طلال سلمان

هوامش

صادق النابلسي: مجتهد يحاور الفاتيكان عن المسيح وفلسطين
لم يكن مجلس الوالد العلامة يسمح للشيخ الشاب بأن يشارك فيقدم نفسه بكفاءاته العلمية، ليس فقط من باب التأدب واحترام المرجعية، بل لأن الشيخ عفيف النابلسي بحر من المعرفة يجمع الى علوم الدين ثقافة واسعة، يمتزج فيها المعاصر بالتاريخي فينضح حديثه بخلاصة قراءاته بأكثر من لغة، ومشاهداته في أنحاء متباعدة من هذا العالم الفسيح، ومناقشاته ومجادلاته مع العديد من أهل الرأي والمفكرين والمجتهدين من أتباع الأديان الأخرى والمذاهب المختلفة، بل كذلك مع بعض أصحاب الآراء والاجتهادات المتباينة من أتباع المذهب ذاته.
في المجلس، كان الشيخ صادق كثيف الحضور، على وداعته، وكان يمكن أن تقرأ في عينيه الكثير. أما صمته فكان وعدا بأن يقول الكثير حين يجيء زمن الكلام.
وحين قمنا لنودع الشيخ العلامة عفيف النابلسي أصر الشيخ صادق أن يرافقنا حتى البوابة الخارجية، ثم أضاف الى هدية والده النفيسة من مؤلفاته، بعض ما كتب شخصياً وأبرزها دراسته التي تحمل عنوان الصراع على القدس الفاتيكان في اللعبة الدولية .
في الحوزة العلمية في النجف الأشرف كانت البداية… لكن ما بعدها كان استزادة من طلب العلم، واجتهاداً في الدراسة والتفسير والتحليل، قبل أن يتصدى الشيخ الفتى الى التأليف. وقد اختار موضوعا شائكا ومثيراً ويتطلب الكثير من التدقيق والتأني في الاستنتاج ليمكن التفريق بين ما هو ديني بحت وما هو سياسي، يتجلبب بثياب المعتقد الديني ليخرق المألوف والسائد، وليفرض منطقا جديداً في الدين أو تفسيرا مختلفاً بل مناقضا لما تربت عليه أجيال وأجيال من المؤمنين على امتداد ما يقرب من ألفي سنة.
الموضوع حساس ودقيق حتى بالنسبة الى أهل العلم من المسيحيين فكيف حين يتصدى له رجل دين مسلم، وفي هذه اللحظة المشبعة بترسبات الانقسام السياسي الذي أسبغت عليه شكليات دينية ومذهبية تزيد من احتمالات التفجير؟!
ربما لهذا كان الشيخ صادق دقيقاً جداً في التقديم، ثم في عرضه للوقائع والتحولات بدقة علمية وبحيدة تتطلب نزاهة فكرية مطلقة…
إن هدف البحث هو أولاً قراءة الظروف التاريخية لعلاقة الفاتيكان والكرسي الرسولي بالقضية الفلسطينية من الناحية السياسية تحديدا، وارتباط ذلك بالعلاقات الدولية، وثانيا فإنه يهدف الى كشف البعد الديني (من خلال الفاتيكان) وتأثيره على السياسات والأوضاع داخل فلسطين، والمدى الذي بلغه في إطار تفاعلات الصراع العربي الإسرائيلي .
اذا شئنا مزيدا من الدقة فالبحث يتركز على التداخل الكبير بين الدور الروحي والدور السياسي وصعوبة تحديد فاصل يميز بين ما هو ديني وما هو زمني .
لذلك فقد تطلب إعداد الدراسة إجراء العديد من المقابلات مع أطراف متعددين منهم باحثون في الحوار الإسلامي المسيحي، ورجال دين مسيحيون، وأكاديميون مهتمون بقضايا الكنيسة الكاثوليكية والفاتيكان… كما اعتمد الكاتب على عشرات المراجع والكتب والوثائق، وإن ظل أبرز ما اعتمد عليه كتاب القدس في الوثائق الفاتيكانية للمطران والسفير ادمون فرحات الذي جمع في هذا الكتاب مئة وثيقة تتعلق بمواقف الباباوات من القدس والأراضي المقدسة، ومحفوظات مجلس كنائس الشرق الأوسط بيروت.
سنكتفي هنا بعرض أبرز المحطات في مسيرة التحول الذي انتقل بالفاتيكان والكنيسة من ضفة إدانة اليهود بصلب السيد المسيح الى تبرئتهم من تلك الجريمة، بكل آثار هذا التحول في العلاقة بإسرائيل بوصفها دولة اليهود :
? في الإعلان الصادر عن المجمع الفاتيكاني الثاني 1962 1965 جاء ما يفيد ان مسؤولية موت المسيح، لا يمكن أن تقع على كل اليهود الذين عاشوا في ذلك الحين دون استثناء ولا على اليهود الموجودين اليوم .
وكان ذلك انقلابا عنيفاً على ثوابت العقيدة المسيحية… أقله في المشرق، حيث تربت أجيال وأجيال على احترام ذلك اليقين الى حد التقديس.
وقد ركز الإعلان نفسه على مسألة تنقية التعاليم المسيحية من رواسب العداء للسامية وإقامة حوار صريح بين الكنيسة الكاثوليكية والمرجعيات اليهودية.
? مع مجيء البابا يوحنا بولس الثاني الى سدة البابوية توسعت مجالات الحوار. واعتبر أن الستار الحديدي قد أسقط مع بيان المجمع الفاتيكاني الثاني.
وقد جاء الإعلان عن الاتفاق المصري الاسرائيلي فرصة مهمة ليعلن البابا موقفه، وليسرع وتيرة اللقاءات الثقافية وتنشيط الزيارات المتبادلة مع اليهود.
? في العام 1986 وخلال استقبال البابا وفدا من جمعية الحوار الديني في القدس مركز الأمل للتفاهم والمصالحة بين الأديان في القدس خاطب البابا الوفد بالقول: بالله نجد المصالحة بين الشعوب. ان الله هو الذي يصالح البشرية معه باستمرار عن طريق مغفرة ذنوبنا .
? في السنة ذاتها حصل تطور لافت آخر، فقد زار البابا، لأول مرة، كنيساً يهوديا في وسط العاصمة الايطالية روما، وألقى كلمة قال فيها: ان الكنيسة الكاثوليكية تندد بالحقد والاضطهاد وكل المظاهر المعادية للسامية الموجهة ضد اليهود، في كل وقت، وبواسطة أي كان، وأكرر: بواسطة أي كان .
وأضاف فقال: ان طريق التعاون مفتوح بين اليهود والكاثوليك. ان اليهود هم الاخوة الاعزاء المحبوبون للمسيحيين، وفي الامكان القول انهم الاخوة الكبار .
ولقد استخدم البابا في كلمته كلمة شواه العبرية… تقربا.
? المنعطف الآخر جرى ايضا في العام ,1986 اذ قطع البابا يوحنا بولس الثاني إجازته الصيفية ليقابل تسعة من رؤساء المنظمات اليهودية. وقد افتتح اللقاء بتلاوة مزمورين واحد بالعبرية والثاني باللاتينية. وقال البابا ان النشيد يعبر عن الروح السائدة في هذه اللحظة.
? في العام 1993 جرى في الفاتيكان حفل إحياء محرقة اليهود!! وأقيمت صلاة كول نيدر وهي الصلاة الأساسية في يوم الغفران عند اليهود. وبعد هذا الحفل الاستثنائي صدر بيان عن الفاتيكان جاء فيه: ان محرقة اليهود هي هاوية مروعة نفذ منها لمعان خافت سمح باستشفاف سواد الشر الانساني في عمقه المرعب .
? في العام 1998 صدرت وثيقة عن الفاتيكان بشأن الاخطار والهفوات التي قام بها ابناء الكنيسة وبناتها مع التمني ان يتحول إدراك خطايا الماضي الى إرادة راسخة أكيدة لبناء مستقبل جديد… على ان البذور الفاسدة للعداء لليهودية والعداء للسامية يجب ألا نسمح لها بعد الآن ان تتجدد في قلب أي بشري .
بعد الأسئلة والتساؤلات جاء وقت الأجوبة: زار البابا يوحنا بولس الثاني الاراضي المقدسة، وفي لقائه مع الرئيس الاسرائيلي وايزمان، قال البابا: علينا ان نعمل من أجل قيام عهد جديد من المصالحة بين اليهود والمسيحيين .
في 12 آذار 2000 أقيم قداس كبير حضره البابا يوحنا بولس الثاني وأعلن خلاله مضمون وثيقة جديدة عنوانها مياكوليا وتعني باللاتينية ذنوبي طلب فيها البابا الصفح عن الأخطاء التاريخية التي ارتكبتها الكنيسة خلال ألفي عام، بما في ذلك الحروب الصليبية وطريقة معاملة اليهود والهراطقة والنساء .
وعشية زيارة البابا القدس خاطب اليهود بقوله: نشعر بحزن بالغ من جراء سلوك من سببوا معاناة لأبنائكم ونطلب المغفرة، ونود أن يسود الاخاء الصادق بيننا وبين أهل العهد القديم !
اللافت في زيارة البابا وضعه رسالة على حائط المبكى، وهي عادة أو طقس يهودي، كتب فيها: يا إله آبائنا وأجدادنا، يا من اخترت ابراهيم وذريته لحمل رسالتك الى الأمم، ان الحزن يغمرنا خلال التاريخ حيال تصرفات الذين تسببوا بتألم أولادك هؤلاء، ونحن اذ نطلب مغفرتك، نود ان نلتزم إقامة إخاء فعلي مع اليهود .
… من باب التذكير بما مضى، ليس إلا، يستعيد الشيخ صادق النابلسي رسالة بعث بها البابا بيوس العاشر، في 24/1/1904 رداً على رسالة من ثيودور هيرتزل طالبا دعمه لإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين:
لا نستطيع ابدا ان نتعاطف مع هذه الحركة الصهيونية. فنحن لا نستطيع ان نمنع اليهود من التوجه الى القدس، ولكننا لا يمكن ان نقره. انني بصفتي قيما على الكنيسة لا أستطيع ان أجيبك بشكل آخر. لم يعترف اليهود بسيدنا. لذلك لا نستطيع ان نعترف بالشعب اليهودي، وتاليا فإذا جئتم الى فلسطين وأقام شعبكم هناك فإننا سنكون مستعدين كنائس ورهبانا لتعميدكم جميعا .
وقد يفيد، ومن باب إنعاش الذاكرة، أن نستعيد نص صلاة كان يتلوها بعض الكبار من رجال الكنيسة: فلنصل أيضا لليهود. ليسحب الله الغشاء عن قلوبهم، ليعترفوا هم ايضا بربنا يسوع المسيح. يا ربنا القدير الخالد الذي لا يبعد عن ذاكرته حتى اليهود، استمع لصلواتنا التي نقدمها لعمى ذلك الشعب .
[[[
مع الشيخ صادق النابلسي نحن أمام مجتهد له مستقبل، ومع باحث دقيق يعزز إيمانه بالعلم والدراسة الجدية وليس كثيرا ان نتوقع منه ان يضيف الى مكتبة أبيه العلامة عفيف النابلسي.
الدوحة الثانية… بعد انقضاء الزمن الأول!
عندما صدرت الدوحة ، أول مرة، قيل انه قد صار للأدب، شهرية جامعة، تتميز عن الهلال بعصريتها، وتختلف عن العربي بمنحاها الثقافي، الشامل.
استطاع رجاء النقاش، الآتي من القاهرة، مكتنزاً تجربة في الصحافة الثقافية، وبمنهج نقدي جديد أثار معه كثيرا من المعارك الأدبية في وسط يتجمع فيه خليط من الاتجاهات والمدارس سواء في حقل القصة والرواية، ام في مجال الشعر على وجه الخصوص، حيث كان الصراع محتدماً بين التقليدي العمودي وبين مدارس الحداثة في الشعر التي تعددت بحيث أخرجت الشعر من حقل الوجدان ورمته في خانة الكلمات المتقاطعة أو النقاط التي تعجز عن القول.
ها هي الدوحة تعود، ثانية، بعد غياب امتد لأكثر من عشرين سنة، وقد باتت لها مرجعية رسمية هي المجلس الوطني للثقافة والفنون والتراث في قطر ، بشخص رئيس المجلس المشرف العام الشيخ مشعل بن جاسم آل ثاني، وان ظلت إدارة التحرير مناطة بالكاتب الذي أخذه النشر من الادب الى قراءة غيره عماد العبد الله.
العدد الاول بعد الغياب يحاول استعادة الصورة الاولى لمجلة الدوحة التي كان صدورها قبل أربعة عقود حدثا ثقافيا عربيا … خصوصا أنها اتبعت قواعد النجاح المفترضة ذاتها التي كانت تعتمدها مجلتا الهلال و العربي ، أي التعامل مع النتاج الثقافي العربي كوحدة متكاملة، يستوي في ذلك الشعر والقصة والمشاهدات والانطباعات وعرض النتاج الجديد والنقد الأدبي… بذلك فهي تعيد تجميع تعريف كتّاب المشرق بأقرانهم في المغرب، وتبرر صدورها بحمل إبداعاتهم بحيث يعرف الكل الكل ويتواصلون.
في زمن الفرقة والتباعد والتقاطع السياسي والاقتتال على الهوية، هوية الإنسان والفن والإبداع الأدبي، تجيء من البعيد مجلة ثقافية تنتدب لنفسها مهمة تبدو متناقضة مع السائد، حيث يتم تهشيم كل ما يجمع بين العرب ، في خط مواز تماماً لتحطيم كل ما يؤكد في العربي الفرد هويته بدءاً باللغة وصولا الى الحق في تحقيق ذاته، سياسياً واجتماعياً وثقافياً.
… ولكن السياسة الرسمية تدمر، أول ما تدمر، هذه الهوية الجامعة، بحيث يصبح جمع البعض من الكتّاب والشعراء والمبدعين العرب، في مكان واحد أو بين دفتي مجلة ثقافية أقرب الى الجهد التعويضي عن الأصل المفقود.
مع ذلك يبقى صحيحاً القول: أن تضيء شمعة خير من أن تلعن الظلام!
… وما أوسع الظلام في دنيانا، وما أشد رياح الهجانة التي تطفئ شموع الاستدلال الى الطريق الذي أضاعه أهله فضاعوا أو يكادون.
من أقوال نسمة
الذكاء امتحان قاس للمحبين. فالحب عفوية، بداهة، تصرف تلقائي قد يتبدى جموحاً وخروجاً على المألوف.
الأذكياء يدققون في حساب الربح والخسائر فإذا الحب قد غادرهم الى من يريده حياة.
اللهم احشرنا في زمرة المحبين… ولينعم الأذكياء بالربح… وهم خارج نعيم الحب.

Exit mobile version