طلال سلمان

هوامش

مروان فارس يقرأ لنا صلاح ستيتية.. هندسياً!
سيمضي زمن طويل قبل ان يتاح لي التعرف على الاصل في صورة صلاح ستيتية:
ففي شبابنا الاول كنا نتهيب دخوله قاعة صف البكالوريا في الكلية العاملية، في رأس النبع.. فجميعنا تقريبا آتون من الأرياف، حيث المدارس الرسمية، ومهما اجتهد معلمو اللغة الفرنسية فيها تظل عاجزة عن حل عقدة الغربة والمصالحة مع اللغة الوافدة والتي يغمرنا الشعور بأنها مفروضة ، مع تسليمنا بأنها ضرورة.
كان صلاح ستيتية يدخل علينا بعينيه الغائمتين، وابتسامته التي لا نعرف هل هي مجاملة ام ساخرة ام هي نتيجة انصراف فكره الى موضوع آخر لا علاقة له بنا أو بالتدريس نقف احتراما، بينما هو يتقدم ليطرح حقيبته السوداء التي كدنا نعتبرها بعض ذراعه لالتصاقها بيده، حيثما التقيناه، على الطاولة، ثم يفرك كفيه ويقول بصوته الخافت: حسنا، لنرَ ماذا علينا ان نفعل اليوم..
كانت ادارة العاملية والهيئة التعليمية عموما يتعاملون مع صلاح ستيتية بتقدير ملحوظ وكنا نسمع من بعض المدرسين ما يوحي بأن هذا الاستاذ الكبير الذي يحاضر في أكثر من جامعة في بيروت له قيمة أدبية محترمة في الاوساط الثقافية الفرنسية.
رفيقي البيروتي في الصف لم يتمالك نفسه ذات يوم فالتفت الي، بينما صلاح ستيتية يدخل علينا، ليقول بنبرة فخر: انظر الى ما تقدم بيروت للحضارة! أتعرف انه يقول شعراً بالفرنسية؟! وبديهي ان أياً منا لم يكن ليفهم ذلك الشعر لو ان أستاذنا قرأه علينا!
[[[
سيتأخر اللقاء المفتوح التالي مع صلاح ستيتية ليتم في قلب الحرب الاهلية الثالثة (؟) او الرابعة (؟).. وكان الشاعر بالفرنسية قد عاد من سفارات عديدة ليكون، مع بعض زملائه الدبلوماسيين أبرزهم فوزي صلوخ، من أركان وزارة الخارجية المشروخة والمنقسمة على ذاتها كسائر إدارات السلطة آنذاك.. (واليوم؟!)
ذات عشية كنت على موعد مع الرئيس سليم الحص، وقبل ان أقرع الباب وجدته ينفتح وقد وقف عند عتبته المضيف ليودع صلاح ستيتية وسعدت باللقاء، وأسعدني اكثر ان أسمع السفير الدكتور الشاعر يقول للرئيس الحص:
أتعرف انني قد درّست صديقك هذا؟!
التفت الي الرئيس الحص فأكدت بانحناءة من رأسي، قبل ان أسمعه يسأل: وماذا درّسته؟!
قال صلاح ستيتية بعفوية: اللغة الفرنسية، طبعاً،
وانفجر الرئيس الحص ضاحكا وهو يقول: ربما لهذا أتقن اللغة العربية بحيث باتت كتاباته تطربنا!
[[[
لن أدّعي أنني قرأت دواوين صلاح ستيتية بالفرنسية، وان كنت قد قرأت معظم ما كتب عنها وحولها، وقرأت بعض شعره مترجماً اقله بدافع الحرج من الاستاذ الصديق.
وكان علي حتى أعرف المزيد عن الشاعر وشعره أن أنتظر ترجمة مروان فارس بعض دواوينه، والأهم الشروح بل القراءات الخاصة التي فتحت مكمن السر في شاعرية صلاح ستيتية وفي الهندسة الاستثنائية لقصائده والتي كانت تحتاج الى فلاح من القاع ذهب الى السوربون في باريس ثم عاد منها ليدرّس الألسنية في كلية الآداب.. وقد استقر في وجدانه عشق خاص لشعر صلاح ستيتية.
تقرأ الشعر بقلبك لا بعينيك..
لذا فقد قدم مروان لديوان صلاح ستيتية الجهة الاخرى المحترقة للبالغ النقاء بما يشبه القصيدة: غريب كم هو متماسك هذا الكتاب، مع انه يبدو مبعثرا كالغيم، الغيم، الطفولة، شتلات الورد، الثلج. ذلك كله محترق وبالغ النقاء () هذا النص يسبح على منديل أغنية، يتتالى هادئا على صفحة الماء في البحر، يمضي أبدا ويبقى في المحيط، إلا انه يرتطم هنا وهناك بصخرة أو بفجوة أو حتى بامتداد.. لذلك فهو يخرج بالضجيج عن رتابة، والضجيج ليس بالضرورة صوتا، انه قد يكون صمتا أو قد يكون فسحة انتظار .
فإذا كانت جملة الكلام مبخرة في كنيسة الكتابة فعند حدود الكلام قد يبدأ الشعر كما قد ينتهي.. أما الديوان ذاته فغريب كم هو متماسك، مع انه يبدو مبعثرا كالغيم .
ويرد صلاح ستيتية التحية فيقول عن مروان فارس انه مفكر ذو وهج. أبعاده متعددة تماما كما أحب. مثقف كبير، شديد الالتزام باتجاهات الفكر الكوني :..
وفي تقدير ستيتية إن البنى هي لغات ووراء كل لغة منها خطاب.. لذلك فهو يمضي الى الخطاب الذي هو من صنع الصوت، ومن صنع الصور الصوتية والايقاعات .
ولان مروان يعرف بالسليقة ومن ثم بالعلم ان ما نسميه النفس، وما نطلق عليه اسم الجسد الجسد اللغوي، الجسد الايقاعي، انما هما مترابطان ، فهو يقرأ ديوانه قراءة مختلفة ربما لهذا هو يخلص الى استنتاج طريف: المذبحة الستيتية ملطخة بدماء الذين يحبون الكلام .
[[[
مروان فارس صديق للشعراء بامتياز لأنه هو، اولا وقبل كل شي ء، شاعر . ومن زاره في بيته اكتشف دواوينه النابضة بالشوق الى الحياة وبالقدرة على حمايتها، بالإرادة وكثير من الحب.
ولأنه صديق للشعراء فقد كتب عن أربعة منهم اختارهم بذائقته الخاصة، ولعله درس شعرهم ايضا: جبران خليل جبران، ناديا تويني، خليل حاوي، وصلاح ستيتية ومن شعرهم أعطى للكتاب عنوانه علم الابداع .
ولان مروان فارس فلاح من القاع فهو يفهم تماما العلاقة بين النور واللون وبين الهواء والموسيقى وبين الماء والخلق، فقد انتبه الى التداخل بين الشعر والمنطق والفلسفة والموسيقى الذي يظل قائما في اللغات جميعا، والذي أكد وحدته عبر الترجمة.
الآن أستطيع الادعاء أنني عرفت عن أستاذي صلاح ستيتية ما لم يكن بقدرتي أن أعرفه كتلميذ له في العاملية، ولا كقارئ عابر في كتاباته الصعبة عن أخيلته المستحيلة التي تجعل عينيه غائمتين باستمرار، والتي يمكن لأمثال مروان فارس فقط أن يقرأوا فيها تلك المعادلات العلمية التي منها يجي ء الشعر صعبا كالفلسفة، رقراقا كالموسيقى وشاهدا على الابداع كالخلق.
حكاية/ المدينة ذات الفتنتين!
قال الضيف العابر من الخليج الى المحيط:
أمعقول ان بيروت قد انطفأت فلم يعد في ليلها متسع لطالب نشوة، وأخرسها الخوف فلم يعد يسمع فيها صوت يذوب رقة ويذيب السميعة ؟
ودعاه المضيف محرجاً الى علبة ليل أبلغه بعض الخبراء أنها أقوى من الحرب..
شقا طريقهما بصعوبة وسط حشد من الساهرين أكثريته من الحريم ، مما أدهش الضيف وجعله يشهق: يمكن تطبيق الشريعة هنا، فيكون لكل ذكر أربع نساء!
في صدر الصالة التي تتشكل من جناحين وقلب، مطرب وضابط إيقاع وعازف عود، وقد حشروا جميعا مع الجدار لتوسيع حلقة الرقص.. المطرب شاب، وعازف العود كهل، أما ضابط الايقاع ففتى ينقر بأصابعه على طبلته بينما عيناه تتجولان بين الساهرات، فيغمز لهذه، ويبتسم لتلك، ويتأمل بشي ء من الانبهار جميلة لم يكن قد رآها من قبل..
غنى المطرب بعض الطقاطيق التي تشبه تعليقات الناطق الرسمي : كلمات مرصوفة لتتيح للطبلة أن تقول المعنى بأجساد الآتيات بقرار أن يمضين سهرة مرح.
كان الضيف زائغ البصر بين الحسناوات، ما إن يرفعه عن بطن مكشوف حتى يغرقه في صدور ناهدة تريد الفرار من محابسها الضيقة.
غب الضيف الكأس الاولى دفعة واحدة. وقبل أن ينهي كأسه الثانية، هز رأسه وقال متضجرا: أتسمي هذه الضجة غناء؟
قال المضيف وهو يمسك أعصابه: الزمن للحرب، وأنت تطلب طربا، وفي ماخور؟! هنا السيادة لضابط الايقاع. ملك الليل هو الطبال .
استهوته فكرة ما، فاستدرك قائلا: وملك النهار، ايضا، في السياسة، هو الطبال ايضا.
ضحك وحده، بينما صديقه الذي كان يغب كأسه الرابعة ينظره متعجبا. أضاف المضيف كأنما يحدث نفسه: يريد أن يسمع أم كلثوم في علبة ليل يغلفها الخوف الذي يجتاح شوارع بيروت المهجورة! اشكرني، لقد وجدت لك على الأقل هذا المكان الذي يمكن أن نتفرج فيه على الباحثات عن اللهو، الآتيات لاستعراض الكفاءة في التعري الراقص.
حاول الضيف الآتي من البعيد أن يقول شيئا، وجد مضيفه قد غرق في عناق سيدة كانت تعبر الى طاولتها. ثم بوغت بمضيفه يسحب عابرة اخرى من يدها ويحوّل مسارها في اتجاه حلبة الرقص الضيقة التي سرعان ما غصت بالشابات اللواتي باشرن التنافس في التخفف من بعض قطع ثيابهن الخفيفة أصلا.
دار الضيف ببصره من حوله ففوجئ بطاولة عليها ثلاثة شبان وأربع فتيات، بينهن محجبتان: ماذا تفعل المحجبة في مثل هذا المكان، وفي مثل هذا الوقت؟
رد عليه مضيفه متهكماً: لعلهن شقيقات محافظات.
ولكن كيف، لسن جميعا محجبات!
هذا طبيعي، في الاسرة اللبنانية الواحدة المحجبة والمتحررة والبين بين. غمز المضيف صديقة ثالثة فجاءت تحاول سحب الضيف الى الحلبة فتمنع، فشدت عليه فتمنع ثانية، فشتمته محنقة، ومضت وهي تبرطم.
عاد الضيف المبهور تماما الآن يتابع حفلة التعري الراقص في الحلبة، حتى صعقته المفاجأة: اندفعت إحدى المحجبات تخترق صفوف الراقصين والراقصات حتى صارت في مواجهة الطبال. وبغمزة منها أوقف المطرب عن الغناء، ليخلو الجو لطبلته، و هز يا وز .
حاولت بعض المتعريات أن ينافسنها لكنها كانت شرسة في مبارزتهن، وأكثر إثارة، وأقدر على الغواية منهن فأبعدتهن جميعا الى الاطراف قبل أن ينهض المطرب ليجي ء اليها فيسعى بين يديها وهو يغني لها ما يزيد من إثارتها حتى الذوبان رقة وصار الحجاب مصدرا إضافيا للشبق!
التفت الى طاولتها فوجد سيدها يصفق ببلادة، ترمقه تلك التي قدر أنها زوجته بينما تحرك رفيقاه ومعهما المحجبة الثانية الى الحلبة ليطالبوا بأغنية هادئة وبعد دقائق قليلة عادوا بالشاردة الى الطاولة المحافظة التي لم يظهر على أهلها أنهم ارتكبوا ما يثير الانتباه، بينما رفع المغني صوته بموال لبناني مطعّم بالخليجي.
قال الضيف وهو على حافة السكر: كلما توهمت أنني فهمت لبنان فاجأني اللبنانيون بأنهم فوق ما أقدر بكثير.
ورد صديقه المضيف: جميل أن تكون تحت وتتحدث عن فوق . في أي حال، أفترض أن ما تسمعه وما تراه ليلا ومهما تواضع في مستواه يظل أرقى مما يمكن أن تسمعه نهارا. إنهم هنا يستمتعون بمزاجهم، ولا يتسببون بالاذى أو بالضرر لأحد.. أما في النهار فيطلقون اللحن الجنائزي للحرب الاهلية التي تبقيهم في القمة لا تطالهم النار!
وقاطعه ضيفه: لن تخيفني. طائرتي سوف تغادر صباحا وقبل أن يفيق سياسيوكم من نومهم الهانئ ليوقظوا الفتنة!
من أقوال نسمة
قال لي نسمة الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
أصعب الحب أن تجد نفسك عاجزاً عن أن تأخذ ما يريد حبيبك أن يعطيه، ومتعذراً عليك أن تعطي حبيبك ما يحتاجه.
اللهم اجعلني دائماً في حالة احتياج.. حتى آخر نفس، حباً!

Exit mobile version