طلال سلمان

هوامش

حوار مع حنظلة… عن قتلة ناجي العلي
كنتُ في صنعاء، يا ناجي، حين تفجر اسمك مدوياً فغطى بالدم وجهي، بينما اقتحم حنظلة الغرفة ليواكبني في طريق العودة.
لم أكن أعرف الا قلة من اليمنيين. والفنادق باردة اكثر مما يليق بأحزان الغرباء.. لكنهم قرأوا على وجهي اسمك فاندفعوا نحوي يشدون على يدي ويجمّدون في عيني تلك الدمعة حتى اليوم: لا يليق البكاء بالشهداء، فكيف بمن يغتاله السفاحون في أرض غريبة، باردة وبعيدة بالعاطفة كما بالعقل؟
اندفعت نحو مكتب الاستقبال لأحجز العودة على اول طائرة فإذا الموظف يترك موقعه ويجيء إلي مهتاجاً: أمتعجّل أنت لكي تشارك في تشييعه؟! إكرام الشهيد في إبقائه شاهدا يحاكم القتلة ويدينهم بدمه حتى لا يواصلوا إطفاء المشاعل المضيئة على الطريق إلى الغد.
كانت إلى الخلف منه خارطة كبيرة تتمدد فوقها أقطار هذا الوطن العربي الفسيح، مزركشة ألوانها لتؤكد انفصال كل منها عن جاره الشقيق… حدقت فيها فإذا الخطوط الفاصلة بين دوله الكثيرة سواقي دم.
هل تبحث فيها عن القتلة؟
اندفع نحو الخارطة مهتاجا وأخذ يتقافز بسبابته من كيانات أقصى الجنوب إلى أقطار المشرق لينتهي عند مضيق جبل طارق: وقال بلسان حنظلة: إنهم في كل مكان على امتداد عالم العتمة والدم المسفوح، هذا. كلهم مشارك في التحريض والتنفيذ. كلهم متواطئ! من هنا من حيث نقف صعودا إلى جزيرة الذهب الأسود والصمت الأبيض والهمس القاتل، فإلى مشيخات الخليج المهجّنة التي يراد لها أن تكون دولا لاغية للدول، إلى بر الشام حيث بات اقتتال الإخوة بديلا من قتال العدو، إلى مصر التي سلمها نواطيرها إلى جلادها الإسرائيلي، إلى ليبيا التي قزّمها حاكمها في حدود صورته المفردة، فإلى الجزائر التي اغتالها ثوارها المتلهفون إلى السلطة وصولا إلى مغرب صمت مولانا الموت الملكي…
كنت مذهولا بعد، أمسح عن وجهي بعض دمك يا ناجي، وقد ابتعد حنظلة إلى ركن قصي يسمع كلماته بظهره، بينما عيناه تسبحان في فراغ الأفق..
وسمعت صاحبنا اليمني الذي كان قد استعاد حزمة القات وعاد يحشو فمه بأوراقها الخضراء الندية: يقول، مرة أخرى بلسان حنظلة: لا تحسبن أنني قد نسيت الأخوة الفلسطينيين وقياداتهم المتناحرة في قلب معتقلات المنافي وفيافي الشتات. من أضاع طريقه إلى القدس لن يتورع عن ارتكاب جريمة اغتيال مبدع فلسطيني في لندن. عذره هناك الضباب. لكنه ضباب عربي هذا الذي يغطي اغتيال ناجي العلي.
كنت أسمع حيرتي بصوت هذا الأخ اليمني المحنظل : متى انعدم السبب الشخصي المباشر للجريمة صارت التهمة قومية تكاد تشمل كل صاحب قرار عربي، حاكما أو متحكما، أو مستشار سوء لهذا وذاك، في الداخل أو من خارجه.
[[[
ترك حنظله القاعة ومشى فوق الغيم. لطالما سمع مثل هذه المرافعات، ولكنه يريد ما بعد الكلام، أو ما يلغي الضرورة للكلام: من لم يكن من بينهم منفّذا كان مشاركا بالنية أو بالرغبة، ومن لم يكن محرّضا فهو شريك في استشعاره الآن قدرا عظيما من الراحة، ولسان حالهم جميعا يقول: لقد تخلصنا من مفسد اللذّات!
تكاثر من حولنا الملهوفون إلى خبر أو إلى تفصيل قد يطمئننا. ولفتني سعادة غامرة وهم يقبلون عليّ باعتباري أهلك يا ناجي. هنا أيضا عليّ أن أتشرف بهذا الموقع… وهنا أيضا عليّ أن اغرق، كما كل أهلك، في بحر اسود من العجز عن محاسبة القتلة. إنني، كغيري، أعرفهم واحدا واحدا، بألقاب الجلالة والفخامة والسيادة والسمو، مهما تنكروا. أعرفهم بأسمائهم الصريحة ووجوههم ذات الملامح الصخرية: لا العيون تشع بالذكاء، ولا هي توحي بالطيبة، ولا القيافة تعني العروبة، ولا الجهل يعني البراءة، ولا البعد يعني العجز عن ارتكاب الجرم فسيف السلطنة طويل.
ثم، لماذا الحيرة؟!
إنهم جميعا شركاء. لقد نثروا دمك على القبائل ، وهم الآن مثلهم من قبل: ليس بينهم بريء!
[[[
في الطائرة غرقت في أفكار ما بعد الحزن: كيف نستبقيك في غدنا؟ نقر حنظلة على شباك النافذة نقرتين فخجلت من أفكاري.
في بيروت كان عليّ أن أواجه اكتمال دائرة المأساة: أنت مشاع، إذاً أنت مهدد أن تكون لا احد. آنت تخص الجميع. إذاً لسوف تقتل مرة ثانية وثالثة ورابعة ومع كل مطلع شمس.
كنا نعرف جميعا أن لا أمل في إنقاذك. وكنت في غيبوبتك تريد أن نحفظ حضورك لغدنا. وحين طلبوا ذلك الطبيب الشهير من بيروت، وكأنه يتفوق على أفضل أطباء بريطانيا علما وخبرة، همس حنظلة: أمن الضروري التوغل في الجراح التي ستظل مفتوحة كشهادة على القتلة؟
رفض حنظلة العودة إلى لندن. كان همه أن يذهب إلى أبطال الجريمة ليدل عليهم واحداً واحداً. ولكنه سرعان ما تخلى عن هذه الفكرة. هم مكشوفون! فلتكن الإدانة علنية وعامة كما الجريمة. هم لم يقتلوا رجلا. هم وجهوا رصاصهم إلى جذوة الفكرة المحرّضة على استئصال العتمة، وإلى إزاحة مغتالي الضوء.
بعد وقت، عمت فوضى الاتهام حتى ضاع الدليل. ولكن، ماذا يعني أن يتهم مجرمون مجرمين آخرين؟! هذا لا يعني إلا أن الكل شركاء.
[[[
حنظلة هائم الآن على وجهه: بعضهم جعله تعويذة، والبعض أقام له تمثالا، والبعض نظم فيه ديوانا من الشعر، والبعض جعله بطاقة بريدية يتبادلها الأصدقاء في الأعياد.
كان وحده خارج الوطن. الكل الآن بلا أوطان. ألغيت الأوطان وإن استبقيت الرايات لتدل على التابع والمتبوع. الراية الأميركية تظلل الجميع، حتى أولئك الذين احتموا براية النجمة السداسية ذات الخطين الأزرقين.
حنظلة الآن في صدور الأطفال. ينتظر أن يكبر بهم ليعود إلى دوره. لقد يئس من جيلك ومن الجيل الذي بعدك. هؤلاء أغرقهم الطوفان.
حنظلة الآن شريد طريد العدالة لا يجد من يؤويه. انه المطلوب الرقم واحد في أرجاء الأرض العربية جميعا. لا هو يطلب الحماية ولا ثمة من يتمتع بالأهلية ليعرضها عليه، أو بالقدرة لكي يحفظه للغد.
ونحن، رفاقك وأبناء جيلك الذين ولدوا لفلسطين وعاشوا بها من دون أن يعرفوها أرضا للزيتون والأنبياء، نخفيك في صدورنا حتى عن عيوننا. إننا نخجل منك، ليس لأن دمك قد ذهبك هدراً، بل لأننا نريد بوعي أن ننساك حتى لا تظل تعذبنا بعجزنا عن أن نكونك، كما عن أن نكمل دورك.
لقد كانت رصاصات كاتم الصوت التي أردتك في أرض الغربة إعلانا بالخاتمة الحزينة لعصر الآمال العراض وامتلاء الصدور بالثقة بالنفس.
لقد أردتنا جميعاً تلك الرصاصات التي لم نملك أن نردها عن رأسك، فأصابتنا في رؤوسنا جميعاً، واغتالت معك أحلام التحرر والتحرير، وإنهاء دهور القمع والدكتاتورية المذهبة والديموقراطية الكذابة،
بل لعلها قد أصابتنا بالشلل.
أن تموت وحيداً، يعني أن الجميع موتى.
لقد كنت آخر ما تبقى من المواطن ، آخر ما تبقى من القضية .
بات علينا أن ننتظر جيلاً ثالثاً، غيرنا وغير الجيل الذي أفسده تخاذلنا وسكوتنا عمن قتلوا الوطن والقضية فيك.
بات علينا أن نحمي حنظلة منا، من ادعائنا أننا أهله.
وحنظلة منا كمثل يوسف من إخوته، وليس بيننا يعقوب.
[ [ [
لعلنا نحتاج عشرين عاماً أخرى، يا ناجي. لعلنا نحتاج مئة عام. لعلنا نحتاج ألف عام. لسنا نعرف لأنهم سرقوا منا الزمن. اغتالوا الماضي وقتلوا الحاضر وها هم يحضّرون كواتم الصوت لاغتيال المستقبل.
أما نحن فقد نسينا شعر المفاخرة والزهو. نسينا الكفاح والنضال واشتط بنا الجهاد فطفقنا نغتال النور فينا.
في ذكراك العشرين نكاد نحسدك: أنك رحلت قبل أن ترى ما نرى. صارت فلسطين أثراً بعد حين. أكملت إسرائيل احتلالها، أرضاً وشعباً ومصيراً، تاركة فيها سلطتين تافهتين، مفلستين فكراً وسياسة ومالاً.. وأما الحكام البراميل فيوفدون وسطاء الخير منهم لكي تقبل إسرائيل استسلامهم فتأبى وتستكبر.
لن أحدثك عن لبنان، بعد فلسطين، فأقتلك ثلاثاً.
لن أحدثك عن مصر، إذ أخاف أن يسقط القلم من يدي قبل أن أكمل وصفي لما جرى لها وفيها.
سأقول لك، بإيجاز شديد، إنك لو عدت فلن تجد صحيفة تنشر لك رسومك، ولن تجد دولة عربية تعطيك تأشيرة دخول، فضلاً عن إجازة العمل.
سأقول لك، بحق عشرة العمر والخبز الملح ورصاصات الحرب الأهلية وعبواتها الناسفة والقذائف التي طالما تربصت بك وأنت في الطريق من مخيم عين الحلوة وإليه.
سأقول لك إن عين الحلوة تنزف دما بارداً.
سأقول لك إن لبنان، بعد فلسطين، ينزف أهله وحاضره.
سأقول لك إن الأمة تنزف مستقبلها.
أما التفاصيل فلسوف تصلك مع حنظلة الذي لا يجد غير الأفئدة ملاذاً وملجأ يحميه من… أهله.
ناجي العلي: أيها المستعصي على التكرار كما الموت، سلاما من السفير التي شرّفتها بالانتماء إليها وشرّفتك بأنها تحفظك بعد الغياب، لا تنكرك ولا تتنكر لك.
وحنظلة هو الشاهد والشهيد.
من أقوال نسمة
قال لي نسمة الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
الحب قيمة. الحب فكرة أيضا. الحب مفهوم للحياة.
الحب يرتقي إلى مستوى التجريد أيضاً.. وإلا كيف نفسر أننا نحب في حنظلة الوطن والحق والعدل والأرض والأطفال والورد والشعر والموسيقى… وذات العينين الناعستين كالآه؟!

Exit mobile version