طلال سلمان

هوامش

لا صورة لبشير الداعوق إلا في قلم غادة السمان
لا صورة للكبير الذي فقدناه: الدكتور بشير الداعوق.
لا صورة له في أرشيف أي صحيفة أو مجلة، ولا تسجيلات بالصوت والصورة، ولا لوحات تظهره في مقدم تظاهرة، أو في مواجهة مع قوى الأمن وأعقاب بنادقهم، أيام كانت الأعقاب تكفي لردع المشاغبين وقبل أن تصبح الفوهات قاذفة الرصاص هي اللغة السائدة في الحوار الديموقراطي بين المختلفين في الرأي.
لا صورة شخصية للمناضل في حزب ثوري أسهم بالصح والغلط في صنع مرحلة مهمة من تاريخ المشرق العربي، على الأقل، في النصف الأخير من القرن العشرين، بغض النظر عن النهايات المفجعة لأنظمة الحكم التي قامت باسمه فدمرت سيرته النضالية تدميرا شبه كامل.
لا صورة له يجلس الى طاولته كمؤسس لدار نشر رائدة، مختلفة عما ألفناه من دور النشر التي تلتهم نتاج المبدعين فتزداد غنى ونفوذا بينما يتوارون في ثنايا عوزهم متجلببين بمجد الرواد . فلقد كانت دار الطليعة أقرب الى بؤرة تنوير وحاضنة للكتّاب والمفكرين، بل الدعاة، لا سيما من آمن منهم بوحدة الأمة العربية وبقدرة أجيالها المولودة في رحم الهزيمة على مقاومة الصعب واختراق الاستحالة بالإيمان الوطيد بالأمة وقدراتها وبدور العلم والثقافة في تحديد الطريق الى الغد.
لا صورة له وهو يستقبل ذلك الرهط من المجتهدين والبحاثة وهم يدفعون بنتاجهم الى مجلة دراسات عربية التي أنشأها لتكمل الرسالة.
ثم ان لا صورة عائلية له تجمعه الى رفيقة العمر التي جاءته من موقع النقيض لتشاركه حياته: غادة السمان، بقلمها الذي لم يتوقف لحظة عن تفجير عيوب التكوين والنشأة في هذه الذات العربية التي لما تعرف طريقها الى الاكتمال.
كان قارئا ممتازا، وناقدا ممتازا، ولا نعرف إن كان قد جرب الكتابة في الميدان الاقتصادي الذي درسه في بعض أرقى الجامعات الدولية، وإن كنا نعرف أنه شارك في نضالات جيله من أجل التغيير، ووسع مساحة الحلم بالكتب المبشرة بالقدرة على مقاومة الصعب أو تلك التي تطرح الإشكالات التي تعترض طريق الثورة واختراق الاستحالة بالإيمان الوطيد بالأمة وقدراتها الظاهرة والكامنة وهي الأخطر.
لم يجلس الى مقاهي الثرثرة الثورية يقتل الوقت قبل أن يقتله ولم يشارك في الندوات التي تبتدع على عجل لإعادة أو استعادة الكلام المكرر والمستعاد برغم انه قد غادر معناه منذ زمن بعيد.
كان نسيج وحدة حتى ليصعب أن نعثر على من يقدر على ادعاء صداقته عبر علاقة لم تنقطع برغم قراره نفي نفسه بخياره، وإن كان جميع من عرفه يكنّون له مع الود التقدير، ويتلمسون عاطفته في التماعات عينيه أو عبر اهتمامه بأكثر مما تعبر كلماته.
… وحين التقى بشير الداعوق نقيضه الأثير، غادة السمان، رأى الأصدقاء بين الثلج والنار حدثا فريدا. لكن هذا الزواج الذي تعامل معه طرفاه وكأنه السر المقدس الذي لا يخص أحداً غيرهما تبدى وكأنه تكامل بين نصفين فريدين كان كل منهما يبحث عن الاكتمال بالصمت الذي يتجاوز اللغة بفصاحته، أو باللغة المؤهلة لان تقول بشجاعة تتجاوز حد التحدي سعيا الى اكتمال المعنى الذي يكاد يعادل اكتمال الإنسان.
[[[
جاءت غادة السمان، أول مرة، مدعوة بوصفها الفائزة بالجائزة الأولى في مسابقة للقصة القصيرة نظمتها مجلة الأحد ، في مطلع الستينيات. وكانت الفتاة الحبيبة التي سيكتب لها أن تكون واحدة من أدباء العرب الكبار، في بدايات شبابها، تذوب خجلا مع أي كلمة إطراء، وتخفي كونها موظفة في القصر الجمهوري بدمشق حتى لا تلحق بها شبهة استغلال النفوذ في دولة جمال عبد الناصر، حاملة راية الوحدة.
بعد حين، قررت غادة السمان، ابنة واحدة من الأسر التي كلفت نفسها بحماية تراث دمشق وأسرارها التي تخفيها بعناية خلف بواباتها الغليظة، وفي أقبيتها الأنيقة، أن تجيء الى بيروت التي لا أقبية فيها ولا بوابات بل شوارع من عيون وبيوت من ألسنة وطوائف من نار ودول كثيرة تتزاحم في أزقتها وسراياها وصحفها والمجلات ودور النشر.
ولأنها وُلدت لتكتب فقد جعلت غادة من كل من عرفته ومن كل ما خبرته ومن كل ما صادفته موضوعا ، فاتخذت من الصحافة شرفة للمراقبة والمتابعة واستكشاف المخبوء داخل النفوس وهي صناديق مغلقة .
تزاحمت بيروت مع دمشق على قلب غادة، فكتبتهما معا: كان السر في دمشق و الحل في بيروت، وصارت الحياة نهرا من الحبر المشع بالوجع وحكايات الناس الذين لا يموتون حتى لو تمزقت أجسادهم أشلاء، والمدن التي لا تندثر حتى لو غطى الزور والتزوير وجهها في محاولة لتشويه الأصل.
[[[
كان بشير الداعوق في دنياه التي اصطنعها وأعطاها سنوات شبابه جهدا دؤوبا سعيا الى حكم التغيير، مكتفيا من العلاقة بدور القارئ .
وكانت غادة السمان الكتابة بالعين مخترقة الحجب، والقلب بمنازله الكثيرة، والرغبة في اقتحام هذا الدغل المسمى النفس البشرية .
تلاقت بيروت ودمشق ببعض أرقى ما في هاتين المدينتين: أصل التاريخ ومنبع الحضارة مع المختبر المعاصر للتطور الإنساني وصراع الهويات والعقائد. وتلاقى الإبداع مع الإيمان بالتغيير طريقا الى الحرية واستيلاد الإنسان العربي المؤهل لان يكون في هذا العصر ومنه، لا هو خارجه، ولا هو هارب من وطنه ليكون ذاته.
كتبت غادة السمان الإنسان العربي بعشقه لأرضه، فلم تنس صحنا من صحون البيت الدمشقي أو عمودا من أعمدته، ولم تهمل الموروث وهي تندفع نحو أعمق ما تحفظه القلوب والصدور عن أمس الذي لا يجوز بتره بذريعة التخفف من أثقال الماضي للالتحاق بالحاضر، ثم إنها سبقت الى المستقبل بجيل أو جيلين.
كتبت غادة عن الحب والحرب، عن بيروت التي غادرها بحرها أو غادرته حين أغرقت والتهمت بدمها آلة القتل التي اغتالت القضية .
وكتبت عن دمشق التي تركتها، بغير وداع لكنها لم تغادرها أبدا، بل حملتها في قلبها وهي تبتعد، وجعلتها على سن قلمها مع بيروت، فإذا هما تطلان معا أو بالتبادل حتى وغادة تكتب عن لندن وباريس ومدن الجمال في أربع رياح الأرض.
… وكان بشير الداعوق قارئها الأول. كان يقرأها قبل أن تصل رواياتها الى الناس. لم يجفل من عبارة قد يرى فيها غيره جرأة غير مألوفة، ولم يعترض على سياق روائي قد يرى فيه تيوس المناضلين تشويهاً للذوق الثوري أو خروجاً على التقاليد أو تعارضاً مع الأخلاق والقيم الموروثة. استبقى لقلمها حصانته، واستمتع بتحديها الدائم لمجتمعها المترهل وهو يصارع للخروج من قمقم التخلف الذي حاصرته فيه دهور القهر (الاستعماري ثم الوطني ، لا فرق).
ومن موقع القارئ الأول لغادة السمان، قدم بشير الداعوق مثلا أعلى للمتحضر، المتذوق، القادر على التخفف من شخصانيته كزوج وهو يقرأ جنون هذه المبدعة التي اقتحمت كل مجهول، وكل ممتع، وكل غريب أو طريف، فرأت وسمعت وعرفت، وقرأت وجربت ثم قررت أن تقول.
[[[
هي تجربة فريدة في بابها هذه العلاقة بين من كان الناس يرون فيهما نقيضين لا بد سيتصادمان منذ اللحظة الأولى وحتى النفس الأخير.
كانت غادة تكره عبوس المناضلين وشواربهم الكثة، ولا تتورع عن استفزاز من تلتقيه منهم بالسؤال: هل الضحك إنتاج امبريالي، وهل التصرف على السجية خيانة للمبادئ المقدسة؟
وكان بشير الداعوق جديا في كل ما يتصل بعمله وعلاقاته، ولقد أعطى دار الطليعة ثم دراسات عربية بعض أزهى سنيّ عمره… فلما صارت بيروت جحيما كان لا بد أن يرحل عنها، ملتحقا بغادة التي كانت قد سبقته بعدما غادر البحر بيروت من دون أن يصعد الى دمشق. ولعلها قد اكتشفت آنذاك أن لا بحر في اللاذقية ايضا، وهي عروس عروبتنا ايضا! برغم الاختلاف الظاهر في الطباع والأمزجة فقد بينت الحياة أن المشترك بين بشير الداعوق وغادة السمان أكثر بما لا يقاس مما قدر حتى أقرب أصدقائهما اليهما، مع الأخذ بالاعتبار أنهما، كليهما، كانا متشددين في اختيار الأصدقاء، وضنينين بالوقت من أن يهدر بغير إنتاج.
بشير وغادة قدما نموذجا لم نعرف له سابقة: لقد اصطنعا عالمهما الخاص جدا، المغلق إلا على الخاصة والمفتوح على الرؤى والأحلام، حيث لا خطابة ولا تحزب ولا تعصب ولا حيرة حول الهوية والانتماء ولا تورع عن النقد ورفض الرديء والمبتذل والمرتهن حتى الجرح.
[[[
هل رحل بشير الداعوق لأنه أفاق من حلمه فإذا الواقع كابوس يغتال الأحلام؟
أم انه ترك لرفيقة العمر، شريكة الحلم، صديقة الاغتراب، المعذبة في المنفى الاختياري بحب الوطن، بعدما صار الوطن مخيفا، لا يمنح من الأمان وهدأة النفس وتكامل الصورة ووضوح الرؤية ما يمنحه المنفى. ليست هذه كلمة رثاء لصديق، أو تعزية لرفيقة قلم وحلم، انما هي بعض حكاية جيل.
لقد رحل بشير الداعوق الى البعيد لان الطليعة ضاعت عن دارها ، ولان العروبة قد تاهت عن دارسيها أو انهم قد تاهوا عنه، ولم يتبق غير حكايات الموت الذي لا يقهره إلا الحب، وغادة السمان التي نذرت نفسها للحب عاشقة متيمة، وحارساً ديدباناً، وراوية ممتازة لسيرته التي تحفظ في الإنسان أحلامه ورؤاه وتطلعاته وتمنياته وسائر ملكاته الإنسانية.
ومع الحب الذي لا يموت مع تجدد غادة السمان وقلمها الذي لا ينضب حبره، يبقى بشير الداعوق راية من رايات الطليعة المحكومة بأن تجد نفسها باستمرار.
ولعل الصورة الوحيدة لبشير الداعوق تلك المطبوعة في قلب غادة وعينيها ووجدانها وقلمها ورواياتها جميعا.
حكاية العلامة اللاغية
قالت المرأة: لا ثقة لي بالرجال. إنهم يرفضون المرأة عقلاً ويقبلونها جسداً. إنهم معها يتخلون عن كل ادعاءاتهم الفكرية، وكذلك عن عقائدهم النضالية. يرونها جارية، وينسون أنهم بذلك يحقّرون أنفسهم، إذ يصبحون بدورهم مجرد أجساد، عبيد شهواتهم.
قال الرجل: هذا رأي امرأة لا ترى نفسها إلا جسداً. لم يبدع رجل إلا وكانت امرأة خلفه، محرضاً أو حافزاً أو تحدياً. إن الفاشل من الرجال يرى في فشله امرأة، والناجح منهم يهدي نجاحه إلى حبه الذي تجسّده امرأة.
قالت المرأة: وهل أنا حافز لنجاحك أم سبب لفشلك؟
قال الرجل: الامتحان ما زال مفتوحاً… للمناسبة، هذا هو الامتحان الوحيد الذي يشكّل كل من طرفيه لجنة فاحصة. هيا بنا لنرى من منا يخبئ في نفسه العلامة اللاغية!
من أقوال نسمة
قال لي نسمة الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
ليس أقوى من الحب وأعظم رسوخاً منه. أنه يتغلغل في المسام، يحتل الذاكرة، يجري كالدم في الشرايين والعروق، يقهر النسيان، فيصير هو الزمان.
أن تحمي حبك يعني أن تبقي لحياتك المعنى.
حبيبك هو الدنيا، فأين تعيش إن غادرت حبك؟

Exit mobile version