طلال سلمان

هوامش

الفتى بالنظارتين يجيء مع العيد ويذهب معه العيد
البداية مع البداية: قبل أربعة وثلاثين عاماً وبضعة شهور جاء الفتى الواعد بالكاتب الذي سيصيره ليقدم طلب انتساب الى المشروع الواعد لصحيفة كان أهلها يحلمون بأن تكون مختلفة عما سبقها فتنجح، متميزة بشجاعة الإفصاح عن هويتها، صريحة بلا مداراة لضرورات السوق : جريدة مقاتلة من أجل الحق والحقيقة، جريدة لبنان في الوطن العربي جريدة الوطن العربي في لبنان صوت الذين لا صوت لهم .
وكان الفتى بالنظارتين خافت الصوت، حيياً، كأنما في عينيه بقايا نعاس، لكن حماسته الكامنة سرعان ما تتبدى حين يُطرح موضوع محدد للنقاش وتسأل عن الأكفأ في كتابته، فيغيب لساعة أو أقل ثم يعود إليك بصفحات تتراصف السطور عليها كأبيات شعر في قصيدة نقلها خطاط من ديوان محفوظ، فلا تشطيب ولا ارتباك، الجمل قصيرة لكن المعنى باهر في وضوحه عملاً بقاعدة منتهى الفصل كمنتهى الوصل .
خلال فترة التجارب أو الأعداد الصفر بدأت الرحلة مع المهنة… وأخذت تتأكد كفاءة جوزف سماحة، الشاب المتحدرة أصوله من جورة الخنشارة، والذي ولد في بيروت وأنشأته والدته يتيماً بعد غياب أبيه في بلدتها بينو في عكار، حيث التقى حازم صاغية وظلا رفيقين زميلين صديقين متناقضين في الوجهة متكاملين في الطموح الى التغيير، حتى فاجعة الافتراق.
كان من حظ جوزف سماحة، وحازم صاغية والعديد من أبناء ذلك الجيل الذين جاءت بهم الحماسة والرغبة في إعلاء الصوت وتوكيد الحضور الى السفير أنهم تتلمذوا على أيدي أساتذة كبار في المهنة، وفي مناخ صحي استقطب العشرات من الشبان والشابات الطامحين الى تغيير العالم.
وفي حين استطاع جوزف أن يحتل مكانه في صفحة الرأي، فقد كان على هؤلاء الآتين الى فكرة التغيير أن يتوزعوا على أقسام السفير كمحققين ومخبرين ومحررين، وهكذا تراصف شوقي رافع وراشد فايد وتوفيق صرداوي وفيصل سلمان ووليد شقير ومحمد شقير على تدريب المستجدين والمستجدات اللواتي شكلن ظاهرة صحية، خصوصاً بالروح الاقتحامية التي ميزتهن ومنهن: نجاة حرب، فاديا الشرقاوي،إيمان شمص، زينب حسون ووداد ناصر… ولم تكن مصادفة أن يتزوجن، في ما بعد، من زملائهن في السفير .
كان في أعلى سلّم القيادة ابراهيم عامر الذي ساقته المقادير من القاهرة الى بيروت ليراسل منها صحيفة بولتيكا اليوغسلافية… وقد رشحه مصطفى نبيل (الذي كان محرر الشؤون العربية في مجلة المصور، ثم تولى رئاسة تحرير مجلة الهلال) ليكون مديراً لتحرير الجريدة الجديدة.
وكان معه في إدارة التحرير بلال الحسن، الذي جاء بدوره من إدارة التحرير في مجلة الحرية .
وبين ابراهيم عامر، المهني حتى العظم، وصاحب الخبرة العظيمة في الصناعة الصحافية، الى جانب تجربته الحزبية والغنية في الحركة الشيوعية المصرية، وبلال الحسن الآتي بخلاصة تجربته في العمل الوطني الفلسطيني (حركة القوميين العرب فالجبهة الشعبية لتحرير فلسطين فالجبهة الديموقراطية) وميشال حلوه الغني بمعرفته بثوابت الواقع اللبناني ومتغيرات السياسة والسياسيين في هذا البلد ذي الطرائف التي كثيراً ما انقلبت فواجع، ومحمد مشموشي الذي كان يعد نفسه ليصبح قاضيا شرعيا ثم جنحت به الكتابة، كان جوزف سماحة القارئ النهم يتعلم كل يوم مزيداً من مبادئ المهنة وأصولها.
… فلما جاء ناجي العلي تاركاً الكويت على عجل، وجد في السفير التي ابتدع لها الشعار الفنان حلمي التوني وجاء به برعاية بهجت عثمان من القاهرة، وجد ابن مخيم عين الحلوة من يساعده على تثبيت خطه ويحفزه على إنضاج شخصيته الفذة حنظلة ليعبر بواسطته عن الواقع العربي الذي كان يدفع بالمقاومة الفلسطينية نحو أتون الحرب الاهلية في لبنان.
???
وكان مع ناجي العلي حنظلة الذي سيغدو ضميراً للأمة جميعاً، ورمزاً لرفض الواقع السياسي الاقتصادي بكل شخوصه وقياداته عظيمة الألقاب والمجددة في أساليب التعذيب وقتل المناضلين، والمتعجلة في التنازل للعدو…
… ووجد ناجي العلي في جوزف سماحة بعض ملامح حنظلة أو أن جوزف وجد نفسه شبيهاً بحنظلة فصار الطفل الضمير التحدي المفتوح أمام الكاتب الذي تعجزه لغته عن اللحاق بقدرة ناجي على التلخيص بخطين ما تتطلب كتابته الصفحات الطوال!
كانت السفير أشبه بكتيبة من المقاتلين، تجمعوا على أرضها في بيروت ليخوضوا معركة تحقيق أحلامهم الوطنية القومية التقدمية بسلاح كفاءاتهم المهنية.
وكان جوزف سماحة ورفاق جيله ينمون في قلب هذا المناخ المهني السياسي الصحي الذي لا يُغلق فيه نقاش ولا يُقمع فيه رأي، حتى لو تبدى خاطئاً، ولا يُحجر فيه على عاطفة شخصية، ويتباهى الكل بالإنجاز المتكامل الذي ساهموا فيه جميعاً، كل بقدر طاقته.
لم تتأخر الحرب الاهلية (الاولى) عن موعدها المقرر في عواصم عديدة غير بيروت، وهكذا دهمت السفير وهي لما تكمل عامها الاول… وكان ذلك أول امتحان لجميع العاملين فيها، الذين كانوا قد تجاوزوا فيها، وربما قبلها، انتماءاتهم الوطنية (ففينا المصري والفلسطيني والسوري ومن بعد التونسي والمغربي إضافة الى الجسم اللبناني الاساسي)، وكانوا بطبيعة الحال متجاوزين انتماءاتهم الطائفية والمذهبية.
توالت النكبات علينا: أحرق ابراهيم عامر وهو يزور مطابع جريدة بيروت وقضى شهيداً مجهولاً، بالكاد استطعنا إعادته في نعش الى القاهرة، وقطعت الميليشيات الطريق على ناجي العلي الذي ظل لفترة مصراً على السكن في مخيم عين الحلوة وتحمل مخاطر الانتقال ذهاباً وإياباً على خط بيروت صيدا، وتقطعت السبل على المحررين الذين كان سكنهم في الأحياء الشرقية من بيروت وما خلفها. ثم جاءت قوات الردع العربية، ومعها الرقابة على الصحف، التي باتت تصدر صفحات من الكلمات والأخبار المتقاطعة وكلها ناقص المعنى يفتقد الى المضمون.
في الفترة الفاصلة بين الحرب الاهلية الاولى والاجتياح الاسرائيلي الذي أحرق بيروت من دون أن ترفع الأعلام البيضاء، كانت السفير قد أكدت مكانتها مهنياً وسياسياً… ولكنها، وفي ضوء نتائج الاجتياح، واجهت الخسارة الجسيمة: تركها كل الزملاء غير اللبنانيين، بالاضطرار، وبعض اللبنانيين طلباً لمكان يمكن أن نمشي فيه على أقدامنا قاصدين صالة سينما أو مسرحاً ، على حد تعبير حازم صاغية.
… واستقر بلال الحسن في باريس، حيث أصدر فيها مجلة اليوم السابع ، وذهب إليه جوزف سماحة في هجرته الاولى ليكون مديراً لتحريرها.
لكن أول منزل سرعان ما نادى جوزف سماحة فعاد الى السفير بعد محطة في الحياة في لندن… وتولى إدارة التحرير فيها، مفيداً من تدريبه الاول الصارم على أيدي ابراهيم عامر وبلال الحسن، ثم من تجربته الغنية من الاقامة حيث لا حروب أهلية ولا فتن طائفية، بين باريس ولندن، متنقلاً بين مكتباتها ومعارض كتبها ومنتدياتها الثقافية وصحافتها حيث عقد مجموعة من الصداقات مع كتّاب كبار وعدد من الصحافيين المطلين على منطقتنا ونخبة من السياسيين من أصحاب الرأي.
وكان سهلاً علينا أن ننتبه الى أن جوزف سماحة يختزن في قلبه وفي تجربته ابراهيم عامر وبلال الحسن وناجي العلي وحلمي التوني وبهجت عثمان، وفي منزلة اخرى ياسين الحافظ الذي عرفه فصادقه وظل الحوار متصلاً بينهما حتى قطعه القدر.
… وغادرنا جوزف سماحة من جديد الى الحياة في لندن، قبل أن يعود مديراً لمكتبها في بيروت.
لكننا لم نصبر طويلاً على الافتراق، ولا هو كان قادراً على الابتعاد طويلاً، وهكذا عاد الى السفير مجدداً ليشغل بكفاءته العالية موقع رئيس التحرير حتى مثل هذه الايام من العام الماضي.
???
لا يمكن الحديث عن السفير إلا وجوزف سماحة أحد عناوينها، كذلك لا يمكن الحديث عن جوزف سماحة إلا و السفير عنوانه الدائم.
هي هويته، الى حد كبير، وهو بعض من هويتها. اسمه محفور في صدرها الى جانب من أسهم في بنائها من الخالدين الذين عبروا الى حيث التحق بهم في دنيا الخلود، كإبراهيم عامر وناجي العلي، وياسين الحافظ والباهي محمد، وسعد الله ونوس.
ثم إنه مقيم فيها عبر كوكبة من المحررين والمحررات الذين تدربوا على يديه، وشربوا من أفكاره، وأخذوا عنه الجرأة في اقتحام المحظور، واعتبار الناس هم المصدر وهم الأساس، هم الغاية وهم رب العمل الاصلي.
هو يسكن كل فكرة جديدة، كل باب جديد، كل صفحة مستحدثة لتقدم خدمة أفضل.
لقد تعلم في السفير ثم صار المعلم . وفيها باشر فن الكتابة قبل أن يغدو الكاتب الكبير. وفيها وجد المناخ الصحي الذي مكنه من اكتشاف قدراته، وفيها اكتشف قدرة جيل بل جيلين من الذين جاؤوا اليها، كما جاء، والذين لم يروا في انتقاله الى الاخبار قبل سنة غياباً ، وإن كانوا الآن يبكون غيابه الذي لا عودة بعده.
???
لم يعرف جوزف سماحة الصحافة كمهنة منفصلة عن الوطنية، والوطنية هي العروبة، والعروبة هي الحلم الاوسع: الحلم بالديموقراطية، والحلم بالتحرير، الحلم بفلسطين. من هنا لم يكن في مكتبه إلا صورة واحدة لجمال عبد الناصر، الذي قتله كابوس نظامه، فأرجعه الى خانة الحلم بإكمال ما لم يكتمل.
ولم يقبل جوزف سماحة من الصحافة ولها أن تتجمد في قوالب جاهرة، بذريعة عدم القدرة المادية، أو الخواء السياسي، أو ضحالة الطبقة السائدة، في الاحزاب كما في النقابات، وفي المجلس النيابي كما في المنتديات التي تحمل عنواناً ثقافياً ولا تقدم الثقافة.
مشعاً بفكره، مبدعاً باقتراحاته، مجدداً في كل مجال: في الفنون كما في العلوم، وفي الثقافة كما في الرأي، وفي مباهج الحياة كما قضاياها الجدية.
ربما لهذا فقد نزل الحزن على كل من عرفه أو قرأ له، أو سمعه منتدياً أو متحدثاً عبر شاشات الفضائيات.
وكان الحزن أقسى على المتوحد فيه، البعيد على قرب، في وطنه الذي صار منفاه، مثل عزمي بشارة ومحمود درويش وأمثالهما كثر.
… وها هو الحزن يلف بردائه الأسود عيد السفير الرابع والثلاثين، والذي لا نتذكره، الآن، إلا انطلاقاً من أن تأسيسها كان موعد التلاقي معه، وأن هذا التلاقي قد أسس لصداقة تشكل بعض أبهى الصفحات في سجل العمر، عمري وعائلتي جميعاً عفاف وهنادي ومعها خليل وكنده وربيعة ومعها حسين وروى وألما وأحمد ومعه لارا وورد وطلال، وعلي الذي لم يملك من الشجاعة بعد ما يمكنه من تقبل الواقعة المفجعة.
???
… وعندما تكامل الفتى بالنظارتين وصار مرجعاً، غادر بلا استئذان، كي يبقى بلا دعوة، في كل حرف نكتبه، وفي كل حنظلة يحاول أن يجدد ناجي العلي فينا، وسنظل ننتبه الى أن إبراهيم عامر لن يمرر خطأ غير مقصود، وأن سعد الله ونوس لن يتساهل مع فكرة غير مكتملة، وأن ياسين الحافظ سيحاسبه بلا رحمة أو توقف أمام عذر..
وسنضع صورته الى جانب صورة جمال عبد الناصر، وقد غدا مثله بعض تفاصيل الحلم الذي لن يغادرنا مهما اشتد علينا ضغط الكوابيس التي تحاصرنا بدمائنا.
من أقوال نسمة
قال لي نسمة الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
ليس صحيحاً أن القلب لا يتسع إلا لحب واحد.
القلب يتسع للناس جميعاً، لكنه لا يتسع لحاقد واحد ممن يكرهون الشمس ونورها.
الحب نور. ألا تضيء حياتك عندما يطل عليك؟
احفظ النور في قلبك، تكن الحب مطلقاً.

Exit mobile version