طلال سلمان

هوامش

رحيل النضال في السودان: فاطمة، الشفيع، الحزب…
مرة واحدة يسّر لي حظي أن ألتقي السيدة فاطمة محمد ابراهيم. ولكني كنت أعرفها جيدا من خلال أنشطتها الباهرة، كمناضلة صلبة، بل كفائدة استثنائية في إخلاصها لما تؤمن به وفي قدراتها غير المحدودة في صفوف الحزب الشيوعي السوداني الى جانب رفيق عمرها وقدوتها الشفيع احمد الشيخ.
هل من الضروري أن ننكأ الجراح فنتحدث عن الفروق الهائلة بين الحزب الشيوعي في السودان وسائر الاحزاب والمنظمات الشيوعية أو اليسارية في مختلف أرجاء الوطن العربي… ام ان ذلك كله بات مثل الاحزاب ومثل الشيوعية من الماضي؟
ربما يكفي القول ان الحزب الشيوعي السوداني كان حزبا وكان شيوعيا وكان سودانيا، ويمكن أن نعكس ترتيب الكلمات فلا يتأثر المعنى.
يمكن أن نعتبر السيدة فاطمة النموذج، كما يمكن أن نتخذ من الشفيع نموذجا، أو لعلنا نرقى الى زعيم الحزب عبد الخالق محجوب، أو نكتفي بأي مناضل حزبي فتكون النتيجة واحدة: الحزب ابن شعبه البار، ابن أرضه العربية الافريقية، ابن مجتمعه الاسلامي الذي تغلب عليه البيئة الصوفية، تحيط به مجاميع هائلة ممن يصعب اعتبارهم وثنيين كما يستحيل تصنيفهم أتباعا لدين آخر، وانما هم ما زالوا على ما ورثوه من طقوس وتقاليد لا ترقى الى مرتبة الدين وان كانت ترتبط بالطبيعة وظواهرها، فضلا عن أقلية مسيحية تعمل البعثات التبشيرية المتعددة الجنسية جاهدة على اكتسابها الى دعاويها السياسية أكثر مما الى دين السيد المسيح.
كان الشيوعي السوداني، أو الشيوعية السودانية، بألف ممن نعرف وتعرفون: إيمان مطلق بالشعب، بالانسان، إيمان ثابت بالهوية، فهم حقيقي لدور الدين في مجتمع متخلف وقدرة استثنائية على المواءمة بين المعتقد الديني الموروث وبين الطموح الى تغيير الواقع والأخذ بأسباب التحديث من دون الخروج على ثوابت اليقين، ومن دون استفزاز الآخرين، متدينين أو لا دينيين.
وكان الشيوعي السوداني مناضلا صلبا من أجل حقوق شعبه في خيرات أرضه، ومن أجل التقدم. ولقد ظل سودانيا وعربيا وإسلاميا (أو مسيحيا) من دون أن يصير سوفياتيا . وآمن بالتضامن بين الشعوب من دون أن ينسى هويته.
أما السيدة فاطمة محمد ابراهيم فكانت طليعة الطلائع: ثقافة، ورهافة حس، وصدقاً، واندفاعاً بغير تهور، وصلابة في الدفاع عما تؤمن بأنه حق الشعب: حرية المعتقد، حرية التعبير، حرية العمل، وحرية المرأة التي لا هي جارية ولا هي قارورة طيب، بل هي أم وأخت وبنت، سيدة قرارها، لها الحقوق التي لأخيها أو لرجلها أو لزميلها، وعليها ما عليه من واجبات.
فأما ثقافتها فكانت واسعة، إذ كانت قارئة ممتازة، مفتوحة الذهن على الافكار الجديدة، رحبة الصدر في نقاشها لآراء المختلفين معها وعنها، صادقة حتى الجرح، ثم إنها متحدثة بليغة العبارة وخطيبة مفوهة. باختصار كانت قائدا وكان الثنائي الشفيع وفاطمة استثنائيا في تآلفه وتكامله، خلقا ومسلكا، نضالاً واجتهاداً، دأباً على العمل وانفتاحاً على الآخرين. أما قدرات هذا الثنائي فكانت أسطورية على حد وصف صديق مشترك: كانا ملء العين والسمع، حركة دائبة ونشاطا لا يتوقف، ومشاركة في مختلف الأنشطة في الداخل والخارج، كتابة وخطابة ونقاشا رصينا وجادا، لا يأخذهما زهو المزايدة، ولا يخيفهما التراجع عن خطأ في الاجتهاد أو التفسير.
[[[
ذات زيارة للسودان بعد الثورة التي أعطيت قيادتها لجعفر نميري في حين كان الحزب الشيوعي السوداني قوتها الدافعة، ضباطه يتصدرون واجهتها وجمهوره يحميها في الشارع، التقيت الشفيع احمد الشيخ في مكتبه في الاتحاد العمالي العام.
كان المكتب يعج بالضيوف وأصحاب المطالب والنقابيين بحيث تعذر علينا المضي في الحوار حتى ختامه. قال الشفيع: من الافضل أن نلتقي غدا. تعال عند الحادية عشرة فنكمل حديثنا.
عدت في الغد فرأيت الشفيع كامل القيافة، سودانيا: الجلابية والعباءة والعمة… وبادرني لحظة رآني: آسف، لقد أخطأت معك. قاتل الله النسيان، لقد نسيت أن اليوم الجمعة!
قلت: أما وانه يوم الجمعة..
ضحك وهو يقول: صلاة الجماعة!
وحين لمح شيئا من الدهشة يحتل صفحة وجهي استطرد يقول: … وأنا ملتزم بأن أصلي صلاة الجماعة. المسجد قريب في أي حال، ويمكن أن أعوضك بأن أدعوك الى الغداء بعد الصلاة.
افترقنا لبعض الوقت، ثم مر بي في الفندق فصحبني الى منزله حيث حظيت بلقاء رفيقة دربه وحزبه وعمره السيدة فاطمة محمد ابراهيم. في الطريق، قال الشفيع: يفترض بعض السذج أو أصحاب الاغراض أن الشيوعية تخرجنا من الإسلام، بوهم أن الماركسية تقول بأن الدين أفيون الشعوب. وحقيقة الأمر أنني وعموم الشيوعيين في السودان لا نجد تناقضاً بين إسلامنا وشيوعيتنا. إلا ينص الاسلام على العدل والمساواة واحترام كرامة الانسان وحقوقه في أرضه؟
ضحك قبل أن يستطرد: بوسع الاصدقاء من الاخوان المسلمين أن يتغيبوا عن صلاة الجمعة، فهم محصنون، أما غيابي فيجعلهم يصنفونني في موقع المرتد!
قالت السيدة فاطمة: لكنك لا تذهب خوفا من التهمة، بل لأنك سوداني طبيعي ومسلم طبيعي، تماماً مثل أي مواطن من شعبك الذي يتميز بصدق إيمانه. ان الاسلام مكون أساسي للشخصية السودانية.
[[[
لقد رحلت السيدة فاطمة محمد ابراهيم بعد رحيل الحزب الشيوعي السوداني، بل بعد رحيل الحركة الشعبية القادرة والفاعلة قائدة التغيير نحو الافضل في مرحلة من مراحل تاريخنا الحديث.
المفجع أن الحركة التي قادها الحزب الشيوعي، للتغيير، متوسلا فيها العسكر بزعامة جعفر نميري قد انتهت بقياداته الى المقصلة، فتم إعدام معظم قياداته، وبينهم الشفيع احمد الشيخ، بينما فرض على الآخرين أن ينزلوا تحت الارض لعصر طويل، فلم يظهر الأمين العام الوريث نُقد إلا مؤخراً، وبعدما كان الحزب قد خسر رصيده الشعبي العظيم… وهو رصيد ناله بسبب من صدق وطنيته، وجدارته بتمثيل مجتمعه، بمطالبه ومطامحه، ونضاله الصلب من أجل الحرية والاستقلال والديموقراطية والخبز مع الكرامة.
أبرز الدروس المستفادة من التجربة الشيوعية الباهرة في السودان: ان العسكر ليس الطريق الاقصر الى التغيير، ولا يمكن أن يكون الافضل. وأن التدين ليس هو العقبة في وجه الطموح الى التغيير، إلا اذا كان من يريد التغيير غريبا عن واقعه، يتعامل مع أهله كأنه هجين يحتقر تاريخه ومكونات الوجدان لدى ناسه، فكيف سيقبلونه نبيا مبشرا بعصر الانسان، ما دام ينكر عليهم إنسانيتهم؟!
رحم الله السيدة فاطمة والمناضل الشفيع وكل الذين ناضلوا من أجل التغيير بصدق، ولكنهم أخطأوا الطريق والوسيلة فخسرناهم وخسرنا معهم الزمن العزيز الذي كنا نحتاج اليه لاستخلاص الحق ببناء الغد الأفضل.
حكاية/ التفاصيل.. والجحيم!
لم يكن يعرف منها إلا اسمها، ولم تكن تعرف عنه إلا ألقابه المهابة. ومع انه لا يستطيع أن يتذكر من حوار اللقاء الاول إلا نتفا من المجاملات إلا أن رنة الحزن في صوتها إضافة الى السهوم الذي كان يظلل عينيها السوداوين حتى حين تبتسم قد جعله يسميها الحمامة المطوقة .
لم تكن للمصادفات مواعيد، إلا أن الهديل قد باغته في مناسبات عدة، فانتبه الى أنها تعرف كثيرا ، وأنها تهتم دائما بأن تعرف أكثر، وتلح في السؤال حتى الإضجار.
قالت: ولكن التفاصيل هي حياتنا، يا سيدي.
لم يعلق. حدق في عينيها يستقرئ حزنها. هدلت :
بين التفاصيل، يا سيدي، ان صديقتي هذه التي تنظرني من خلفك تتهمني بأنني أريد أن أخطف منها زوجها، لسبب وحيد هو أنني ترملت وأنا بعد في شرخ شبابي… ربما لن تصدق روايتي، مع أنها مكتوبة بوجعي. لست أريد أكثر من أن أرى أبنائي رجالاً يعرفون ماذا يريدون من حياتهم، ويقدرون على تحقيق ما يريدون!
فوجئ بالجرح المفتوح، ولم يكن يملك إلا صمته كدليل على التعاطف.. واستدر الصمت مزيدا من الاعتراف… هدلت مجددا:
لعل الزمن يتيح لنا مصادفة أخرى فأكمل الرواية. أما الآن فلسوف أنسحب قبل أن تقدم صاحبتنا على ما سوف يكون فضيحة.
انفتلت مغادرة، ولحقها أصحاب الدار مودعين… وأغوته نفسه بأن يفترض بأنها قد خصته بنظرة خاطفة من عيني الحزن في وجهها الصبوح.
بعد شهور، ثلاثة أو أربعة، لا يذكر على وجه التحديد، جاءته بها مصادفة اخرى. لم يتمالك نفسه فاندفع نحوها وهو لا يعرف تماما هل يريد سماع تتمة الحكاية، ام انه يريد أن ينشئ حكايته الخاصة.
هدلت الحمامة المطوقة: أراك مهتما بالتفاصيل مثلي.
قال بغير أن يفكر: أليست هي حياتنا؟!
ابتسمت، فإذا وجهها يشرق، واذا غمامة الحزن تنزاح عن عينيها، فبدت وكأنها استعادت صباها وألقت عن كتفيها ألف سنة أو يزيد.
قالت: هل تريد تفصيلا جديدا؟! لقد جئت متوقعة أن أراك هنا.
ضحكت فضحك… قالت: لو أنك تسقط عن كتفيك ألقابك. لو أنك تنسى للحظة عيون الآخرين، إذن لكنت أخبرتك تفاصيل مختلفة.
استعاد وقاره فجأة وقال: لكن الآخرين ليسوا تفاصيل! إنهم الجحيم! هدلت الحمامة المطوقة وقد استعادت عيناها السوداوان سهومهما: شكرا لمصادفة الوداع…
انصرفت مغضبة وعاد يراجع التفاصيل لكي يحدد أسباب سقوطه في هاوية الجحيم!
من أقوال نسمة
قال لي نسمة الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
المحبون لا يعرفون الخسارة..
إنهم يملكون أسرار بهجة الحياة، وعندهم من فائض حبهم ما يمكنهم من أن يعوضوا ما فاتهم.
للحب نقطة بداية، منها تبدأ الحياة وبه تكون الجنة.

Exit mobile version