طلال سلمان

هوامش

عن دبي التي تكبر كل ليلة فتصير العالم
دبي مرة اخرى. لكنها ليست دبي التي عرفت في آخر زيارة. مع كل زيارة جديدة ولو بعد شهور قليلة تفاجئك دبي بأنها ليست التي عرفت. صارت دبي عالماً. لم تعد مدينة كبرى. ان حداثتها تعيد بناءها كل فترة. لا تضيف إليها فحسب. لا تزيد فقط من عدد ناطحات السحاب فيها، بأشكالها المبتكرة والتي تتبدى وكأنها مباراة مفتوحة بين عباقرة المهندسين الذين يستطيعون بيع جنونهم لمن ترخص لأموالهم العبقريات، وانما تزيد من استقدام كل جديد، بل من ابتداع الأحدث والابهج في عالم المعمار.
لم تعد دبي حقل تجارب، صارت مشروعاً دولياً مفتوحاً تزينه الكوفية والعقال باعتبارهما تذكاراً من الماضي وليسا حاجزاً أمام التقدم، ولا هما إشهار لهوية. فكل من لديه المال مالك، وكل من له قدرة على الاستدانة (بمئات الملايين) شريك في ملكية هذه المدينة الدولية التي لا تتعب من توظيف أفعل التفضيل في توصيفها: فيها من العمارات الأعلى والأضخم والأفخم، ومن الاسواق الاحدث بمعروضاتها الأغلى والأشهى. مطارها هو الاكبر، وهم لا يكفون عن توسيعه ليصير الأعظم… وإليه تجيء الطائرات من أربع رياح الأرض بأعداد فلكية، حتى لتحسب أنه مع كل رمشة عين تحط طائرة أو أكثر وتقلع طائرة أو يزيد.
لن تسمع في دبي كلمة لا يوجد . كل ما تطلب موجود. وكل أنواع العملة مقبول: الخضراء والحمراء والصفراء والسوداء والبيضاء، وتلك التي بلا لون ولا رائحة، والتي تدخل بغير حساب ولكنها تخرج بحساب أو حسابات دقيقة جداً. فلمن يستقبل خارق الحدود نصيب من هذا المال الوافد بلا صاحب. ادفع ما يتوجب دفعه يصبح المال لك. تقاسمك دبي، لان من فيها يعرف اللعبة تماماً… ويعرف ان هذا الدور قد أعطي له ومن حقه أن يأخذ نصيبه من ربح الربح، أما الخسارة فعلى المبتدئ أو المغفل أو المتشاطر. حتى في اللعبة خارج القانون ثمة قانون عرفي ينظم ويحدد أصول الربح والخسارة. والقاعدة هنا كما في أي مكان أو زمان: القانون لا يحمي المغفلين.
كل التروستات، كل الكارتيلات، كل الشركات المتعددة الجنسية، لها وجودها القوي في هذه المدينة المفتوحة على العالم والتي حوّلها القرار الدولي الى مركز أول للعمليات المالية وللصفقات الكبرى. ولان المال بحاجة الى حماية فإن دبي محصنة تماماً. قواعد اللعبة معروفة ومحترمة، حتى لو دخلت فيها المخابرات وتبييض الأموال والمخدرات وشبكات الاتجار بالأبيض والأسمر والأصفر. الإنسان سلعة رخيصة في عالم المال.
المال. الأعمال. الشركات المتعددة الانشطة والاهداف. كل ذلك بحاجة الى علاقات عامة وإعلام مختلف. لذلك ينشط الابتكار في مجال الدعاية العصرية والاعلان، مباشراً وغير مباشر. إنها دنيا السلع، كلما بعت أكثر ربحت أكثر. أنفق على الترويج يأتِك المردود مضاعفاً. إنها سوق مفتوحة لا تنام. ولكنها مضبوطة بقواعد صارمة. الربح مشروع، والذكاء استثمار، والخبرة استثمار، والمجال مفتوح، لكن الغش هو باب الخروج السريع من الجنة.
أمم متحدة: الأغنياء فوق، الفقراء تحت!
دبي ناطحة سحاب معلقة بين البحر والصحراء. مدت ظلالها فوق الصحراء فجعلتها تتراجع الى الخلف، ثم الى خلف الخلف… ومدت بعض ظلالها فوق البحر فطوعته: حولت الخور الى نهر، وجففت المستنقعات لتقيم أحياء أنيقة بحدائق غناء.
دبي أمم متحدة في جنسيات العاملين فيها أو الساعين إليها، لكن لهذه الامم تراتبية صارمة: الاغنى فوق، الغني تحته، الميسور تحته، أصحاب الثروة بعقولهم فوق الفوق، وأصحاب الثروة بزنودهم تحت، المساكين من بلاد الفقراء في آسيا. الموظفون الكبار أوروبيون. القادة أميركيون. أما الانكليز فظلهم يغطي هذه المدينة العالم. لا ضرورة للتباهي بالظهور. لكنك تحس بهم من حولك حيثما كنت.
العمل ثم العمل ثم العمل. في هذه المدينة يضطر العرب الذين تعودوا التعامل مع الشمس الى الاعتراف بالساعة. لا مكان لكسول. لا مجال لزيارة صديق في مكتبه للدردشة . في أحسن الحالات يمكن الافادة من وقت الغداء للمجاملة. لا مجال للسهر، فالمتعبون من دوام العمل ومن زحمة السير ومن الغلاء الذي يستنفد مرتباتهم التي كانوا يعتبرونها محترمة لا يملكون ترف هدر الوقت ولو للقاء صديق. الهاتف يغني. الرسالة الصوتية تغني. من أضاع وقته أضاع فرصته.
انهارت التراتبية العربية في العمالة: كانت محصورة بين فقراء مصر والسودان وسوريا، بينما كانت للبنانيين أفضلية الأناقة والرشاقة واللغات الحية. جاء المغاربة، ذكوراً وإناثاً، من أقطار المغرب كافة.
دخل اللبنانيون الاغنياء بعقولهم وأموالهم الميدان… أما المؤهلون بشهاداتهم الجامعية المحترمة فقد احتلوا مساحات واسعة في قطاع العلاقات العامة والاعلان، أما الصحافة فهم فيها من زمان. صاروا الآن نجوم محطات التلفزة، الارضية منها والفضائية. تبدت كفاءة الفتيات اللبنانيات اللواتي اقتحمن مجالات كثيرة، بأناقة وإتقان وانفتاح محكوم بالضوابط التي نشأت عليها.
فأما الاغنياء الذين أتقنوا اللعبة في بيروت، أصلاً، فقد اختاروا مشاريعهم بدقة. تخلوا عن بعض ألوان الشطارة التي طالما تفننوا في أساليبها وانضبطوا حتى لا يخرجهم الاعظم ثروة ودهاء ونفوذاً من الميدان. من تشاطر ضاع.
القلم الأخضر كان معنا
خيمت غمامة من الحزن على الاحتفال السنوي الذي ينظمه نادي دبي للصحافة من منتدى الاعلام في دبي لتوزيع جائزة الصحافة العربية على الفائزين بها هذا العام.
كان يفترض أن يكون القلم الأخضر جوزف سماحة بين من يقررون أسماء الفائزين ثم يسلمونهم الجوائز.
ولقد أنيطت بي هذه المهمة الصعبة: أن أستحضر رفيق العمر والموقف والزمن الصعب والمواجهة المفتوحة مع صناع التخلف وحماته في وطننا العربي، وأن أتولى تقديم جائزة تقديرية لقلمه الاخضر لتتسلمها ابنته التي تتكلم بعينيها فتربكك،
تقدمت أمية متماسكة، مرفوعة الرأس، فتسلمت الجائزة ووجهت عبر التلعثم كلمة قصيرة، كالأخ، قبل أن أصحبها الى راعي المهرجان، الشيخ محمد بن راشد المكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي، لتحيته… وقد وقفت لها القاعة جميعاً، وبرقت عيون الكثرة من الحاضرين بالدمع والشيخ محمد يصافح أمية المنتصبة كرمح، ثم يقبلها مهنئاً ومعزياً.
كانت كثرة من رفاقك وأصدقائك والصديقات والتلامذة تلتف من حول اسمك يا جوزف. وكانت في العيون دموع عتاب. إنه الشعور بالخذلان، يا من غادرت بلا وداع، وقبل أن تكمل كلامك.
في أقصى القاعة كانت الدينامو منى المري تتابع ما يجري بلهفة… وترقرقت في عينيها دمعة، بينما مساعدتها ذات الهمة حصة تشرق بالدمع. كان الشعور بالخذلان يزيد من مرارة الفقد.
حوار مع المرجع لمنى سكرية
ممتع هو الحوار مع المرجع العلامة السيد محمد حسين فضل الله، في كل زمان ومكان… لكن الزميلة التي لا تعرف الكلل ولا تعترف بالمستحيل منى سكرية أجرت مع السيد حواراً يمكن اعتباره مرجعياً ، خصوصاً أنه جاء شاملاً فلم تتحفظ الاسئلة ولم تتعلثم أجوبة الرجل الذي لا يكف عن الغرف من بحور العلم ثم يعكف على إنارة جوانب حياتنا بإسقاط الكثير مما كان في حكم المحظور.
سألت منى سكرية المرجع في السياسة، المحلية والعربية والدولية، عن فلسطين والعمر الافتراضي للمشروع الاسرائيلي، فأجاب السيد بإحساسه العميق بالتاريخ وحتمية انتصار الحق بشرط أن يكون أصحابه مستعدين لحمايته والنضال لاستعادته اذا ما اغتصب منهم.
وسألت منى عن بعض المعتقدات أو البدع أو الموروثات التي أكسبتها العامة شيئاً من القداسة، فبات ممنوعاً على الناس التفكير خارجها، أو التحرر منها أو إسقاطها من الذاكرة أو من يوميات حياتهم، حتى لا يتهموا بالكفر… وقد أجاب السيد برحابته فأظهر الحدود بين الحلال والحرام، مؤكداً أن الدين بفهمه في ضوء العصر. المبادئ ثابتة لكن الاجتهاد في الدلالات والمفاهيم واجب… فالزمن عنصر فاعل في دلالة النص. المبادئ العامة لا تتأثر لكن التطبيق إنساني، وبالتالي فالانسان صاحب حق، بل إن عليه واجب الاجتهاد في تطوير مفهوم النص بما يسمح بتطوير حياته.
ولأن منى سكرية صحافية ولان السيد هو المرجع المؤهل للاجابة على الصعب من الاسئلة، ولأنه صاحب مدرسة في التحرر من بعض الطقوس التي كادت تقسم المسلمين (أبرز الامثلة هو الاختلاف السنوي على مواعيد عيدي الفطر والاضحى) فقد طرحت منى الاسئلة التي لا يملك الشجاعة للاجابة عليها إلا من تحصن بعلمه الذي أهّله للمرجعية، كما بثقافته الواسعة، كما بظلال الشجرة الحسينية التي تربى فيها العلامة السيد محمد حسين فضل الله.
تستحق منى سكرية، ابنة العائلة ذات الحضور السياسي النضالي في الفاكهة على التخم بين مذهبيتين كادتا تسيئان الى الاسلام والعروبة معا، التهنئة على شجاعتها في اقتحام التابو ، وما كان ممكناً لها أن تفعل فتعود الى الناس بما ينفعهم في يومهم وفي غدهم لولا أن عالماً جليلاً ومرجعاً عارفاً ومثقفاً له تاريخ نضالي كالسيد محمد حسين فضل الله كان هو الجواب اليقين.
وقد اكتمل كتاب الزميلة التي هجرت الصحافة ولم تغادرها بالمقدمة المختصرة والدالة التي كتبها مرجع آخر، في الوطنية، هو الرئيس سليم الحص.
من أقوال نسمة
قال لي نسمة الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
لا يخسر المحب قلبه لان الدنيا أبعدت عنه حبيبه..
يستطيع القلب أن يحفظ الحب فيه ألف عام..
آه من تلك الشهقة التي تعيدك مراهقاً وتعيد النبض الى قلبك المتروك للهجر..
آهتان، وتعود فتىً مجرّح اليدين والساقين بعدما غفلت عن الانتباه الى سور بيتها المعلق… خلف الآهات!

Exit mobile version