طلال سلمان

هوامش

عن أحمد فؤاد نجم الأول وشيخنا الذي جعلنا نرى..
لست في قلق على الولد الشقي أحمد فؤاد نجم. لقد انتصر على الموت منذ زمن بعيد: نقش اسمه في ذاكرة جيلين او ثلاثة، وجعل شعره لغتهم اليومية في السياسة وفي وصف الاحوال ، اما في حب الأوطان فإن معلقته على جدار القلوب..
ولعلها مصادفة قدرية ان يسقط نجم بين براثن المرض في الذكرى الرابعة والثلاثين لحرب العبور تشرين 6 اكتوبر العاشر من رمضان والتي كان بطل الانتصار فيها الواد عبد الودود قبل ان يغتاله من كان في موقع القيادة بصلح منفرد استعاد معه سيناء مكلومة الفؤاد وأضاع مصر وأهلها والعرب اجمعين..
ولا استبعد ان يكون هذا الشاعر الصعلوك قد استدعى المرض لكي يهرب من الاحتفال بالذكرى الاربعين لاستشهاد بطله الأثير غيفارا، الذي استعاره ليكون النموذج المرتجى بديلا من قادة الاستسلام من قبل ان يهزموا في ساحة المواجهة مع العدو الاسرو اميركي.
ربما أستند في تقديري ان احمد فؤاد نجم اقوى من المرض الى المعرفة الشخصية الوثيقة، والتي لم استطع رفعها الى مستوى الصداقة لان الشيخ امام رحل قبل الاوان، ولان الواد نجم لا يستقر على حال لا سيما وقد اغواه اسمه الذي صار عنوانا لبرنامج تلفزيوني، او اغوته شهرته التي صورت له ان طريق الزعامة الشعبية مفتوح امامه… خصوصا انه لم يكن بين التائبين :
يا حبايبنا/ فين وحشتونا/ احنا في الغربة/ م الهوى ذبنا
وانتو في الغربة/ جوا في قلوبنا
واحنا في الغربة / م الهوى ذبنا .
التقيت احمد فؤاد نجم، لاول مرة، في وكر الشيخ امام في حوش آدم المتفرع من حارة آدم… وكانت العصبة التي قادتنا اليها مكتملة النصاب، بقيادة الزميل الكبير مصطفى الحسيني وفيها الدليل مهدي الحسيني بينما ينتظم بها جيجو ومصطفى نبيل ونسيم هنري وأنا في صفوف القاعدة.
استوقفت لبنانيتي الواد نجم، فاعتبرني خواجه وسألني في أي فندق أنزل ليغزوني مع الصباح… ولم يشفع لي عنده انني كنت قد هرّبت ديوانه الاول يعيش اهل بلدي فأوصلته الى الرفاق في مجلة الحرية في بيروت، وسلمته الى الزميل الذي لم تطل اقامته في الصحافة محمد كشلي نيابة عن القائد محسن ابراهيم لكي تتولى المنظمة طباعته.
… وجاء احمد فؤاد نجم في الصباح، ودخل غرفتي في شبرد تسبقه الشتائم لنا نحن خونة طبقتنا فبتنا ننزل في الفنادق الفخمة، فننسى أصولنا ونروج افكار المستغلين وقاهري الكادحين..
قال: سأبدأ بالحمام، لكي ازيل اوساخ القرون..
بعدها طلب من غرفة الخدمة الكثير مما لديها من الوجبات الخفيفة والعصير. ثم خرجنا في جولة على الاقدام امتدت لساعات طويلة وشملت منطقة الزمالك وغاردن سيتي حيث كان المعتمد البريطاني قد سد على المصريين منظر النيل وطريقهم اليه، ثم الى روز اليوسف ودار الهلال، وتماثيل الخالدين من قيادات الوطنية في مصر، مع وقفة خاصة امام مبنى الجامعة العربية لاستذكار مواقع ثكنات جنود الاحتلال البريطاني.
عندما قرر الانصراف قال لي بحدة: تفقد حافظة نقودك، فقد بدأت حياتي المهنية نشالا. قبل ان اصير صبي ميكانيكي ، وبرغم نقص تعليمي فقد كنت اتردد على مجالس الأدباء، حتى حظيت بالتفاتة من يوسف السباعي، وكان رئيس مجلس الآداب والفنون فأنعم علي بوظيفة بسيطة في المجلس لم يشبع مرتبها بطني لكنها أشبعت غروري بادعائي انني من اهل الادب والفن..
… في الليل التقينا مجددا، وأنعم علي بمرتبة الصاحب . وصارت خشة الشيخ امام ملتقانا في زياراتي الى القاهرة، كمندوب لمجلة الصياد ، والتي توالت غزيرة الى عاصمة الحدث والتي اتخذت سياقا ومعاني جديدة بعد هزيمة 1967 وعشية الانتصار المضيع في ,1973 مع محطة مفجعة في 28 ايلول 1970 تمثلت برحيل الرئيس جمال عبد الناصر.
سهرنا ليالي عديدة في حوش آدم مع الشيخ امام ومحمد علي، النحات والكورس والمضيف… وسهرنا ليالي عديدة اخرى في بيوت اصدقاء، وفي عوامات مستأجرة.
وسهرنا مرارا مع شعر احمد فؤاد نجم من دون الشيخ امام.
كان الشاعر الصعلوك كذابا ظريفا، اما بديهته فكانت اسرع من البرق، ونكتته جاهزة دوما..
وأذكر ان الشيخ امام جاملني في احدى السهرات فسألني: فين يا راجل ما حدش بيشوفك؟! ولما رددت باللازمة المصرية المألوفة: ما تشوفش وحش! عاجلني احمد فؤاد نجم بالقول حصل!! ، في اشارة لافتة الى ان الشيخ ضرير !
بعد وفاة جمال عبد الناصر قام احمد فؤاد نجم بما يشبه النقد الذاتي ، فأعاد الاعتبار الى هذا البطل العظيم الذي كان قد أقذع في شتمه، خصوصا أن المقارنة بينه وبين وريثه انور السادات قد كشفت الفوارق الهائلة بين الرجلين، وطنية والتزاما بقضايا الناس، وإيمانا بالشعب، فضلا عن الخلق والسلوك الشخصي والعائلي، وصولا الى العروبة والموقف من اسرائيل والامبريالية الاميركية الخ.
ولقد اجتهد نجم في التكفير عن إساءاته الى عبد الناصر، ولعله قد اعتمد اسلوب التشهير بسياسات السادات وسيلة لاعادة الاعتبار الى بطل الأمة … خصوصا ان الفترة السابقة على قرار الحرب كانت قد كشفت في السادات جوانب كانت خفية، فأظهرته معاديا لمطالب الجماهير بحيث وصف غضبها الذي احتل شوارع القاهرة جميعا مع مطلع العام 1971 بأنه انتفاضة الحرامية !
وأذكر اننا ذهبنا، ذات يوم، وبقيادة مهدي الحسيني دائما الى جامعة القاهرة، والتقينا حشدا من الطلاب فيها، من بينهم تلك المجموعة ممن خلّدهم احمد فؤاد نجم في قصيدته رجعوا التلامذة يا عم حمزة للجد تاني . كانت هناك سهام وكان معها بهاء و جميعي و زين وسائر افراد المجموعة ممن اعتقلوا فاستحقوا ان يدخلوا تاريخ نضال الشعب المصري من اجل الحرية.
على ان اطراف ما اذكره متصلا باحتفالنا بما حققته مشاركة الطلاب في الحركة الشعبية، انني اصطحبت القائد محسن ابراهيم و صناجة العرب توفيق سلطان الى سهرة مع الشيخ امام في عشته ، وكان دليلنا كالعادة مصطفى الحسيني ومعه بهاجيجو ومصطفى نبيل.
ولان السلطان سلطان فقد اصر ان نحمل معنا عدة السهر ، خصوصا ان بيت الشيخ امام فارغ مثل بيت الله .
وصلنا فإذا مجموعة كبيرة من الطلبة يحتشدون في المنزل المتهالك الصغير، وقد فرحوا فرحا عظيما بما نحمله… الا نفر قليل من الاصوليين بينهم، الذين رأوا اننا نعمل على افساد الشيخ، الذي كان لا يجيد الغناء، الا اذا بلغ درجة النشوة . وليس كالحشيش ولادة لنشوته!
للمناسبة: ذات اعتقال، وكالعادة، اوقف رجال المباحث احمد فؤاد نجم والشيخ امام امام اكياس من الحشيش المصادر ليلتقطوا صورة الإدانة، وهي حيلة تستخدم لتثبيت تهمة التجارة على المتعاطين بحيث يمكن استصدار احكام اشد… ومد الشيخ الضرير يده يتحسس ما خلفه فوقعت على الأكياس فسأل صديق عمره: فيها ايه الشوالات دي يا نجم؟! ورد الصديق: حشيش يا مولانا، حشيش… فقال الشيخ بعفويته المعروفة: طيب، فليحكمونا تأبيدة هنا، وسط الأكياس!
طبعا لن أتوقف هنا كثيرا عند شعر احمد فؤاد نجم ومدى خطورته كمحرك بل كمحفز على الاعتراض والغضب بل والثورة على الفساد في السياسة كما في الاجتماع، وفي العسكر كما في الجامعات، وان ظل القرار السياسي الخاطئ والمضلل ومضيع الاوطان هو المفجر.
اكتفي هنا بقول ما سبقني اليه كثير من النقاد ، او بالأحرى من متذوقي الشعر الشعبي، ومن مقدري اهمية هذا الفن وتأثيره في الرأي العام: فليس احمد فؤاد نجم وحيدا او رائدا في هذا المجال، بل هو تلميذ نجيب في مدرسة لها دورها التاريخي المحفوظ في سجل النضال الوطني في مصر.
مدرسة لعلها بدأت قبل عبد الله النديم، وإن كان بين ابرز مراجعها، وعرفت ذروة مجدها مع سيد درويش والذي جاء بيرم التونسي فأضاف وأكمل مبدعا… ثم تزايد عدد من حمل الرسالة وعبر عن وجدان مصر، فعرفنا قليلا من هؤلاء المبدعين من بينهم صلاح جاهين وقاعود وفؤاد حداد و الديوان وعبد الرحمن الابنودي وغيرهم كثير.
… احمد فؤاد نجم حفر لنفسه مكانا في وجدان الناس، لذلك فمرضه ليس اكثر من جملة معترضة… ولعله سينظمه غدا قصيدة في هجاء الامراض، سياسية بالأساس، وقبل تلك المتصلة بالصحة.
صديق خبيث نصحني قائلا: لا تتعجل في رثاء نجم، ان هذا الملعون سيعيش ألف عام، وسينظم قصائد تهكمية في رثائنا جميعا!
… وأتمنى ان تكون نصيحة الصديق في محلها، وأن يرجع نجم للجد تاني ، والا تخسر بهية صبي الميكانيكي الذي غنى لسلامتها ما نستعيده اليوم لنرده اليه.
المسيار يحتل الفضاء…
على امتداد يوم رمضاني طويل أتيح لي أن أستكشف فأعرف من الفضائيات العربية ما لم أعرف، وأرى على شاشاتها ما لا يخطر ببال من مبتدعات التجهيل ومن عوامل تفجير الفتنة بين المسلمين، ومن مبتكرات تحقير الذات الإنسانية فضلاً عن تشويه الذوق العام.
قال لي صاحب اللحية المطلقة متباهيا: أتعرف أن الفضائيات العربية تزيد عن المئتين وخمسين عدداً، وان من بينها أكثر من خمسين محطة ذات رسالة توجه المسلمين الى ما فيه خيرهم وخلاصهم؟
طفقت أتجول بين القنوات، أحاول أن أحفظ أسماءها المبتكرة وشعاراتها التي وضعت على عجل والتي غالباً ما ينقصها الذوق،
الهواء مشاع ومفتوح أمام القادر على احتلاله.
والقدرة تعني ما يتجاوز المال الى التجرؤ على القيم الاخلاقية فضلاً عن تحدي الذوق العام.
فأما المحطات التي تزعم أنها موسيقية أو غنائية فهي تتنافس في ما بينها على الرديء والمبتذل بل المنحط من المنتجات الغنائية السريعة، والتي لا مجال لنقدها فالكلام أي كلام واللحن نقرات على الاورغ مع طبول تفتح الباب أمام الجاز ، بحيث ان اللحن الواحد يصلح لعشر أغنيات أو عشرين.
ثم إن هناك نمطاً جديداً من التفاهات المموسقة تستغل الاطفال والصبية، فتذبح براءتهم، وتجعلهم مهرجين أو مساعدين لمن يشاء أن يمنح الغناء، كلاما ولحنا وأداء فيجعله مجرد مسخرة تهين الذوق العام وتشوه ذائقة الاطفال وتجعلهم مهابيل .
على أن الأخطر هي تلك القنوات التي تقدم نفسها باعتبارها صاحبة رسالة مهمتها شرح الدين.
بين هذه القنوات من تعمل إداراتها، بوعي، على إثارة الشقاق بين المسلمين عموماً، وليس فقط بين السنّة والشيعة، بل داخل السنّة ايضا، وداخل الشيعة.
فهناك، مثلاً، قناة تحمل اسم المسيار وتشرح قواعد هذا النمط من الزواج ، الذي تراه الغالبية من المسلمين تحايلاً لتشريع ما هو غير شرعي من العلاقات بين الرجل والمرأة… وبالتأكيد سوف تفتح قنوات اخرى لشرح زواج المتعة والزواج العرفي الخ…
وما دام الهواء مفتوحا فما أسهل تعميم الفتنة، وعبر رجال يتوجون رؤوسهم بالعمائم، مما يغني الاميركيين والاسرائيليين وسائر الاجانب المستفيدين من الفتنة، عن بذل عن أي جهد.
فالعرب يحبون أن ينحروا بعضهم بعضاً، أو أن ينحروا أنفسهم بأيديهم.. و لا جميلة الغريب !
لمن نتوجه بالشكوى؟.. للا أحد؟!
انما هي تخاريف من يفترض أن يكون صائماً في… شهر الشراهة الى الأكل، بشهادة كلفة رمضان. أما في إفطار النفط فإن كميات الطعام تشبع عينك قهراً، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
من أقوال نسمة
قال لي نسمة الذي لم تعرف له مهنة الا الحب:
لا تهمل حبك. انه طفلك بقدر ما انت طفله، يرعاك فترعاه ويحميك فتحميه.
دعوا الاطفال يأتوا الي ، عندي من الحب ما يكفيهم، بغير ان انقص من حق طفلي الذي هو قبلهم جميعا.

Exit mobile version