طلال سلمان

هوامش

خواطر سياسية عن النساء في معرض الكتاب!
ما زال الكتاب قوياً في لبنان، وما زال محصناً. لم تستطع مباذل السياسة ومخاطرها أن تقتله، حتى هذه اللحظة. ما زال الناس يتجاوزون خلافاتهم الحادة، ويمشون على التخم، بل على حد سيف الفتنة الطائفية والمذهبية قاصدين الكتاب في معرضه، سواء أكان المهرجان الذي تنظمه الحركة الثقافية في انطلياس، أو الأصيل والراسخ والذي يقيمه سنوياً النادي الثقافي العربي… وبين الأخبار المفرحة أن النادي عاد فقرر إقامة معرضه العربي الدولي بعد ثلاثة أسابيع، وكأنما اطمأن الى أن مخاطر الفتنة قد باتت خلفنا… وهي المخاطر التي كانت تحتل هواء المدينة قبل حين فدفعت النادي الى إرجاء معرضه.
أمام الكتاب تتهاوى، ولو الى حين، الحساسيات والخلافات السياسية التي تموه نفسها بالطوائف لتستمد شرعية الدوام …
ولقد تأملتُ بشيء من الفرح الخبيث ثلاثة رجال وامرأتين وقد جمعتهم صداقتهم لواحد من الكتّاب أمام جناح ناشره في المعرض. كانوا، هنا، يلبسون وجوهاً غير التي نعرفها لهم… كانوا يتحدثون بأصوات غير تلك التي نسمعها منهم عبر الاذاعة أو شاشات النقار السياسي. وكان واحدهم يبتسم وهو يستمع للآخرين، لكن الابتسامات كانت مؤقتة و مرسومة . هنا كانوا يحاولون تبادل البطاقات كمثقفين، أي كمتحضرين… مع أن اجتماعهم لم يكن حول الكتاب ولا حتى من حول موضوعه . جاؤوا مجاملين. سيشترون نسخاً من كتاب صديقهم. والكاتب سيشحذ أفكاره لابتداع جمل لا تؤذي مكانته الأدبية أو الفكرية، فيكتب إهداءات لهؤلاء الذين يعرف سلفاً أنهم لن يقرأوا كتابه.
كان الوضع دقيقاً: فكل منهم يتابع قلمه وهو يخط الإهداء، وبالتالي فلا مجال للتمويه. اهربْ اذاً الى المجاملة. نوّه بجمال السيدات، أو بذكاء العيون التي ستقرأ. أو فاهرب الى ذكريات الصبا مع الاصدقاء الذين جاؤوا الى صورة التوقيع.
لكن ما لم يتحسب له الكاتب المؤلف أن كل صديق سيقيس مكانته عنده بعدد السطور التي يكتب بها الاهداء… وثمة امرأة أغضبها أن يقول فيها انه يخشى على جمال عينيها من تعب القراءة، بينما كتب للثانية انها ربما تعرف عن موضوع كتابه أكثر منه لان عقلها تعزز بالثقافة فصار منارة .
ذات العينين الجميلتين لم ترض، تماماً… كانت تريد أن تعزز الجمال بالمعرفة، خصوصاً أنها تعرف أكثر من صديقها الذي يتباهى بمعارفه فيجعلها كتباً!! آه! لو قدر لها أن تكتب إذاً لخلص الورق!
أما ذات العقل فرأت في الاهداء انتقاصاً من أنوثتها!
وعند باب الخروج كانت السيدتان المختلفتان في السياسة وفي الذوق قد وجدتا موضوعاً للاتفاق: المؤلف مسكين! شغلته القراءة والكتابة عن التعرف الى كوامن البهجة والمتعة في الحياة التي لا يمكن حبسها في الكتب.
جورج يمين: ساقية في ظل قارة زغرتا
يافعاً كنت حين سمعت اسم زغرتا يرن في بيتنا، لأول مرة، تاركاً صدى مجلبباً بالخوف. ثم صار اسم هذه البلدة الشمالية البعيدة، آنذاك، يستدرّ دموع الأم في بيت الدركي الذي كأنه أبي. فبين فترة وأخرى كانت تحشد قوة من رجال الدرك الموزعين على المخافر في مناطق شتى لتوفد الى زغرتا فتفصل بين أهلها المشتبكين في اقتتال طال كل بيت بالأذى، وتأخر علاجه زمناً طويلاً لأنه تحول الى استثمار سياسي مجز، للكبار الذين في البعيد، بينما مقابر زغرتا تلتهم في كل اشتباك المزيد من أبنائها.
كان الدركي الذي كأنه أبي يذهب مفصولاً في مهمة من مخفره في الشوف، الى زغرتا للمشاركة في مهمة تبدو خارج أيدي العسكر، وتظل أمي متقوقعة داخل همّها ونحن من حولها ليل انتظار حتى يعود بحكايات أولها وجع، وآخرها وجع.
وفي بلدتي البعلبكية كان الأهالي يتناقلون أخبار المواجهات بين الإخوة الأعداء في زغرتا وكأنها حكايات عائلية.. وكانوا ينقسمون بين مناصرين لهذه الجهة ومخاصمين لتلك، حتى لتشعر في لحظات معينة وكأن السامرين هنا يعرفون المقتتلين هناك، عائلة عائلة وفرداً فرداً، بل ربما أخذك التوهم، أحياناً، الى أن هؤلاء الفلاحين الذين لفحت الشمس وجوههم حتى باتت كالنحاس، الشوارب فيها تنتصب كالأعمدة، قد عادوا لتوّهم من الميدان.
فالتشابه في السلوك العشائري يكاد يكون متطابقاً وإن اختلفت الجغرافيا والمسافة من واحات الحضارة، وأخطرها البحر، والأسماء الدالة على الدين: اقتلهم قبل أن يقتلوك، واقتل أبناءهم حتى لا يقتلوا أبناءك… أما الترمل فقدر النساء الذي لا مفرّ منه.
ثم جاءت السياسة فبدلت كثيراً في التاريخ والجغرافيا والديموغرافيا والاقتصاد، وكان أن أنبتت زغرتا جيلاً من الفتية المجبولين بالألم، الذين طالما ساروا في مواكب تشييع الأعزاء، والذين لم يقبلوا ذرائع تلك الحروب داخل الصدر الواحد، فإذا هم يطلقون وجعهم دواوين شعر وروايات تضج بموهبة كتّابها وقصصاً تستعيد ذكريات زمن الموت، ولوحات أبدعها الخوف على الغد من أمس طالما جلل الرجال والنساء والبيوت والكنائس بالسواد ودقات الأجراس المتقطعة بالحزن الذي بات بعض صوت زغرتا المكوية بالفقد.
???
لو أن جورج يمين معنا الآن لكنت طالبته بحقوق الملكية الأدبية عن إطلاق تعبير القارة على هذه المدينة التي توأمت نفسها فغدت زغرتا هي إهدن ثم استولت على مستعمراتها تحت زغرتا وتلك التي تعلوها لكنها تظل تحت إهدن.
ربما لهذا عندما ذهبت رئاسة الجمهورية الى زغرتا أمكن، من بعد، التنازل عن الرئاسة لكن الجمهورية لم تعد أبداً من هناك. ويقال إنها تاهت عن طريق العودة، اذ انها لم تجد طرابلس، ثم ان حاجز البربارة منعها من العبور في اتجاه الساحل وقال حارسه إن عليها أن ترجع الى شعارها الذي يعلو بشري فتسكن فيه، ومنذ ذلك اليوم ضاعت آثارها.
وإذا كان أهل السياسة قد صادروا الجمهورية فتناتشوها إرباً، فإن أهل زغرتا إهدن أثبتوا أنهم يعرفون كل شيء ويتقنون كل المهن من السلطة بكل مواقفها الى الثروة بكل أنواع عملتها الصفراء والخضراء والبيضاء، بقدر ما أثبتوا أن فيهم المبدع رسماً أو نحتاً أو كتابة أو شعراً أو تأريخاً أو تلحيناً وغناء… وها هو جورج يمين نفسه يقدم لنا مجموعة من العباقرة الذين أنجبتهم قارته الغنية فلا نملك إلا أن ننحني أمام إبداعاتهم التي قد تنسينا الآخرين ممن أبدعوا في المجالات التي يستحسن أن نغض عنها الطرف حتى يواريها مأواها.
في الخربشات التي تقارب الشعر والتي جمعت في كتاب نقطة في الفراغ نكتشف أن الشعر كان يجيء الى جورج يمين مرة بالعامية ومرة بالفصحى، وكثيراً ما وقف على بابه فلم يسمح له بالدخول لأنه كان مشغولاً عنه بما بعد الشعر.
كانت الحرب التي تعددت ألقابها وبدلت جلدها كثيراَ قد لفحت برياحها كل الناس في كل الأمكنة… حتى في القارة التي كانت تظن أنها تؤثّر ولا تتأثر.
لكن جورج يمين كان هناك رجلاً قاعداً على حجر مكسور، ظهره الى حافة الهواء، ظله مبعثر. سبحته مقطوعة ورأسه منحن كغصن مثقل بالنعاس. يتسلى بحروف اسمه الأربعة يقولها، يفرطها، يكرجها، يصفها كيفما اتفق، يقرأ بصوت بطيء ثم يفقع من الضحك.
كان جورج يمين يعرف أن زمنه ليس من هذه العقارب.
ولذا كان يغني ليوصد صمتاً، ليبقى منه ما هو أكثر من عظمة مبيضة.
بين حروب الزغرتاويين في ما بينهم، وبين الحرب التي أخذت الجميع الى جحيمها كان جورج يمين قد صار رجلاً.. لكنه سرعان ما اكتشف أنه محكوم بأن يخلع ذاكرته ويرميها حتى لا تكون مقتله.
لقد وقفت الحرب سداً بينه وبين الآخرين في القرب القريب، كما طرابلس، وفي البعد البعيد كما بيروت. لكن طرابلس السيدة الطاعنة في السن، هذه الحلوة النائمة بين شراشف البحر والتي احترق فستانها الذهبي في سوق القمح، لا تغيب عن البال أو عن القلب فيصلي لها.
السلام عليك يا أم الفقير. العيد اقترب فافتحي ذراعيك ولتعلُ ابتهالات المآذن. آه ما أوسع قلبك وما أضيق غرف الأبجدية .
كان الولد العاري يريد قميصاً من طرابلس، لكنه وجدها وقد عريت وانتهكت، وتركت مرمية على رصيف النسيان، يدّعيها من لا يملكها، ويعجز عن حمايتها من لا حياة له إلا بها وفيها، ويتغافل رجال السلطة عن سقوطها منها فيمضون بعيداً عنها، وكأن العاصمة الثانية مجرد جملة معترضة لا يؤثر غيابها على معنى الدولة التي عجزت عن حماية عاصمتها الأولى وحماية اسمها، فكيف بحدودها التي اخترقها العدو الف مرة حتى أقفلت المقاومة بواباتها التي منها كان يأتي الهوان والحرب الأهلية.
في زغرتا التي استولدتها الحرب على ذاتها، ثم عمرتها حرب الدولة التي تستبطن دولاً على الوطن الذي يستبطن كيانات عدة، أخذت السلطة من يرغب فيها ويقدر على استثمارها وجاهة ومالاً ونفوذاً.
لكن نفراً من أبناء هذه القارة ذهبوا الى الكتابة التي هي عادة سرية يمارسها شهوانيون يخافون الاختناق.
وجورج يمين الذي قاربته السلطة ولم يقربها ظل منفياً في عشيرته ومطلوباً من أعدائه: أنا يا صاح كذبة فاتنة مشلوحة على الطعنة الابدية.
فمنذ أن دفشته حرب الشمال الى الجرد صب جسده المقزز خيمة تحت بيت جده وصار يشرب النهار البارد كالحليب الانكليزي كرعة واحدة.
ولما اكتشف جورج يمين أن رجال الحرب قد عفوا عنه توجه اليهم بالشكر:
شكراً وألف شكر للذين يقتلون، لأنهم لم يقتلوني حتى اليوم. وما زالوا قصداً أو سهواً يهبونني الحياة، مع أنني صرت عتيقاً على وجه هذه الارض، أرضهم .
???
هو الحب ما جعل جورج يمين شاعراً
أما الكاتب الصحافي الاذاعي فكان اندفاعاً الى ترف إشغال الوقت.
والحب هو تلك المرأة التي خلقت أغانيها المعلنة والمكتومة ونهضت كطفلة، كسهم جامح/ لتهدي معه الذين لا نعرفهم أسماءنا الاخيرة لكي لا يحتاروا حين ينجبون.
الحب هو شعره الذهبي: القمح الاول، صهيل أبيض المنام،
فكيه، افلتيه خارج الأبجدية، ودعيه يتدفق في شرايين الهواء..
لماذا أنت خائفة وصوتك البرتقالي مثل ساقية في الظل،
كأن السرير الذي ضمنا انشطر شبحين والتفاحة التي اقتسمناها صارت خوذتين، وماذا اذا جعلكت صوتي كجريدة عتيقة ورميته في معطف الأرصفة الشتائية.
ولأنه الحب فكل امرأة تشتهيها تدخل جسد زوجتك، وكل رجل تشتاقه زوجتك تلبسه أنت سهواً، وتلتقيان، وتفترقان في فضاءات الاجساد. لا تكن جباناً بقوة الأخلاق، امنحها رجالك والتهم نساءها! ألم يقل: كلوا هذا جسدي.
لكنه الزمن.
الزمن الذي ليس من هذه العقارب.
إنه العاري إلا من رنين الحجارة المتساقطة في صناديق صدره العاري إلا من ثياب الاعياد التي اشتهاها ولم ينم معها مرة واحدة.
كان كمن يتعجل أن يقول كل ما لديه ثم يصعد حافياً الى الدفتر يفتحه من الذراع الى الذراع، ويتسطح، ويمد رجليه حتى آخر الورقة وأخر الكلام.
وكان يخربش أشجاراً تلبس قامات الريح وتمشي على ضفاف البياض فتمتلئ الورقة وتتجعد كشرشف عاشقين.
كان يعرف أنه سيعبر سريعاً كوميض، مثل المسيح، مع فارق ان عمر السيد ألفان وعمره وجعان .
???
لم يسعدني حظي بلقاء جورج يمين فأنا من قارة أخرى، لكن كتبه جعلته صديقي، وأسكنته بيتي … مع الوجوه المسحورة بالنار ذات المناديل الزرقاء تأخذ شكل التفاح، وهناك هناك ثمة طفولة تحفظها الأشعار.
وسنحفظ في حبرنا وفي أوراقنا التي جعلناها سكننا ذلك المنفي من عشيرته المطلوب من أعدائه… تلك الكذبة الفاتنة المشلوحة على الطعنة الأبدية.
سلاماً أيها الغريب في قارته العجيبة جورج يمين،
لا تنسَ أن تقرئ جوزف سماحة الذي ذهب اليك بآخر دواوين الشعر، السلام ممن ضجر من انتظارهم السلام.
(مقتطفات من مداخلة عن جورج يمين
في معرض الكتاب. الحركة الثقافية في انطلياس)
من أقوال نسمة
قال لي نسمة الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
الغضب لا يفسد الحب..
لا تنسَ أن الحب جنون، وأن الغضب يذهب بالعقل…
هنيئاً لمن ينقص عقله فيزيد حبه!

Exit mobile version