طلال سلمان

هوامش

النصر في الكتب وفي الشوارع الحرب!
صارت حرب تموز في الكتب، أما الشوارع والمنتديات والمكاتب والبيوت فقد انفتحت لحروب أخرى حول تلك الحرب بأسبابها ونتائجها والدلالات.
التهم الخلاف السياسي الذي كان في طور الاحتدام مع انفجار الحرب الرموز جميعا، وبدل في معاني الكلمات.
أسقط الجدل العبثي حول موقع النصر على الخريطة السياسية معناه الأصلي. صار النصر استثمارا هائلا لمن حققه، لا بد من تحجيمه حتى لا يخلخل التوازن الهش القائم ممثلا بالصيغة. صار النصر انكسارا لمن لم يشارك في صنعه، ولمن لا يستطيع ان يتحمله كامتياز للمنتصرين… فكان لا بد من تصعيد نبرة الخلاف حول السلطة وتقاسمها حتى يظل النصر خارج السلطة … ان ذلك يشكل ذروة الخطر: فإذا صار النصر خالصاً للمعارضة فلسوف تطغى على شركائها الذين لم يحسبوا حسابا لحرب اسرائيلية، ولو أنهم حسبوا حسابها لما توقعوا، ولا في أخيلتهم، ان يكون أخوتهم الأعداء في صف المنتصرين، وأن يجدوا أنفسهم لخطأ في التقدير أقرب الى المعسكر الآخر، يستظلون الراية الأميركية، ويكادون يتورطون في إضعاف نصرهم الوطني بقرارات الشرعية الدولية التي صارت تكتب بإنكليزية مطعّمة بالعبرية.
وقبل ان يصمت دوي المدافع وصواريخ الغارات الجوية الاسرائيلية، كانت حرب اخرى قد انفجرت في الداخل .
كيف، ونتيجة أية خطة جهنمية امكن اقفال ملف الصراع مع العدو الوطني والقومي، وبينما لم يفرغ الأهل من تشييع شهدائهم، اطفالا ونساء وشيوخا وفتية بعمر الورد، لتنفتح أبواب جهنم الفتنة منذرة بتدمير وحدة الشعب وما تبقى من كيانه السياسي؟
كيف صار المنتصر بوطنه ولوطنه، بإيمانه بربه وبأرضه، شبحا مخيفا لاخيه شريكه في مصيره، دنيا وآخرة؟!
كيف صار النصر مصدرا للرعب، بينما العدو الاسرائيلي لا يعرف كيف يداري هزيمته، وكيف يتستر على فضائح قياداته المدنية والعسكرية التي كشفت عمق الجهل العربي بواقع الكيان الاسرائيلي؟!
الآن، وبعد عام، تبدو الاسئلة والتساؤلات كثيفة تسد الطريق على المحاكمة الموضوعية، وعلى المراجعة النقدية الصارمة لهذا الحدث التاريخي الذي سيترك ظلاله على المستقبل بجوانبه جميعا: الصراع العربي الاسرائيلي، هوية لبنان (النهائية) وصيغة نظامه الملتبس بين الديموقراطية التوافقية والمحاصصة الطائفية، بين الغربية المستعربة والمشرقية المهجّنة، بين الضمانات المطلوبة للأقلية المدوّلة والأكثرية المستفردة.
الاسئلة تتزاحم حتى لتزيد عن عدد الغارات الاسرائيلية التي استهدفت البشر، نساء ورجالا وأطفالا على وجه الخصوص، وأسباب العمران مدنا وقرى، دساكر ومزارع، مدارس وجسورا وقوافل تموين وسيارات تحمل الهاربين بأسرهم الى اي ملجأ آمن لا تطاله ال “M.K”..
صارت حرب تموز في الكتب..
أما الشوارع والمنتديات والمكاتب والبيوت فمشغولة الآن بالحروب على السلطة في وطن صغير جدا، يفتقد مع الأمن الخبز، ويفتقد في بؤس يومه أمان مستقبله.
صارت حرب تموز في الكتب: اما على صفحات الصحف وعبر شاشات الفضائيات فثمة حروب كثيرة تضيع فيها الحقائق وتزوّر الوقائع بحسب هوى المموّل وغرض صاحب الرأي او من خلفه وخلف من خلفه، ممن يرفض ان يرى اسرائيل في موقع المهزوم، لكنه لا يقدر ان يتحمل عبء النصر وقسوة الحساب عليه، عربياً وأميركياً… اضافة الى الحساب الاسرائيلي العسير. والحساب: في السلطة لا خارجها.. ومتى كان الوطن أهم من السلطة؟!
خولة مطر تشهد ببيروت المحاصرة.. للغد!
صارت حرب تموز في الكتب..
وخولة مطر كانت هجرت الصحافة الى العمل في المنظمات الدولية، وهجرت البحرين الى بيروت التي أحبت روحها المشاغبة وحيويتها الفائقة، والصراع الفكري المفتوح فيها على مصراعيه بحيث يتواجه الغرب والشرق، العرب والعرب، اللبنانيون مع اللبنانيين، والكل مع الكل… حتى آخر قطرة من الثمالة!
.. وإلى بيروت جاءها من يثير كوامن الشجن في نفسها بدعوتها الى العودة الى الصحافة مجددا. ارتبكت، ترددت، قاومت شوقها، تنبه حذرها من تجربة لا تملك ما يضمن لها المستوى والثبات.
تواجهت بيروت مع الصحافة فهزمتها. عادت الصحافة تتسلح ببيروت فهزمت تردد خولة: يمكن ان تكون بيروت هي قلم الكتابة وموضوعها. ففي ظل البؤس العربي الشامل لم يتبق من دواة وأقلام خارج بيروت، الا نادرا، اذا كنا نقصد بالصحافة حرية الكلمة في السياسة كما في الثقافة. لكن ما لنا ولاحاديث الشجن مرة اخرى. هيا الى البحرين، وإلى تجديد العلاقة مع القلم الذي كاد ينحطم قهراً.
قبل ان تتكامل شخصية الجريدة الجديدة في البحرين، تفجر لبنان بالحرب الاسرائيلية، وجاءت خولة مطر على آخر طائرة هبطت في بيروت قبل ان تدمر مدارجه غارات الطيران الحربي الاسرائيلي.
تغامز بعض الزملاء وهم يرون خولة تتخذ مقعدا بينهم الى طاولة مجلس التحرير، وتتحدث بنبرة المراسل الحربي : رأوا في التصرف ترفاً… فهذه المنقطعة عن الصحافة (بعد ضريبة باهظة دفعتها راضية مرضية) تريد ان تعود اليها عبر الحرب؟! هذا يتجاوز احتمال التصديق!
لكن الزملاء اضطروا الى إعادة تقييم الموقف وهم يتابعون رسائل خولة مطر من ارض الميدان ، بغزارة: دقيقة، تفصيلية وعابقة بالايمان… ثم انها استطاعت ان تحفظ فيها موسيقى الشعر.
كانت البداية من البداية، صباح اربعاء مختلف : استيقظ العرب والعالم على صباح اربعاء مختلف. لم ينفضوا بقايا نوم ليلة صيفية على وقع الهزائم وجرائم القتل الاسرائيلية بل على أنباء قيام مقاتلي حزب الله بأسر جنديين اسرائيليين وقتل سبعة آخرين.. ما هي إلا لحظات، وسرت نشوة فرح لم يعرفها العرب منذ سنين، عبر الحدود لتنثر رذاذاً من ماء الورد على أولئك الصامدين في سجون إسرائيل ومعتقلاتها.. أولئك الواقفين بصدور عارية امام دبابات الجيش الاسرائيلي.. اولئك المؤمنين في زمن ندر فيه الإيمان.
هي الوعد الصادق. هكذا قال ذاك الواعد القادم من زمن آخر. هكذا وقف السيد حسن نصر الله في مؤتمره الصحافي لينقل لنا، نحن العرب الحالمين ببعض من كرامة وحفنة من امل أنباء العملية التي كان قد وعد بها قبل مدة. وعد فوفى .
توالت الرسائل بعناوين صارت الجغرافيا فيها شعرا وصارت اسماء القرى ومواقع المواجهات مناديل مطرزة: انها الحرب إذاً، نثروا فرحهم على الكون، قصف على مساحة وطن، الموت يسابق الخوف؟. نحن بخير طمنونا عنكم!. عبد الوهاب الانكليزي وقنابلهم الذكية! قصف ونبيذ وبيانو!. لا نريد سيوفكم! ثرثرة فوق قبور مفتوحة!. الجميزة في حضن القذيفة! الحرب تذكر بالحرب!. ولادة من رحم الموت! صمود يحرس الجنوب.. لا وقت للتعب.. حكايات بملح الدموع. قانا 1996 قانا 2006 لا فسحة للبكاء بيروت بلا ليل ورد وحرب جسر اللوزية الناجي من الموت صلوات وقداديس. للهواء ثقل الحجر تشافيز الطرابلسي حتى جنوب الجنوب. هدأ القصف فاستحم البحر بملحه.
اقتحمت خوله مطر الحظر. وصلت الى حيث كانت القذائف تتقاطع مع القذائف فتحرق الهواء، ولكنها لا تحجب صدى حداء المجاهدين الذين صمدوا حتى اللحظة الأخيرة مرابطين في مواقعهم على التخم.
كتبت بقلمها الذي سجنت فيه أحلامها وعواطفها وتمنياتها منذ دهر سيطرت عليه الهزيمة بمناخها القاتل. لقد ولدت من جديد واستولد دوي النصر الآتي ايمانها بالانسان العربي مطهرا، قويا، قادراً..
من حظ خولة مطر انها كتبت خلال الحرب، لا بعدها..
من حظها انها كتبت عن النصر، قبل اغتياله.
لذا فلسوف يكون كتابها شهادة على الامكان، على القدرة التي ان لم تهدرها فعلت ما نفترض انه في حكم المعجزة، بينما هو في مدى الذراع.
كتاب خولة مطر ليس شهادة عن الأمس. انه شهادة للغد.
سمكة الهواء تطير في قلب الليل
الفندق الفخم الهائل المساحة، يسيطر عليه الصمت. لا تحتاج الى رفع صوتك أصلا، فكيفما حركت عينيك جذبت اليك نادلاً او اكثر، وكلما رفعت يدك، ولو متثاءبا، جاءك نادل او اكثر مهرولين، لعلك بحاجة الى من يساعدك في إنزالها..
الليل بحور من النور والسكون… وعبر الردهات المرتفعة السقوف، الفسيحة الجنبات، تتباطأ خطوات القادمين لحضور حفل موسيقى لتتأمل عيونهم الأعمدة العالية والقناطر التي تحاول استعادة الروايات المتوارثة عن قصور أباطرة الرومان وملوك الفرنجة والخلفاء الذين كانوا يتركون للغيم ان يمطر حيث شاء واثقين من ان خراجه سيعود اليهم!
في الجناح المتواضع، قياسا الى الأجنحة الملكية، وجدت نفسها ضئيلة جدا، ودهمها احساس ممض بأنها فقيرة حتى الإملاق.. فكل ثروتها التي يتندر بها الزملاء لا تشتري لها بيتا بفخامة هذا الجناح.
جلست تتسلى بما احتواه الجناح من تجهيزات تقنية، ومن وسائل للراحة، تتجاوز المألوف… واكتشفت انها لا تستخدم الا اقل القليل مما يتضمنه الكتاب المصقول الصفحات، الملونة صوره بطباعتها الأنيقة الى حد الترف.
اندفعت، فجأة، تشغل جميع الاجهزة، البصرية والسمعية، الرياضية والطاردة للنعاس. فتحت جميع قناني المشروب المتراصة على تلك الطاولة الأنيقة. أخرجت من البراد كل ما فيه من مرطبات في الزجاجات او في العلب، وما احتواه من صنوف الحلويات والبسكويت.
هدأت لبعض الوقت. تمددت على كنبة تنفتح بقدر الرغبة. يمكنها ان ترفع رأسها الى أعلى وأعلى وأعلى. يمكنها ان تخفض قدمها حتى ملامسة الأرض. يمكنها ان تمد جسدها من النافذة حتى تغسل قدميها في البحر.. من يسكن هذه الجنة خارج الحساب: من يجرؤ، اصلا، على النظر!
لا احد يجرؤ؟! لنرَ!
قامت فتخلصت من قميص نومها الشفاف. لا تحتاج أجنحة الفراشة لتطير..
فتحت الباب واندفعت والموسيقى المنبعثة من المسجلة ترافقها، فتهتز معها، وتتقافز فرحة باكتشافها الى اي حد هي حرة، وجسدها بلا قيود..
انطلقت مثل سمكة الهواء. مدت اطرافها في ارجاء الفراغ. أحست انه قد نبتت لها أجنحة فطارت وطارت وطارت حتى آخر الرواق بسوره من النحاس المذهب.
وحين لمحها ذلك الذي خرج من قلب الليل خاف فقفل راجعا ليبلغ موظفي الاستقبال ان أشباحا من الجنيات تحتل الطريق الى غرفته… فهبوا لنجدته بكل أنواع الاسلحة!
من أقوال نسمة
قال لي نسمة الذي لم تعرف له مهنة الا الحب:
الصمت لغة المحبين. معظم قصص الحب كتبها اولئك الذين لم يقولوا ما كانوا يرغبون بإعلانه. تركوا الحب يجهر بما لم تنطق به ألسنتهم. الحبر أفصح ألسنة الحب.

Exit mobile version