طلال سلمان

هوامش

زيارة سريعة إلى واحة للتقدم في الصحراء… سابقاً!
اندثرت تلك الصور القديمة عن الخليج وأهله، وما تبقى منها متصلا بالصحراء وجمالها والبداوة صار من الفولكلور أو من الذكريات التي يحرص رجال الاعمال الجدد على الحفاظ عليها، حتى لا يتهموا بالخروج على أصالتهم أو بانتحال صفات مستحدثة أو طارئة تنفي عنهم العراقة التي لا تتسق تماماً مع عمارات الزجاج الملون والاطراف المذهبة.
صارت أقطار الخليج دولا شديدة التعلق بمظاهر السيادة وألقاب المناصب المستجدة، التي تحل أكثر فأكثر محل طويل العمر ، بينما ترفرف الاعلام ذات الألوان على المباني التي قد لا يشغلها إلا قلة من أبناء البلاد الاصليين، الذين نجحوا في استقدام كفاءات الدنيا لبناء نهضتهم العمرانية التي سرّعت في إدخالهم العصر.
انتهى عصر السذاجة والدهشة والانبهار بالآخر، لا سيما إذا كان عربياً. لقد سقط العربي في امتحان الكفاءة اللازمة للانتقال السريع جداً من عصر التخلف والانحطاط والغربة عن عالم القرن العشرين، وكان لا بد أن يجيء الغربي الذي يصطنع القرن الواحد والعشرين وما بعده. وهكذا ومع تزايد أعداد أبناء الجاليات العربية في الخليج تعاظمت بوتيرة متصاعدة أعداد الاجانب من أهل التقدم، وتعاظمت بدرجة هائلة أعداد صغار الموظفين والعمال وباعة أعمارهم للخدمات البسيطة، مما استولد هواجس جدية حول هوية هذه الأقطار التي جعلتها ثرواتها دولاً عظيمة الأهمية بما يعجز شعوبها عن حمايتها مستقبلاً، إلا إذا استعيد مناخ التضامن العربي وتم ترسيخه على أسس وقواعد صحية، لا تثير قلق أبناء الأرض من مخاطر الهيمنة، وتعطي الأخوة العرب مساحة تمكنهم من تعزيز الهوية ولا تهدد بخطر الابتلاع.
ولقد أتيحت لي الفرصة مؤخراً لزيارة قصيرة الى مدينة أبو ظبي عاصمة دولة الامارات العربية المتحدة التي تغير جلدها مرة كل خمس سنوات، والتي بدأت تستقر الآن على صيغة مدينة حديثة هي غاية في الأناقة والفخامة والنظافة، ولكنها مؤهلة لان يعيش الناس حياتهم فيها كبشر لا كآلات أو كروبوت يؤدون وظائفهم بميكانيكية منهكة، ثم يحاولون استعادة إنسانيتهم في أوقات مستقطعة، أو في إجازات متقطعة… للتنفس وممارسة فن الحياة.
وما أسعدني في هذه الزيارة انها أتاحت لي جولة سريعة في منشأة يمكن أن نطلق عليها مصنع رجال الغد ، هي: كليات التقنية العليا.
الكليات عبارة عن مجمع عصري، مربوط بشبكة انترنيت، داخلية، تمكن طلابه من متابعة دراستهم في مختلف الاختصاصات، ضمن بيئة علمية، وقد وفرت لهم الخدمات جميعاً، داخل المجمع، بحيث يعيشون حياتهم في جو حميم.
في المجمع يمكن للطلاب الدراسة لمختلف التخصصات: من الطيران، الى العلوم كافة، الى التمريض، الى إعداد الذات لشغل مناصب إدارية، ولو بشهادات متوسطة تمكنهم من أن يخدموا مجتمعهم حتى لو كانت قد فاتتهم فرصة التحصيل العالي.
وخلال الزيارة القصيرة استطاع مدير المجمع الدكتور طيب كمالي أن يقدم لي نفسه بوصفه كفاءة مميزة، وكان أكثر ما لفتني فيه أنه كان يتحدث عن هذه الكليات كمن يحدثك بحب عن عائلته بأبنائه وأحفاده الصغار.
أما مفاجأتي الجميلة فكانت انني قد عثرت أخيراً على زميلنا ورفيق السلاح العتيق مصطفى كركوتي، الذي يعطي الآن جهده الصادق لهذا المنشأة الممتازة، تماماً كما كان يعطيها ل السفير أيام كان مراسلنا في لندن.
???
ولقد كانت فرصة ممتعة لي شخصياً ان اجلس إلى زميلين مستجدين سألا فأجبت، وفي ذهني ان مئات من الطلبة يرونني ويسمعونني، ما اشعرني بتهيب لم يداخلني في أي مقابلة سابقة. كنت كمن يجلس إلى لجنة فاحصة تقرأ وجهه وعينيه وربما أفكاره التي تكشفها براءة الأسئلة.
بقي أن أقول إن هذه المنشأة التي تقرّب المستقبل الى طلابها وذويهم هي بمثابة الابن الروحي لوزير التعليم العالي في دولة الامارات العربية المتحدة الشيخ نهيان بن مبارك، الذي ترى فيه نموذجاً لمن كنت تتمنى أن ترى من الرجال بين بناة أقطار الخليج.
وتعرف كثرة من الكتاب والصحافيين وأهل العلم عموماً، وأساتذة الجامعات خصوصاً، لا سيما منهم اصحاب الاختصاصات المبشرة بالعصر الآتي، عن الشيخ نهيان بن مبارك أكثر مما أعرفه عنه وعن ثقافته العريضة التي لم تُخرجه من اصالته وعليها، وأنا المستجد في صداقته… لكنني قد زرته لتحيته وشكره لأنه لبى لي طلباً إنسانياً وتابعه كما لو انه أمر يخصه، حتى تم الافراج عن المواطن اللبناني الذي كان في ما يشبه الأسر، لخلل إداري لا يتحمل مسؤوليته.. فاستحق من أسرته الدعاء بالتوفيق، إذ أعاد إليها ابنها الذي كان يمكن ان يحجزه الروتين لوقت غير محدود.
أما عن علاقة الشيخ نهيان بأبيه الشيخ مبارك، فتلك واحدة من روائع حكايا الوفاء التي تستحق ان تدرس.
أما مجلس الشيخ نهيان بكل من يجمع من أهل الكفاءات والزوار الذين يستدعيهم القرار بالنهوض أكثر من الرغبة بالتباهي بالانجاز، فيستحق حديثاً ليس مجاله هنا.
ليست هذه جميع أسباب عناية جابر!
تغريك عناية جابر بأن تتعامل معها كقطة، فإذا ما اندفعت مع توهمك فاجأتك أم فارس وقد استنبتت من حولها غابات من الشعر الشائك، في خدعة صغيرة ، ومضت بعيداً تصهل في لحمها الرقيق من دون أن تشوش العتمة… أما شعرها المشعث، أصلا، فلا يحتاج الى من يسرحه ليلوث المشهد عند باب السماء.
وعناية جابر التي تنطوي على سرها في سكون لا تريك من عينيها إلا ما فرغت للتو من كتابته من الوجع الممتع، ثم تذهب الى الغابة.
في كل ديوان جديد كنت أقرأ صفحات إضافية من حكاية عناية جابر التي أولها عشق وآخرها عشق وما بين العشقين عشق: المطر ثانية لكي تلح علي، أن تكون معي يعني أن أملك فكرتي، أن آخذك بأسناني .
وما لا تقوله عناية جابر كتابة تغنيه… وهي لا تغني إلا ذلك الذي يتجاوز بالكلمات الكتابة، أو أنه يهدم الكلمات.
لا أعرف تماما لماذا اختارت هذا العنوان لديوانها الأخير (أفترض انه لم يعد الأخير، لان عناية لا تعرف البطالة، وقبل أن تنجز القصيدة يكون عشقها قد صار ديوانا إضافيا): جميع أسبابنا . فالصور التي في هذه الوريقات التي تخربش عليها عناية نزواتها شعراً تشي بأنها بعض اللوحة التي تعمل بكسل لذيذ على إكمالها، ثم تكتشف أن الاكمال نهاية والنهايات جراح ثخينة يصعب أن تلتئم، فلماذا الاستعجال ما دام النوم القديم يبرد في الاغطية وما دام الهواء يصطفق من انهياره ! هي ليست من أولئك العشاق. هي نرجس خفيف. وهي تفضل أن نصهل في لحمنا الرقيق من دون أن نشوش العتمة .
هل هي الموسيقى، هل هو الرجل، هل هي الكتابة، هل هو رفض الرتابة، هل هي الظنون التي تحملها على ظهرها، وتجعل قدميها مضطربتين على الارض؟
عناية تواصل الحرث في جسد الكلمات وتستخرج منه صوراً جديدة. الى الجحيم القواعد واكتمال السياق. الكلمة قارورة تتسع لعالم هائل من المشاعر والعواطف. فجرها تنبثق منه أحلام وشهوات ورغبات ومطامح وأحقاد… أما الحب ففوق الكلام.
قبله وبعده. خلفه وقدامه. ورد يتفتح تحت الجلد… ويجعلنا نصهل في لحمنا الرقيق من دون أن نشوّش العتمة أو نشعّث شعرها .
الشعر حبال مطر ترخ الرغبات بموجات نحاسية: ورد يتفتح تحت الجلد… ويعاودها جسداً نائماً في العراء يتقلب عليه الغيم.
عيون القطة الناعمة الجلد خدعة صغيرة … أما الجسد الفاحش الذي يتخلع أمام الرجال فهو نوم يبرد في الأغطية.
عناية جابر التي تغني حبها الذي يكبر كل يوم ويطرد عنها ومنها العادية قادرة على أن تفاجئك دائماً بأنك لم تعرفها كفاية، حتى وأنت تقرأ في عينيها ما لم يكتبه قلمها ولن يكتبه، لأنه مدّخر لتعيش به ومعه وله، وإن ظلت تترك شيئاً من رماده على الطريق كي يرقص القمر.
ليست هذه جميع أسبابنا ، لكن عناية قررت أن تعطيك شيئا من ضعفها الرائع الذي يصطفق الهواء من انهياره.
حكاية/ مساحة ليل
تلاقوا على غير موعد: كانوا ثلاثة من الهاربين، أولهم من ماضيه وثانيهم من حاضره وثالثهم من غموض مستقبله.
قال أولهم: ألذ المهارب النساء.
لم يكن لدى صديقيّ المصادفة اعتراض،
مع الليل، انقلبت الصالة الفسيحة الى كباريه أممية بأنواع الشراب، مزدحمة بأنماط النساء، خليجية بالألحان التي يختلط فيها حداء الصحارى الموقّع النغمات على الطبول مع أغاني البحارة التي تأخذك الى غابات افريقيا وإن تخللتها إيقاعات هندية.
لا بد من مناورات تسبق عمليات الاقتحام، بعد تحديد الأهداف.
… وكانت الاجمل والارق، فتوجهت نحوها، مع الانظار، كلمات الغزل ومحاولات الاستدراج بالغواية أو بالتوجه الى الاخريات استيلاداً للغيرة.
لم يكن ثمة مجال للاحاديث المفتعلة من أجل التمهيد… فالغرض مكشوف، ومدة اللقاء محكومة بمساحة ما تبقى من الليل.
الرقص هو ميدان الامتحان الاول،
قامت القهرمانة بواجبها، فجاءت بهنّ واحدة إثر أخرى في ما يشبه الاستعراض، ودارت بين ضيوف الشرف تستقرئ في عيونهم الخيار… وقد تأكدت مما قدّرته: كلهم يعلقون أنظارهم على من صنفوها الملكة ، ومع تمايل الجسد الطري وانحناءاته كانت العيون تقطر شهوة، فإذا ما تصادمت النظرات حاول كل منهم أن يغلف التحدي بالنفاق، ثم يرتد مسرعاً ببصره إليها. ولأنها أدركت واقع الحال فقد اندفعت تتلوى وتتثنى موسعة الدائرة لحركتها طاردة زميلاتها الى زوايا الاهمال، حتى بدأن بالانسحاب واحدة إثر اخرى فخلت لها الساحة التي ملأتها على اتساعها، بل هي فاضت عنها حتى لقد تقطّر السقف عرقاً.
لم يدر من أين جاءته الشجاعة، هو الذي يستحم بخجله عادة، فاندفع يقاسمها المقعد الذي ارتمت عليه لتلتقط أنفاسها وتعيد تجميع الآهات وقد تقطرت حبيبات من العرق المضمخ بالشهوة.
اقترب فما ابتعدت، احتضنها فما اعترضت، نثر قبلاته على الظاهر من جسدها، ودغدغ المستور بقطع متناثرة من القماش فابتسمت مستكينة.. وشعر بشيء من التحدي والغريمان قد تحولا الى نواطير للعفّة فسحبها الى الرقص مجدداً ليظهر كفاءات لا يملكانها. تحركت القهرمان، أخيراً، فأخذت الى كل من الاخريات من قررت له أن يراقصها، ثم تولت إصدار الأوامر: اخلعي حذاءكِ! اتركي الشال!.. هيا أرينا كوامن جمالك! ارقصي لرجلك وليس لي!
الليل يتمدد في الخارج بارداً، يتلصص على التائهين في بحار النشوة وقد أصابهم خدر يستسقي العطاش.
هزه الطرب فغنى لها وحدها، فإذا الكل يهدأ ليصغي، ولم يكن يريد غيرها جمهوراً، فاستنجد بالقهرمان لتكون الدليل الى حيث يمكن أن يصير الغناء فراشاً لا يقربه النعاس.
من أقوال نسمة
قال لي نسمة الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
أكثر اللغات تعبيراً عن الحب هو الصمت.
الصمت هائل الصفحات، ولغاته عديدة… بل إنه ثرثار حتى ليعجزك في الاجابة.
كثيراً ما أغلق عيني حبيبي حتى لا أغرق في ثرثرته التي لا تتعب من تكرار تلك الكلمة التي تصطنع جنة.

Exit mobile version