طلال سلمان

هوامش

ليلى عسيران تبيت في حلمها..
صعبة هي الكتابة بصيغة الغائب عن ليلى عسيران.
لقد تعودنا منها الاحتجاب طويلاً داخل وجع جسدها، والوجع الأدهى والأمرّ الذي اصاب روحها فما اوهنها ولا اخذها الى اليأس، بل كانت تباغتنا بإطلالات متباعدة لتهتف بنا:
مالكم استكنتم وباشرتم الحديث عن فلسطين بصيغة الماضي. إياكم وهذه الخطيئة، ان انتم اعتبرتم فلسطين ماضياً فلن يكون لنا مستقبل.
او لتصرخ بنا محذرة:
أين مصر في اهتماماتكم؟ هي مريضة. هي تمر بمرحلة صعبة. لكنها أمنا، فإن اسقطتموها من حساب غدنا كنتم كمن ينتحر. لا تدعوا المظاهر والبهارج النفطية تأخذكم الى الاستسلام. لعودة مصر الى ذاتها ممر اجباري هو فلسطين، ولا مستقبل للعرب بلا مصر.
ولقد حجب الوجع ليلى عسيران مراراً.. لكنها لم تنتصر على الوجع بمقاومته فحسب بل انها حولته الى قصيدة عشق للحياة.
…وكان أمين الحافظ، الزوج والحبيب والصديق والقارئ الاول، يكتشف كفاءة جديدة او قدرات جديدة في ليلى عسيران التي أقامت معه البيت العربي المفتوح للابداع، فكراً وفناً، أدباً وثقافة مع القليل القليل من السياسة بمعناها اليومي المبتذل.
كل زائر عربي للبنان ممن اضاف كلمة او فكرة، رواية او قصة، مقالة صحافية او دراسة، رسماً كاريكاتورياً او لوحة جميلة، قصيدة او مسرحية، كان يجد نفسه في بيته عند أمين وليلى، وقد التفت من حوله نخبة من أهل الرأي والثقافة، يحولون التعارف الى صداقة والصداقة الى شراكة رأي وأحيانا يصيرون رفاق سلاح.
ولقد فتح لي بيت أمين وليلى أبواب مصر وأبواب فلسطين معاً…
فيه التقيت، اول مرة، احمد بهاء الدين، وبهجت عثمان، وكثيراً من الكتّاب والنقاد والفنانين من مصر.
وفيه التقيت غسان كنفاني وبضعة ممن صاروا في ما بعد من قادة الثورة الفلسطينية او من شهدائها الأبرار.
كانت فلسطين حاضرة بقوة في هذا البيت الذي اعطته نكهته المميزة المصاهرة بين ابن طرابلس المتحدر من صلب قاضي القضاة في فلسطين وبين ابنة جبل عامل المتحدرة من صلب المواجهة مع الاحتلال الاسرائيلي لفلسطين.
ولأنه بيت فلسطين فقد كانت بلاد الشام تتخذ منه دار لقاء مع مصر الكنانة..
وكان الثنائي أمين وليلى يقدمان في سلوكهما الاجتماعي، وفي علاقاتهما، كما في الكتابات، سياسية كانت او أدبية، صورة لهذا التلاقي الموعود بين الناس في بلاد العرب اوطاني ..
لم ينكسر قلم ليلى عسيران. هي اتخذته من شغاف قلبها وقد ظلت تكتب فيه حتى ذاب. هي لم تكتب تماماً. هي زغردت أحياناً، هي تحولت الى حاد للركب احيانا، هي جعلته جرس انذار احيانا، وكادت تحوله الى بندقية في بعض الحالات تعويضاً عن غياب الذين كان يفترض ان يحضروا فتخلفوا تقاعساً او جبناً او فراراً من الجبهة في زمن الحرب… وهؤلاء لم تكن ليلى عسيران لتغفر لهم أبداً.
رن جرس الحزن، وجاءني صوت وحيدها الدكتور رمزي: كانت ليلى عسيران قد ذابت تماماً في حسرتها. عاشت للثورة، وها هي الحروب الاهلية تلتهم الاحلام والآمال الخضراء. عاشت تربي اجيالا للتحرير، وها هي تشهدهم في عماهم يقتتلون ويدوسون الرايات التي كان عليهم ان يعلوها فوق أسوار القدس.
لم يقل رمزي ما لم يكن بحاجة الى قول: طالما غابت مصر، فلسوف تبقى فلسطين في الأسر، ولسوف تبقى بلاد الشام مفتوحة لغير أهلها ولسوف يبقى لبنان دار حرب… بين أهله.
لقد نقص الحبر في دواة الرواية العربية. فاضت الدواة بالدم.
ولقد كتبت ليلى عسيران حتى آخر نقطة في دمها.. تقاوم اليأس، مستفيدة من تجربتها العظيمة: إنها بالارادة انتصرت على الموت!
اليأس ابشع من الموت.
ليلى عسيران تسكن الآن حلمها الذي ولدت فيه ورعاها حتى كتبته.
عبيدو باشا يقول يا سادة..
كلما أمسك عبيدو باشا القلم انتج كتاباً،
لكأنه يفترض دائماً، ان عليه ان يقول في هذه اللحظة كل ما عنده، اذ ربما لا تتاح له فرصة اخرى للقول.
وها هو في كتابه الجديد اقول يا سادة… يقول كل ما عاشه في تجربة غنية جداً في العمل المسرحي، ويستعيدها بأصولها وتفاصيلها، بشخصياتها وخلفياتهم الثقافية والسياسية التي تدرجت من الحماسة الى التحزب ثم الى محاولة شق طريق جديدة في العلاقة بين الأفكار والجمهور.
هي تجربة الحكواتي وما رافقها فاعترضها او شجعها وفتح لها آفاق النجاح. والتجربة تمتد من الفكرة، ومحاولة تجديد الموروث بعد تأصيله، الى المشاركين فيها من كتاب وممثلين ومخرجين فيهم المحترف وفيهم الهاوي، وفيهم الطارئ الى جانب الاصيل… فيهم الحالم بتغيير العالم الذي انتهى بأن غيّر نفسه، وفيهم من رأى في المسرح طريقاً الى الجماهير ، فاعتمده في ما يتجاوز العمل الفني الى الرسالة السياسية المباشرة.
وعبيدو باشا هو في التجربة الوالد والمولود، المؤسس والمشارك، المعترض والمبشر، المفتقد والمفقود… ذلك انه كان يرى فيها اعادة تأسيس للمسرح في لبنان وللعمل المسرحي ليس كحرفة او مهنة فحسب بل كمنصة هجوم ثقافية على الحياة العامة، في لحظة انتقالية، كانت البلاد تعيش خلالها صراعاً مفتوحاً بين تيارات عاصفة، فيها التجديدي وفيها التقليدي، فيها الدين المسيس والسياسة المندفعة الى مواجهة الدين باسم الحداثة.
المرحلة التي جعلها عبيدو باشا موضوع كتابه، مستعيداً فيها طموحات شبابه، بل جيله، واخفاقاته، كانت غنية جداً بالجدل وقلق الباحثين عن يقين وعن الأسلوب الأمثل للتعبير عن هذا اليقين،
كانت الخطوة الرائدة في هذا المجال اخذ المسرح الى الناس كلهم بدلاً من انتظار ان يأتي بعض الناس الى هذا المسرح… وأن يأخذ اهل المسرح جدل الافكار ليشركوا به الجمهور فيضيفوا إليه الحيوية والحرارة.
يستذكر عبيدو باشا كل رفاق التجربة، بمواقعهم المتعارضة، مستعيداً عبرهم اللحظة السياسية بصراعاتها المحتدمة وأطرافها المحليين والعرب في لحظة تحول على المستوى الدولي ايضا. وهكذا يحضر كل نجوم المسرح في السبعينيات، كتّابا وشعراء وممثلين ومخرجين بخلفياتهم السياسية وجدلهم الذي كان في نصف وجوهه طليعيا بينما يحمل بعضه الآخر ملامح جدل بيزنطي.
بهذا المعنى يكاد الكتاب يكون معجماً للحركة المسرحية اللبنانية في مرحلة النهوض ثم الضمور، اذ لا يغيب عنه اسم ممن تركوا بصماتهم عليها وفيها، من تجارب منير ابو دبس في حركة المسرح الحديث الى تجربة المنشق انطوان ملتقى فإلى محاولة انطوان كرباج وميشال نبعة تأسيس تجربتهما الخاصة، ومن تجربة ريمون جبارة في العبث الى روجيه عساف ممثلاً فمخرجا مدهشا… ومن يعقوب الشدراوي العائد من المدرسة السوفياتية الى جلال خوري سفير المدرسة الالمانية الشرقية، فالى شكيب خوري ونضال الأشقر خريجي الاكاديمية الملكية للفنون الدرامية في لندن..
اما من الكتّاب فيتوقف عبيدو باشا امام عصام محفوظ (الزنزلخت ثم الدكتاتور)، واسامة العارف (اضراب الحرامية) وأدوار امين البستاني (سمكة السلور). وآخرين ممن كتبوا مسرحهم..
كذلك يتوقف امام التجربة المميزة لشوشو، لا سيما في آخ يا بلدنا و خيمة كركوز .
لكن الحكواتي الذي يكاد يكون عبيدو باشا نفسه، فإن تجربته التي جاءت في شيخوخة معظم التجارب العربية، فإنها لم تستطع ان تؤسس لتاريخ جديد للمسرح، وان كانت قد تركت بصمتها على تاريخ المسرح في لبنان.
عبيدو باشا قدم في هذا الكتاب شهادته من مواقع عدة: فهو طرف مؤسس، وهو شاهد، وهو ناقد، وهو مراجع يحاول جاهداً ان يحافظ على نزاهة احكامه وان ظلت عواطفه تجاه الخشبة السحرية وجمهورها اقوى من علاقاته الشخصية.
عبيدو باشا يقول يا سادة… و الحكواتي إذا قال فعل..
حكاية/على جناح طائرة الأحزان..
بعد دقائق من افتتاح الندوة ، ومباشرة المنتدين تقديم اطروحاتهم الرصينة، ساد القاعة هدوء عميق كالنعاس، وأخذ الجمهور يتفقد بعضهم بعضاً، فأهل اليمين ينظرون ناحية أهل اليسار، وأهل الوسط محكومون بأن ينظروا الى المنصة التي ترتفع امامهم مباشرة وتحرمهم من الاستمتاع بهدأة تجعلهم يستكملون نومهم الذي اجبروا على مغادرته مبكرين، حتى لا يسجل عليهم مع الغياب نقص في اللياقة وفي احترام الاصول.
كان النقاش يدور بألسنة العصافير..
لكن العصافير نفسها كانت تتسلل مغادرة القاعة الى البهو الفسيح بما يتسع للهفة التلاقي بين المتباعدين، ولعناق الشوق بين من كانوا اصدقاء فصاروا أحبة، او كانوا احبة فصاروا… شركاء في ذكريات باردة وان ظلت اللهفة كامنة فيها، ما ان تطل حتى يقمعها الوقار فترتدي طابع الاطمئنان عن… العائلة!
انتحى ركنا قصياً مع بعض اصدقاء الأمس، يستذكرون حروب الماضي وهم يتخوفون من مقدمات الحرب الجديدة…
…وأطلت كأنما من قلب الجمر الذي سينطلق منه اللهب في رمشة عين. مشى إليها كالمسحور، وكانت تتقدم وكأنها تمشي في نومها.
هتف صديق أيام الشقاء: رجعت ليالي زمان..
كان ثالثهما قد غاب ساحباً أسباب المبارزة وأسلحتها.
غرقا في عناق طويل رطبه الدمع.
نظرته كأنما تراه اول مرة. وتطلع فيها بعيني من يدرك انه يتأمل المشهد الاخير في قصة حب مبتورة المقدمة ومحكومة بأن تظل بلا خاتمة.
لم يكن بوسعهما الكلام عن الأمس المثقل بصورة الغائب.
ولم تكن لدى اي منهما الرغبة للكلام عن الغد الكامن في بحور تيه الغربة.
لم تكن لديهما إلا اللحظة التي قد تمتد بمدى الاعتراف المرجأ والندم المتأخر على فرصة ضاعت في قلب التردد بين ان تندفع بجنون الرغبة الى قتل الحب، او ان تئد الحب حتى لا يأخذه الى التحدي العبثي في قصة لا تبشر بداياتها العشوائية الا بنهاية حزينة لثلاثي الفرح المهشم بجناح طائرة لن تعود، لان طيارها يهوى السباحة في سماء مفتوحة للاحزان.
من أقوال نسمة
قال لي نسمة الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
مع الحب لا تحتاج الى التعبير عن الرغبة.
الحب فسيح يحتوي الرغبة والغيرة، الشوق والنزق، اللهفة والبرودة مستدعية جمر الاحتراق، الصد لتثبيت التلاقي بمدى العمر الذي سيغدو رواية تعلم الاجيال الجديدة كيف يعشقون.

Exit mobile version