طلال سلمان

هوامش

زيارة تفقدية لقلب مزدحم.. بالحب!
نظر الى ذلك القوس بكثير من التهيب، قبل أن يتمدد فوق الطاولة عارياً إلا من قميص يلفه فلا يغطي إلا نصفه، تلاحقه تعليمات الطبيب المشرف على آلة التصوير الحديثة التي سمع عنها من الاوصاف ما جعله يفترض أنها قادرة على قراءة أفكاره ومحاسبته عما تقدم من ذنوبه وما تأخر…
اطوِ ركبتيك، واحفظ نفسك في صدرك قليلاً.
أزّت الآلة فوقه، ودار الفيلم فيها دورة كاملة، مرات عدة، قبل أن يأتيه الصوت مجدداً: استرخِ.. وتنفس براحتك.
كانت الممرضة التي تكاد أن تكون طبيباً تساعده على تنفيذ التعليمات، بدقة، في حين كان يحاول أن يكتشف عبر الازيز الدوّار أسرار هذه الآلة التي تعتبر إنجازاً علمياً جديداً اذ تغني بصورتها الشاملة والتفصيلية والتي لا تستغرق أكثر من دقائق عن تلك الفحوص الطبية التي كانت تحتاج الى ساعات طوال.
بعد نصف ساعة، كان يجلس في مكتب مدير المستشفى، وقد أعد نفسه لسماع الاخبار عن جسده جميعاً: جاء طبيب أول فطمأنه الى سلامة الكبد والكليتين، ثم جاء طبيب ثان فطمأنه الى انتظام ضربات القلب، وطبيب ثالث نبهه الى زيادة ملحوظة في معدل الكولسترول ، أما الطبيب الرابع فقد مازحه بأن أبلغه أنه وجد دماغه فارغاً…
تزايد عدد الاطباء حتى ضاقت بهم الغرفة الأنيقة على ضآلة مساحتها.. ولاحظ أنهم يتبادلون النظرات، ثم خاطبه كبيرهم قائلاً: ليس ثمة ما يقلق ولكن علينا أن نصارحك..
أصلح من جلسته، وتنبهت حواسه جميعاً، وشعر بيد صديقه الطبيب الذي نصحه بالصورة الكاشفة تربت على كتفه، كأنما لتطمئنه.
قال يستعجل النشرة : صارحوني، اذاً..
قال طبيب الأشعة: كل ما في الأمر أننا لاحظنا بعض التكلس على واحد من شرايين القلب..
وقال طبيب القلب ضاحكاً: لا تخف، لقد طمس التكلس أسماء الذين دخلوه ولم يخرجوا.
وقال مدير المستشفى: لقد تشاورنا، واتفق رأينا على أن تذهب الى طبيبك ليقرر كيف يتعامل مع هذا التكلس، وهل يحتاج الأمر الى تمييل كخطوة لا بد منها لاتخاذ القرار بما بعدها.
? ? ?
حين قام لينصرف كان يتأبط مظروفا منتفخاً بتقارير الاطباء الاختصاصيين الذين شرح كل منهم الصورة التي تقع في نطاق اختصاصه، فكر: هو الآن، كله، في هذا المظروف، بمخه وقلبه ورئتيه وكبده وكليتيه وشرايينه جميعاً، من أدنى الساق الى أعلى الرأس. كل أسراره هنا. كل حياته هنا. كل تجاربه، بخيباته ونجاحاته، بمغامراته ومباذله… يمكن قراءته عبر ما تركت الأيام من آثارها على حالته الصحية، هنا.
…وذهب الى الطبيب العلم لكي يدخل بصحبته الى ذلك العالم الرحب الذي هو بحجم قبضة اليد والذي يختصر العمر جميعاً.
لا بد من التمييل . من أجل الاطمئنان. لا شيء مقلقاً في الصور. ولكن ليطمئن قلبي لا بد من جولة في قلبك..
? ? ?
مع الصباح الباكر كان قد هوى من الطابق التاسع (فوق) الى الطابق الثاني (تحت مستوى الأرض)… وفي الغرفة الزرقاء كان ينتظره المشهد الذي لن ينساه أبداً: كان كل من الطبيبين والمعاونين الثلاثة قد ارتدوا، فوق المريلة، دروعاً كتلك المضادة للرصاص… قال الطبيب العلم: إن نسبة الاشعاع هنا عالية جداً، والحيطة ضرورية.
سأله الطبيب الشاب الذي تبث عيناه الطمأنينة: هل أنت جاهز؟!
ضحك. ماذا يمكن أن تكون إجابته؟!
استمع الى شرح تفصيلي: سندخل هذا الشريط الرفيع كخيط من أعلى الفخذ الى أفياء القلب، ونجعله يجول في شرايينك فيخرج عشيقاتك واحدة واحدة، ويفضح خيباتك جميعاً. سنعرف كل ما تحرص على إخفائه.. لكن بوسعك أن تطمئن فنحن، كما الخوري في كرسي الاعتراف، نحفظ السر ولا نكشفه لأي كان.
قال الطبيب العلم وهو يربت بيده على أسفل البطن:
هل تتابع الصورة على الشاشة؟ هل تعرفت الى قلبك. إنه أمامك فانظره! وهل ترى هذا السلك الذي يتحرك في الداخل؟ إنه السلك الذي أدخلناه للتو! يمكنك الآن أن تتابع حركة السلك وهو يتعامل مع التكلس الذي يتبدى كحبيبات بيضاء فوق ذلك الشريان. أتراه؟! إنه يجري ذهاباً وإياباً لكي يزيل التكلس. مبروك! التكلس قشرة رقيقة جداً، أمكن تذويبها، ولن نحتاج لا الى بالون ولا الى رصور ، وبديهي أننا لن نحتاج الى جراحة.
كان مستغرقاً في تأمل ذلك الخافق المعذب ، بعد، حين جاءه صوت طبيبه: لقد انتهينا!
ماذا؟ بهذه السرعة دخلتم الى قلبي وبهذا السلك ثم خرجتم لتطمئنوني الى قوة احتماله؟!
…وهل أنتم أعرف مني بقلبي؟! وهل كنتم تفترضون أنكم وقد دخلتم مقتحمين سيكشف لكم أسراره وحكاياته الحميمة؟! هل تعتقدون أن باستطاعتكم قراءة ديوان حبه؟! لقد أراكم ما أنتم بحاجة إليه لتطمئنوا الى سلامته، أما قصائد عشقه فلا يغنيها إلا لأهلها الذين يطربون لها ويعطونه من أسباب المناعة ما يجعله قادراً على أن يعيش ألف ألف قصة حب في ألف عام!
السلك في القلب! يتحرك كدودة! يتسلل عبر المنافذ صعوداً وهبوطاً، بينما يكاد يسمع للنبض دوياً مموسقاً كأغنية حب رقيقة!
في لحظة خاطفة انتبه الى حركة نشطة داخل القلب، ضحكات ومقاطع من أغان شجية، وتمتمات بأدعية وصلوات: كان الأحبة جميعاً قد احتشدوا داخل القلب، واندفع الأحفاد الى الترنم ببعض ما يحبون من الأغاني التي يؤدونها في مدارسهم كفروض.
أحس أنه ينسحب من المشهد الى خارجه، وأنه يرى كل الآخرين من حوله، بما في ذلك جسده الممدد على تلك النقالة ، بعين مختلفة. إنه يقرأ تفاصيلهم. إنه يجدد العلاقة بهم. إنه يعود اليهم بمنطق غير الذي ألفوه منه.
كان صديقه الطبيب الذي تبدى، في درعه، كواحد من فرسان القرون الوسطى، يشيعه بابتسامة رضى والممرضون يمضون به، فوق النقالة في اتجاه غرفته.
سمع عشرات من تلك الجملة التي اكتسبت الآن رقة غير عادية: الحمد لله على السلامة! وتلك الارق منها: سلامة قلبك .
وحين بلغ غرفته في المستشفى وجد قلبه سليماً وقد غرق في ابتسامة دامعة.
نهاد حشيشو يرثي نفسه ضاحكاً..
منذ زمن بعيد يشغلني أمر الحزن الذي يظلل وجه نهاد حشيشو الذي يكتسب وسامة استثنائية متى ضحك.
كنت أتساءل كلما لقيت هذا الصديق القديم الذي يمتزج فيه المناضل بالباحث بالصعلوك بالكاتب: ماذا يحزن ابن العائلة العريقة في صيدا هذا الذي عاش حياته كما رغب أن يعيش دائما؟! لقد جرب هذا الرجل، تقريبا، كل الافكار، كل العقائد، وإن كانت تجربته الشيوعية هي الاغنى، خصوصا وقد تعددت مراحلها، بحسب الصراعات التي اجتاحت الحزب في الستينيات.
لم تتوافر لي الاجابات الحاسمة، برغم أنني استنطقت بعض زملائه الندامى في المقاهي التي تعرف مواقيته اليومية، قبل الظهر وبعده… ثم كان أن وصلني كتابه الجديد قيادات وهزائم فإذا هو يقدم لي كل نهاد حشيشو، المتحدر من قبيلة شمر الممتدة ما بين أقصى شبه الجزيرة العربية وأدنى بادية الشام عند حمص.
عرفت أباه الذي كان ضابطا. عرفت أمه المكافحة. عرفت جديداً عن ملاعب صباه في ضهر المير وكلية المقاصد، التي كانت منطلق التظاهرات والاعتراضات في المناسبات الوطنية… وعرفت زوجته، رفيقة دربه رأفت بكل ما تحملت منه، وابنته راغدة التي باتت قصيدته .
ولقد فاجأتني جرأة نهاد حشيشو في اعترافه بمباذله وموبقاته الكثيرة: من علاقته بالمقهى، الى تجربته مع القمار، الى زواجه الثاني، والابوة التي عرّضته لهزات عنيفة…
لكن ما ظل غامضاً بالنسبة لي هو مصدر الحزن في نبرة نهاد حشيشو، وتفكيره الحميم بالموت الذي يكاد يحدد له المواعيد.
لقد عاش نهاد حشيشو حياة غنية، لكن كسله الابدي كان يجعله يتخلى، في لحظة، عن كل ما بناه، ليبدأ تجربة جديدة، وغالباً في أمكنة أخرى، ربما بدافع الضجر، ربما بالرغبة في التجديد، ربما بقصد تبديل كل ما يحيط به سعياً وراء حلم، وهم، سراب.
لقد كتب نهاد حشيشو في كتابه الحافل بالقيادات والهزائم تجاربه المبتورة في مجالات عدة: في العمل الحزبي، في العمل البحثي، في العمل الصحافي، في الزواج والسفر، في مواكبة الثورات والحروب والمؤتمرات والتحولات التي زلزلت بعض الثوابت اليقينية التي كان يرتكز اليها القرن العشرون.
وفي إهداءاته التي ذهبت جميعاً الى أصدقاء راحلين تستوقفك رنة الحسد : لكأنه كان يريد أن يصحبهم بل أن يسبقهم… لا سيما قريبه محي الدين حشيشو، الشهيد الذي دفع حياته ثمناً لمبدئيته في مواجهة الاجتياح الاسرائيلي العام .1982
اعترافات نهاد حشيشو تشبهه: إنها تروي مأساة حياته بنبرة ضاحكة، أو إنها تروي مهزلة عمره بنبرة مأساوية… وتتركك حائراً: هل تشفق عليه وقد كشف لك أسراره؟! أم تعتبر أنه خادعك فكتب هذه السيرة بسخرية، ثم جلس يتفرج عليك ساخراً وأنت تقرأه فتضحك أو تعبس أو تحزن لزين الشباب الذي متع نفسه بالشباب ثم جلس يرثي نفسه.. ضاحكاً!
من أقوال نسمة
قال لي نسمة الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
لا يعيش الحب في قفص.
كيف يكون حبيباً ذلك الذي يبني من عاطفته سجناً يحبس حبيبه فيه؟!
اذا خفت على حبك من الحرية كنت تعامله كأنه عقوبة..
لحبيبي الحرية مطلقة… فهي ستجعله لي كما هو فيّ دائماً.

Exit mobile version