة، وكان المرشح الأوحد نائب الرئيس آنذاك أنور السادات.
تمّ الاستفتاء، وفقاً للأصول المرعية، وجاءت النتائج فوق المتوقع، إذ نال السادات ما نسبته 7،99 بالمئة من أصوات المشاركين في الاستفتاء. وأصابنا شيء من الحرج، إذ إن الرئيس الراحل جمال عبد الناصر لم ينل في آخر استفتاء أجري على شخصه أكثر من 6،97 في المئة.
ذهبنا إلى منزل السادات، وتقدم وزير الداخلية آنذاك شعراوي جمعة، يعرض نتائج الاستفتاء، ففرح أنور السادات فرحا عظيما، وأخذ يشكرنا ويبالغ في الشكر مظهراً سعادة لا توصف.
قال شعراوي، بشيء من التحرّج: أود أن ألفت نظر سيادتك إلى نقطة حساسة، ولك أن تقرر فيها.
قال السادات: قل يا شعراوي ولا تتحرّج.
قال شعراوي: أظنك معنا في أنه قد يكون من الأنسب ألا تبدو وكأنك نلت في الاستفتاء الأول، عليك رئيسا، أكثر مما نال القائد الخالد جمال عبد الناصر في الاستفتاء الأخير.
ورد السادات مستغربا: يعني إيه؟!
قال شعراوي جمعة: فكّرنا بأننا قد نعدِّل في النسبة قليلاً بحيث تظل أقل، ولو بنقطة مما ناله جمال عبد الناصر في آخر استفتاء.
واستشاط السادات غضبا و»شخط« فينا بحنق:
الله، عايزني أزوَّر إرادة الشعب، يا شعراوي. عايزني أبدأ عهدي، بعد عبد الناصر، بالتزوير! أعوذ بالله!
قمنا للانصراف ونحن نتعثر في مشيتنا وأذيعت النتائج كما هي… بغير تزوير!
ضحكنا جميعاً لطرافة الواقعة، وسرحت مع دلالاتها التي لا بد صادقة ما دام أن الذي يرويها هو محمد فائق، الذي بدأ حياته ضابطا في المدفعية، وضمته ثورة 23 يوليو 1952 إلى صفوفها، ثم قرّبه جمال عبد الناصر بعد نجاحه في مهمات كلّفه بها في أفريقيا فجعله مديراً للشؤون الأفريقية في مكتبه، ثم اختاره وزيراً للإعلام في فترة لاحقة، وسجنه السادات مع من سجن من رفاقه القدامى. وبعد خروجه من حبس امتد لسنوات حاول أن »يكمل« داخل الحزب الناصري، فلمّا يئس من العمل الحزبي، تحول إلى العمل في حقل حقوق الإنسان وأنشأ داراً للنشر، وهو الآن الأمين العام للمنظمة العربية لحقوق الإنسان.
بعد لحظات، عاد محمد فائق إلى الكلام فقال:
قد تعجبون إن أنا أكدت لكم أن لا تزوير ولا تدخل في نتائج مثل هذه الاستفتاءات!
صدرت أكثر من صيحة استنكار، وضحك بعضنا، فعاد محمد فائق يقول: الأمر بسيط.. في دولة شديدة المركزية، مثل مصر، ومعظم أقطار العالم الثالث، لا يحتاج الأمر إلى تزوير مادي، كتبديل أصوات الناخبين، أو إسقاط مزيد من الأوراق بالموافقة، أو إلغاء الأوراق التي تحمل علامة »لا«. أبداً، ان النتائج من حيث الشكل صحيحة. لا تبديل ولا تعديل ولا إتلاف ولا تحطيم صناديق… أبداً، لا شيء من ذلك كله. كل ما في الأمر أن أجهزة الدولة تمسك بالبلاد من أقصاها إلى أقصاها، في المدن والقرى والدساكر والعزب، وتمسك بمصالح العباد جميعا، فلا يكون أمام المواطن البسيط، الفقير، المكسور، الخائف من السلطة إن عدَلت، فكيف إذا كانت عاتية، إلا أن يصدع للأمر العالي فيقول نعم!
إن وزارة الداخلية التي تمسك بأجهزة الأمن، والأجهزة الإدارية، ومجالس الحكم المحلي (البلديات) والعمد (المخاتير) هي بمثابة »النخاع الشوكي« وهي تتحكّم بمسرى الدم في الأوردة والشرايين جميعا، من أقصى مصر إلى أقصاها، فأي مجنون سيخاطر بمصالحه، جملة وتفصيلاً، أو بأمنه الشخصي وأمن عائلته، أو بمصدر رزقه، فيعارض أو يعترض، خصوصا أنه يعرف سلفا أن اعتراضه سيضيع عبثا ولن يؤثر في النتائج، بل لن يسمع به أحد… فما الفرد في مواجهة دولة مركزية تتحكّم بأسباب الحياة، وتوظف لخدمتها كل أسباب القوة والبطش، بما في ذلك »الموت المنسي« نفسه؟!
وختم محمد فائق بالحقيقة التي نعرفها جميعا: إن وزارة الداخلية في البلدان المتخلفة خصوصا، تأخذ لنفسها الكثير من اختصاصات الله عز وجل. إنها تعطي وتمنع، تحيي وتميت، تستحضرك أو تلغيك، وبديهي أنها قادرة لو شاءت أن تقرّر بالنيابة عنك.
توالت التعليقات، ثم باشر البعض إجراء المقارنات مع ما يتم في بلاد الآخرين من الاستفتاءات أو استطلاعات الرأي، التي تحدد بدقة لافته أحيانا نتائج الانتخابات الرئاسية أو النيابية، مظهرة تباينات وخلافات حادة داخل المجتمع وانقسامات ايديولوجية وفكرية وسياسية ومصلحية… ثم تُعلَن النتائج، ويفوز الرئيس أو النواب، فيهنئ الخاسرون الفائزين متمنين لهم النجاح في مهمتهم، ويعودون إلى العمل من أجل الدورة المقبلة، وقد تبيّنوا أسباب فشلهم وعرفوا (واعترفوا) أنهم أخطأوا في هذا التصرف أو هذا القول، واكتشفوا أن الناس يحاسبون ولا ينسون، وإن كانوا قد يغفرون لمن يصحح أو يظهر التوبة أو يتراجع عن خطأ اقترفه!
قال واحد بيننا: نحن ما زلنا في مرتبة المقهورين، لم نصل بعد إلى مرتبة من يضطر الحكم إلى تزوير أصواتهم! لا أصوات لنا حتى تُزوَّر! إننا نُباع بالجملة لا بالمفرق!
قال ثانٍ كان قد اكتوى بتجربة المشاركة في الحكم:
العيب في الناس أيضاً وليس في الحكم وحده. أذكر أنني عندما تمّ اختياري وزيراً للمرة الأولى قد عانيت صعوبة بالغة في فهم ما يجري من حولي. أُعلنت التشكيلة الوزارية ليلاً، واستُدعيت إلى القصر الجمهوري على عجل، وحين عدت إلى منزلي حوالى منتصف الليل وجدت جمهورا غفيرا من الناس في انتظاري. وحين اندفعوا إليّ مهنئين أخذت أدقق في الوجوه لأتبيّن معارفي بينهم، فلم أجد إلا نفراً قليلاً، أما الأكثرية الساحقة من هؤلاء الذين تجشّموا عناء الانتقال ليلاً، والمجيء إلى داري لتهنئة مَن لا يعرفون، فلم أكن أعرفهم ولا لهم بي سابق اتصال. إن ضعف الناس يغري صاحب السلطة بالتسلط.
تنهّد ثالث، وكان من الايديولوجيين، وغمغم بصوت غير مسموع:
تسحقون الناس ثم تحاسبونهم على الغياب!
سمعه جاره، وهو معروف بانتهازيته، فقال كمن يرد عليه: تطلبون السلطة ثم تشكون إن قمعكم مَن هو قائم بالأمر، وهو هو مَن تريدون خلعه! مَن يطلب السلطة فعليه أن يثبت أنه أقوى منها. إنه صراع، يا رفيق، والنصر للأقوى..
ردّ عليه »الايديولوجي« بغيظ مكتوم: هل تريدني أن أروي للأخوان كيف غيّرتَ الاسم في برقية التهنئة إلى الرئيس؟! وكيف سارعتَ إلى منزله، مع الشمس، حتى تكون الأول، وحتى تصل قبل »التقرير« عن تأييدك المطلق لمن كنتَ تفترضه الأولى والأجدر بالرئاسة بينما رأيك في من اختير في آخر لحظة لا ينفع إلا لقيادة الشاحنات؟!
قال آخر وكأنه يحدِّث نفسه: نحن تحت الشاحنات لا فوقها ولا فيها!
غمغم عجوز يجر وراءه تجربة عريضة في الاعتراض: الحياة أمتع من أن تضيع في وقفة عز! لقد خسرنا حياتنا ولم نربح العز! ومَن نال العز خسر الحياة!
قال »حكيم الجلسة«: السلطة وحش يلتهم كل القيم والمبادئ والأفكار. يخطئ مَن يحاسب صاحب السلطة بمعايير أخلاقية. السلطة عدو الأخلاق!
نبر »الفتى« من بين السمار: ولكن السلطة تكرر علينا مواعظها الأخلاقية أناء الليل وأطراف النهار! إن الحاكم يحتكر لنفسه أدوار الفاضل، التقي، الورع، طاهر الكف والذيل، رافض الخطأ والخطاة، المجازي، الصالح والمصلح، الذي لا يريد شيئاً لنفسه..
تشجع آخر فقال: إن حكّامنا لا يتعبون من تذكيرنا بمنتهم علينا! كل صباح نجد مَن يقول بلسانهم إننا لولاهم لما كنا شيئاً مذكوراً. قبلهم كان العدم وبعدهم الطوفان! الأطرف أنهم يرون في صلاحياتهم المطلقة توكيداً لحريتنا المطلقة. في عسفهم عدلنا، في احتكارهم للسلطة مشاركتنا في القرار، وإننا نموت بموتهم، وإننا نخسر بلادنا إن تسبّبنا في إضعاف قبضتهم الحديدية التي تشد على أعناقنا!
ختم »حكيم الجلسة« هذا الحوار المتعب بقوله: يرددون وهم يتحدثون عن العرب، أنهم يقاربون الآن، عدداً، المئتين وخمسين مليوناً! أعوذ بالله! إنهم بالكاد عشرة! وأنا مع العشرة، فماذا ينفعني ملايين الهوام؟!

الرقص فوق الشرف!
تلوَّت الراقصة كمن بها مغص يشد على أمعائها. تقافزت تاركة شعرها ينتثر في الهواء ناشراً موجة من عطرها الرخيص.
ظلت البلادة تعشش في عيون الجمهور، فزادت من سرعة حركتها، وأشركت يديها في التلوي، ثم أخذت تطوف بهما من حول صدرها الناهد تارة ومن حول عجيزتها تارة أخرى، قبل أن تعود فتسبلهما على حوافي وادي المتعة من جسدها الرياضي..
قال الصديق: ألاحظت أنها بطلة في القفز العالي؟
ظل الجمهور خارج دائرة النشوة، تدور من حولها عيونه متفحصة، فتنتزع »المرأةَ« من داخل الراقصة تاركة حزام الصدر المزركش بالخرز اللامع وحزام العفة وما دونه نزولاً، يهويان إلى الفراغ..
توجهتْ إلى الجمهور القليل عديده، والبليد في تجاوبه. كادت تصيح بهم أن صفقوا لي، تعالوا إلي، خذوا جسدي، كونوا معي! لم يتحرك أحد! عادت تلح بطلب التصفيق، فجاملها بعض النسوة، أما الرجال فتركوا عيونهم تتدحرج على جسدها بغير استعجال، في حين تشبثت شفاههم بمباسم النراجيل، تمتصها وتسحب من دخانها ما يساعدهم على التنفيس عن كربتهم!
أما النساء فكنّ يتلصصن ليراقبن مدى تعلق الرجال بهذه التي تقدم لهم جسدها شبه عار، والتي تفرض عليهن مقارنة غير مستحبة مع أجسادهن البضة. ثم تمصمص إحداهن شفتيها قبل أن تقول لزوجها: بشرفك.. ألا أرقص أحسن منها؟!
ورد بصورة آلية: أين الثريا من الثرى!
وأكملت الراقصة تقافزها فوق الشرف المسفوح دمه على الثرى!.

تهويمات
* كتبت إليه تقول: ما دمت قد هجرت، فلماذا تستبقي صورتك في عيني؟! تعال فخذها لكي تعود إليّ نعمة النظر!
* قالت الغيرة للحب: يدك قاصرة، وعمرك كلمات تضيع في الهواء، أما أنا فأضيِّع عمر من يتجاهلني. إذا كنت لهباً فأنا النار، وإن كنت ماءً فأنا الطوفان، وإن كنت ملاكاً فأنا الإنسان. أمضِ إلى نظم القصائد، وسأكون أنا الوزن والقافية، فلولاي لما كان شعر!
* قالت وهي تنشج: لقد ضيَّعت عمري أسعى إليك.
قال بتأسّ: ولم أربح عمري بعيداً عنك!
وتعلقت برقبته وهي تقول: فلنجرّب أن نحيا عمرنا الثالث..
وكان العمر الثالث ثقيلاً فتهاديا إلى الأرض!
* هتفت معاتبة: مررت بي ولم تلتفت..
وردّ معتذراً: لو أنني انتبهت وجودكِ لسلّمتُ..
وبكت وهي تقول: شكراً، تكفيني إهانتان!

من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
أنضجني الحب فصرت حكيماً كمن عمره ألف عام، لكنني لم أهرم، بل أشعر بأن شبابي يمتد خارج الزمان، بل لعله هو الزمان. حبيبي يمنحني الإحساس بأننا معاً الحياة، ولأنها مفتوحة المدى فهي تتسع للناس جميعاً. تعالوا إلى رحابنا؛ في الحب موقع لكل من يبحث عن نفسه أو يبحث لنفسه عن المعنى.

Exit mobile version