طلال سلمان

هوامش

عن شاعر الحزن مثلث الأضلاع: الياس لحود
لا بد أن في الامر سراً: لماذا تتفجر ارض الجنوب بالشعر، وتمتاز على ما جاورها من مناطق في البلاد التي تتنافس جهاتها جمالا وبهاء وبإنجاب المبدعين؟!
هل هي البيئة؟ هل هي الوراثة؟ هل هي الذاكرة الجماعية التي تختزن تراث الأجداد ثم تعيد خلقه نضرا، دافقا، جيّاشا بالعاطفة، طريفا، لطيفا ومنغّما بالشجن المعتق؟
إذا ما حاولنا التفسير بالسياسة كان لا بد ان يستوقفنا، مع الفقر المدقع، الحزن المتوارث جيلا بعد جيل، ناقلا بالشعر تلك المأساة الانسانية التي غدت علامة فاصلة في تاريخ هذه المنطقة، ما بعدها غير ما قبلها تماما، لا سيما ان العلاقة قديمة جدا بين اهل جنوب لبنان وبين الحوزات العلمية في النجف الاشرف، وكربلاء منها على مرمى دمعتين.
… وبعد كربلاء و النجفين التي عادوا منها محمولين على طوف من الشعر، جاءت الهزيمة العربية في فلسطين، التي هي على مرمى جرحين من الجنوب لتجدد الفجيعة ذات الجذر السياسي، لا سيما ان اسرائيل قد اتخذت لنفسها صورة قاتل الجميع : رجالا ونساء وأطفالا، بيوتا وزيتونا وأشجارا مثقلة بالبرتقال، ودوالي عنب ونصوب تين، وأصص ورد وحبق، وعلى الطرقات تتناثر تلك الزهور التي يداخل أصفرها السواد، كف مريم.
المهم، أن الجنوب يتوالد شعرا، فالشعراء ينجبون الشعراء، ومتذوقو الشعر ينجبون المتذوقين، والمباراة دائما مفتوحة.. وحتى الشعر الحديث، بكل جبروته، لم يستطع ان يغلقها، وان يلغي القديم المعتق، حتى مع اتساع المسرح للجديد المبتدَع والذي كثيرا ما استغلق فهمه على قائله.
… ولأن الياس لحود جنوبي فإن شعره عابق بالفجيعة حتى وهو يتفجر بفرح الابداع وينشر النشوة في قارئه أو سامعه…
والياس لحود هو واحد من شعراء جنوب الجنوب، ولذا فهو يكاد يكون فلسطينيا، ويكاد يكون سورياً، برغم اعتزازه بلبنانيته، فهو ابن ذلك المثلث تحت الهضبة الذي كان واحدا فاتسع للمنازعات بين ثلاث دول ..
الرجل: (انها) لحظة الصفر. اني ارى في البعيد البعيد عناقاً
فكل الضواحي نساء، وكل النواحي رجال..
سوى رجل وصل الآن من بيت ياحون ، وامرأة عانقته طويلا،
و… نامت على ساعديه قليلا!
المرأة: لم يشأ فضل ان يختم الفصل. قال لهم: فوق رأس الجبل مسلك تطلع الشمس منه وترمي على كل قبر جديلة. بعد ان يجمع الفجر أضلاعه سلة من شواغير، ينزع ضلعا يحدق فيه وينفخ فيه ويعلنها امرأة مستحيلة.
يرى الياس لحود الناس أشجارا وزهورا: أول الورد قرميدهم، آخر الورد باب الظهيرة، وترقص القرى في الجهات اختيالا..
الحرير الاخير لسيدة الكرز الليلكي تشهر شباكها في الحواكير .
يستذكر الياس لحود في ديوانه الجديد أيقونات توت العليق الكثير من الأحبة الذين أخذهم منا الموت فأخذ منا بعضنا معهم..
وفي صلاة الفندق يستذكر عبد الرحمن منيف:
فجري باب مفتوح في مدن الملح وعشر نواح مقفولة ب شعوب تبنى بخرافات /ونوافذ مغلقة نائمة في الجدران/ من يقفل فجري ويسكره فيّ بمفتاحي وينام على مقعد ثلج أخضر، في ساحة غيفارا خلف صباحي.. غير السكران… حنا السكران.
كما يستذكر، في لحظة نشوة عروة بن العروة:
يحيا الساتان ويشهق، من اول فتحة عروة.. الى آخره.
ويستذكر ذلك الشاعر الذي عاش بالحزن وللحزن ومات فيه: صلاح عبد الصبور:
يا عبد الصبور.. ادخل من اعلى برج الناس المائل، في وجه بلادي واعقد عنقك مشنقة تهتف: زهران! (صرخت جارية في سيد، وجرت بين العين ودمعتها كالنيل العميان تزغرد..
… ويأخذه الحزن على عبد الصبور الى مصر كلها:
صدق حكي السائق، صدق تلك النافذة الخربانة،
في سيارة مصر المبحوحة..
لوسي نافذة ببيارق لم تفتح من عشر زنابق.. صدق حكي جمال السائق!
في كل بيت من قصائد الديوان الجديد وما قبله تطل من لغة الياس لحود تفاصيله الريفية التي تختلط فيها فلسطين بجبل عامل ويجيء الهواء حورانيا عبر الجولان:
لا احد في البيت. حتى الوردة ليست في البيت. حتى البقرة والزيتونة. حتى التينة والبوابة والمجلى وخزانته ليست في البيت. حتى البيت القابع مثل قصيدة أعشى ليس هو الآخر في البيت.
في البيت حبة زيتون بشرها جدي ان تعصر كل نهاية صيف… تنكة زيت.
الياس لحود الذي يتبدى كأسير حرب سقط دون ان يستسلم وهو يخوض المعركة التي لا بد من النصر فيها.
انه ابن جنوب الجنوب الذي يكاد يلمح من نافذته أهرامات مصر عبر فلسطين… ثم ابن تلك البيئة التي اسقط فيها الخطر على الوطن معارك الهويات الطائفية، لان الاسرائيلي الذي عاش وأقام دولته على التمييز العنصري، لا يميز بين ابناء الطوائف في الجنوب: فكل جنوبي مقاتل الى ان يثبت العكس، وإذا ما ثبت العكس كانت الهزيمة اسرائيلية.
وها قد فرغنا من قراءة الديوان الجديد قبل ان تفرغ ولاّدة بنت المستكفي من عد اصابع رجليها، فالارض جميلة، تنقص او لا تنقص تلك حكايتها، في كفي تسع اصابع، والعاشر تذكرة يا سيد زرياب .
حكاية/ آدم في الجنة.. وحيدا!
حين انتبه من إغفاءته القصيرة كان صمت أخضر يلف تلك الخميلة التي طالما تجوّل في جنباتها الملفوفة بالورد حين كان يسافر مع احلامه الى أبعد من مدى البصر.
توالت عليه المفاجآت وهو ساهم ينظر فلا يرى تماما، ثم قرر ان يركز تفكيره لكي يعرف اين هو، وماذا جاء به الى هذه الجنة التي تستدر الشعر.
اخذ يتأمل ما حوله مستكشفا: اشجار الحور تتطاول في اتجاه الغيم، عارية السيقان، اما اوراقها التي تتكاثف عند القمة فلها ظاهر اخضر وباطن اقرب الى البياض. وفي ركن منعزل تنتصب تلك الشجرة اللاتينية الاصل بوريقاتها النبيذية التي تصير حمراء متى داخلتها اشعة الشمس. اما شجرة العنبر بوريقاتها الرقيقة فتخرج نفسها من المباراة لانها منهمكة بنسج زهورها القطنية الصفراء التي تتبدى اشبه بحبات منثورة من عقد كان لأميرة او سيكون لها متى وجدت صائغها. في الركن الآخر كانت الصفصافة الباكية تنحني بأغصانها المتهدلة في اتجاه النبع، تهزها النسيمات الرقيقة حينا فتتبدى وكأنها تندب عزيزا غاب فإذا ما اشتد الهواء صارت تتمايل بمرح سكير هزته النشوة حتى التعتعة.
من قلب سور الياسمين كانت تطل شجيرات الورد.
كانت الوردة اشبه بثغر فرغ للتو من قبلة أولى وهو يستعد ملهوفا لقبلة ثانية اطول وأمتع.
السماء سقف خيمته، زرقتها خفيفة سرعان ما تسرق اللون من اجنحة العصافير التي تعبرها عابثة ثم تعود لتمرق بسرعة كأنها تخاف ان تعلق في فراغها الباهت.
كان يأتيه صدى خرير الماء غليظا كصوت فلاح يغني تعبه لينسى الوقت.
انتبه الى فراشة ترف قلقها وكأنها اضاعت سربها، ثم تندفع لتخفي نفسها في غابة من بنفسج اللافاند، قبل ان يجيء اليها عاشقها وقد سبقته لهفته ولحقت به سائر الفراشات ترف بأجنحتها فإذا الفرح الطائر مهرجان بألوان مرمية على ارض لها صوت كالموسيقى.
تمطى آدم وهو يتأمل المشهد من حوله مسحورا.
قام فتمشى… ثم خطر له ان يركض، ان يتسلق الشجر، ان يطارد الفراشات. هو الآن، في وحدته حر تماما. يستطيع ان يفعل ما شاء بغير ان يمنعه احد. ولكن ماذا تراه يفعل؟
أحس بالجوع، فدار يبحث عن الناضج من انواع الفاكهة. مضت ساعة وهو غارق في التأمل، قبل ان ينتبه الى انه انما يشغل نفسه بأمر طريف وإن كان في غاية الجدية: ترى ماذا كان يفعل جدنا آدم في الجنة، قبل كان يستولد صاحب القدرة جدتنا حواء من ضلعه؟ كيف كان يمضي وقته؟ كيف كان يتدبر امر مأكله ومشربه؟ ماذا كان يفعل بامتداد ساعات النهار الطويلة وساعات الليل وهي اطول؟
قال لنفسه: كان يشكو من الضجر بكل تأكيد. اذا أتيح لك او أبيح لك ان تفعل ما تشاء في جنة فيها كل ما تطلب وتشتهي، فكيف تتعامل مع الوقت، الوقت الذي ان لم تقتله قتلك؟!
ليس في الامر ما يضحك! لفراغ الوقت دوي يصم الآذان ويعطل العقل ويشل الارادة. ليس أيأس من ان تملأ وقتك الفارغ بمزيد من الفراغ، بالعبث او بمحاولة التفكير بما لا مجال للتفكير فيه، او لا جدوى من الاستغراق في التفكير في امور لا يمكن ان تشغل عقلا او تحرك عاطفة او تفرض حركة.
قام فجال بين شتول الورد. مد يده ليقطف وردة فلسعه شوكها، فتخلى عن الفكرة. لكل جمال اسباب حمايته.
حاول تسلق شجرة، فشل مرة، فكرر المحاولة، وحين نجح وجد نفسه بين غصونها المتشابكة تظلله اوراقها الكثيفة وتسد عليه مجال الرواية.. نزل محبطا، وقرر ان يستلقي تحتها مكتفيا بالتأمل.
ماذا كان يفعل آدم في جنته الفارغة الآمنة؟
كيف كان يمضي وقته، بل كيف كان يصرف وقته فيتخلص من ثقله؟
اذا احتسبنا ربع اليوم للنوم، وربعا ثانيا للتنزه واستكشاف مكامن الجمال في الجنة، وربعا ثالثا للقيلولة، فماذا عن الربع الرابع؟
لو افترضنا انه كان يتمتع بصوت جميل فمن كان يهتف به، اذا ما غنى:
الله، الله! أعد، أعد!
لو افترضنا انه عبقري في الحساب وجلس يحصي النجوم، او الازهار، او الاشجار، او الطيور، او الانهار والينابيع، او الحيوانات (التي لا بد انها كانت أليفة بدليل انها لم تلتهمه مما سمح للجنس البشري أن يبقى بالتوالد ويتزايد حتى صارت أعداد أبناء آدم بالمليارات)..
لو افترضنا انه صاحب أذن موسيقية وقرر ان يؤلف ألحانا فمن يسمعه ومن يعطيه شهادة النجاح؟
يتوالد الافتراض من الافتراض، ثم تتهاوى الافتراضات امام الاستحالة وتعود الأسئلة لتنتصب متحدية. بينما صاحبنا الذي بدأ الآن يشعر بالتعب يقرر أن ينهي هذه اللعبة العبثية بالخروج صاغرا من الجنة وهو يردد: تستحق حواء أن نترك من اجلها كل هذا الجمال الذي لا يخفي الانبهار به نقصانه الانساني الفادح.
من أقوال نسمة
قال لي نسمة الذي لم تعرف له مهنة الا الحب:
يحزنني رحيل من يغادرنا قبل ان يغرف إنسانيته من صدور عاشقيه.
ينقص الحب في الدنيا مع رحيل كل قلب يغادرنا بكراً.
أحيانا يكون المعشوق اصغر من ان يحمل في صدره قلباً ينبض.

Exit mobile version