طلال سلمان

هوامش

ستيفانو كياريني: أحيا شهداءنا حتى صار منهم
قدم نفسه بصوته الخفيض وقد ظللت وجهه ابتسامة مشعة تنبعث من عينيه الهادئتين: أنا ستيفانو كياريني، من المانيفستو ، جريدة الحزب الشيوعي الايطالي.
رحبت به مجاملاً بينما كان الزميل طلال خريس الذي أمضى نصف عمره في روما يكافح من أجل الصداقة اللبنانية، بل العربية الايطالية، يقدم شرحاً وافياً عن الحزب والجريدة وموقع ستيفانو المتقدم فيهما… وجلست إليهما متوقعاً أن يرشقني الشيوعي الكهل بتلك العبارات التقليدية ذات الكلمات المضخمة والمفخمة والتي لم تعد تعني الكثير، لكنه فاجأني بلغة مختلفة وبموضوع من خارج السياق المألوف. قال كياريني بصوته الخفيض ذاته:
جئنا كي نحضّر بالتعاون مع الاصدقاء، لبنانيين وفلسطين، لإعادة إحياء الذكرى التي لا يجوز أن تطمس بالقصد أو بالاهمال: مذابح صبرا وشاتيلا التي ارتكبها الجيش الاسرائيلي ومعه بعض المتعاونين اللبنانيين… ودائماً بقيادة ارييل شارون. لا يجوز أن ننسى تلك القافلة الهائلة من الشهداء، بالرجال والنساء والاطفال الذين اغتالهم الحقد والعصبوية التي تداني العنصرية. إنهم شهداء للإنسانية جمعاء، ومن واجبنا أن نستبقيهم في وجداننا حتى نستطيع أن نقاوم في حاضرنا وفي غدنا السفاحين، أعداء الإنسانية الذين لا يتورعون عن دفن الاطفال أحياء، وعن إبادة المئات بل الآلاف لا لذنب بل بسبب من جنسيتهم.
أحسست بشيء من الذنب لإساءة تقدير ضيفي، فحاولت التعويض بأن وضعت نفسي وزملائي في السفير تحت تصرفه. أعددنا البرنامج بشقيه الرسمي والشعبي، بالتعاون مع بعض الاخوة الفلسطينيين يتقدمهم الراحل الكبير رفعت النمر وقاسم عينا وجابر سليمان والزميل صفر ابو فخر.
جاء الوفد الاول حاشداً: فيه عدد من النواب (السيناتور) والقياديين والقياديات وممثلي وممثلات هيئات وجمعيات من المهتمين بقضايا الحريات والعدالة و الخضر . وكان عليّ أن أحضّر لمؤتمر صحافي في دار نقابة الصحافة، إضافة الى المواعيد مع الرسميين، في حين يتولى الاخوة الفلسطينيون أمر الاحتفال في مخيم صبرا حيث المقبرة الجماعية التي كان الاهمال قد حوّلها الى ما يشبه المزبلة، وزيارة بعض المخيمات… ثم أضيفت الى البرنامج بعد العام ألفين زيارة لمعتقل الخيام، ترتبه قيادة حزب الله الذي كان بعض ممثليه قد فازوا في الانتخابات البلدية فتولوا شؤون المقبرة باعتبارها تتبع عقارياً بلدية الغبيري.
صار لنا مواعيد سنوية مع ستيفانو كياريني الذي لا تستطيع مقاومة اقتحامه كصديق، والذي ينقل إليك عدوى النضال من أجل كرامة الإنسان. كل شهرين أو ثلاثة يأتينا الصوت الذي غدا أليفاً: أنا ستيفانو، كيف حالكم أيها الاصدقاء. سنكون معكم مع نهاية الاسبوع.
ويأتي ستيفانو كياريني لمناقشة برنامج الاحتفال السنوي التالي، فينتقل من اجتماع الى آخر، حتى يطمئن الى أدق التفاصيل، ثم يذهب ليعود ثانية قبل الاحتفال بشهر، وغالباً ما كان يسبق الوفود كي يكون في استقبالهم، فيسهر على تأمين راحتهم من ضمن الالتزام الدقيق بالبرنامج المعد: من يصحبنا الى لقاء الرؤساء الثلاثة؟ من يتحدث في المؤتمر الصحافي؟ من يتكلم في المهرجان الذي غدا تقليداً سنوياً في مقبرة الشهداء؟ من يتابع التوثيق للمذبحة التي ارتكبها جيش الاحتلال الاسرائيلي خلال اجتياح لبنان صيف العام ,1982 وبالتحديد على امتداد يومي 1415 أيلول، وبالتعاون مع بعض الميليشيات المتلطية تحت علم القوات اللبنانية وإن كانت اسرائيلية التسليح والتدريب والاوامر لتنفيذ الهدف المشترك.
صار ستيفانو كياريني صديقاً لشعب لبنان كله، وصديقاً للفلسطينيين في لبنان.
وصار وجوده معنا احتفالاً بروابط النضال من أجل الحق والحقيقة وكرامة الإنسان.
كان اللبنانيون عموماً، وغالبية الفلسطينيين (لا سيما الرسميين منهم) والعرب كافة، قد نسوا أو تناسوا بقرار ضمني مذابح صبرا وشاتيلا وضحاياها الذين تتجاوز أعدادهم ألفين وخمسمئة رجل وامرأة، طفل وعجوز، بينهم معوقون وعجزة.
لكن ستيفانو كياريني الذي لم يكن يعرف لبنان إلا في الصور السياحية، ولم يكن يعرف عن فلسطين إلا نضالها من أجل تحرير أرضها ليعود إليها إنسانها، لم ينس هذه الجريمة الوحشية بل جهد لإحياء ذكراها، وأشرك في جهده العديد من المنظمات والجمعيات الاوروبية، فكان وفده السنوي يضم ممثلين لها في فرنسا وبلجيكا واسبانيا وأقطار اخرى.
قبل أسبوعين جاءنا الخبر الصاعق: لقد توقف قلب ستيفانو كياريني.
تجمدت يدي على سماعة الهاتف، وتجمدت الكلمات في حلقي، وتجمد بصري على الحائط: الأحزان لا تأتي فرادى! إنه زمن الخسارة!
لا يفيد في شيء أن أحشد الكلمات في رثائه. أن أقول إن صورته بابتسامته الموحية بالثقة والعزم والاصرار لا تفارق ذهني. أن أدعي أنني تعلمت منه الكثير: بالارادة تستطيع أن تنجز ما يفوق قدراتك الذاتية. بالايمان بالإنسان تستطيع أن تعيد الايمان الى من فقدوا الايمان بأنفسهم. وإنني تعلمت أن قضية الإنسان واحدة. وأن من ينسى مذابح صبرا وشاتيلا لا يمكنه ادعاء الاخلاص في الالتزام بتحرير فلسطين أو بالالتزام بحماية لبنان من النفوذ الاجنبي.
ستيفانو كياريني: أنت تسكن في وجداننا. لقد قدمت لنا نموذجاً رائعاً للايمان بالإنسان. أيها الذي كنت تترك لعملك أن يتكلم، وتكتفي بتلك النظرات الحانية تظلل بها ضيوفك ومضيفيك، ثم تنصرف لتؤدي واجبك تجاه القضية التي آمنت بها بالقلم بعد اطمئنانك الى نجاح العمل.
سنفتقدك أيها الصديق الذي كاد يكون أخاً. وستبقى في ذاكرتنا نموذجاً فذاً لمناضل صلب بلا ادعاءات، يتقن العمل لا الخطابة، وسنتعلم منك كل يوم ألا نيأس وألا نلقي السلاح، مهما تعاظمت المصاعب لان الإنسان المؤمن بقضيته أقوى.
وداعاً يا رفيق السلاح بالكلمة والجهد والايمان بالإنسان.
إميلي نصر الله تكتشف ضيعتها في جزيرة تامايا
تشعرني الكاتبة المبدعة اميلي نصر الله بالتقصير، فلا تكاد تحتفي بإنجاز روائي جديد لها حتى تفاجئك بإنجاز جديد آخر، حتى لقد غدا بإمكانك أن تتجول في أرجاء مكتبتها التي تتعدد أصناف إنتاجها: الرواية، بداية، ثم القصص القصير، وسير المبدعات في فنون الكتابة، إضافة الى قصص الاطفال.
على أن هذه الروائية المميزة التي لا تعرف البطالة، والتي نذرت نفسها للكتابة، تقدم في نتاجها الاخير ما حدث في جزر تامايا جديداً: لكأنها محاولة في الاقتراب من الرواية البوليسية.
ويمكن اعتبار اميلي نصر الله بحق عاشقة للأرض وبسطاء الناس الذين يستمدون منها الهوية والقيمة، فهي كادت أن تجعل من قريتها الجنوبية الصغيرة اللاطية في حضن جبل الشيخ (أو حرمون) على تخم المثلث اللبناني السوري الفلسطيني، أسطورة إنسانية رائعة، اذ جعلت من أهلها، المعروفين والمنسيين، المقيمين والمهاجرين، الأموات منهم والاحياء أبطالاً لا يقربهم الموت بعدما خلّدهم قلمها المبدع.
لقد غزلت اميلي نصر الله من حكايات الضيعة روايات، وزرعت أولئك الريفيين البسطاء في وجدان قرائها الكثر. وتشعرك متابعة النتاج المميز لهذه المبدعة وكأنها هي من ولدت، أو انها أعادت خلق أبناء قريتها، وواكبتهم في مسارات حيواتهم مسجلة يومياتهم بقصص الحب والغيرة، بحكايات النجاح والفشل، مستعيدة مواكب الذين هاجروا في أوائل القرن الى حيث تأخذهم البوابير عبر البحار، هرباً من الفقر والظلم والموت جوعاً.
واميلي نصر الله تجيد الرسم بالقلم: فهي تجعل من الطبيعة بعض أبطالها، ثم إنها تتوغل في غابات المشاعر الإنسانية فتنقلها الى الورق حارة، بالحقد والكراهية فيها، بالحب والرغبة والشوق، بالانانية والحسد والغيرة، بالطمع ونزعة الاستئثار وإلغاء الآخرين.
ولكن، ولان اميلي نصر الله مرهفة المشاعر، فهي تعفّ عن التوغل داخل الشخصيات التي تتملكها النزعة الى السيطرة والى احتكار الثروة والنفوذ وإلغاء الآخرين، وتكتفي بأن تنبهك الى مساوئهم عن طريق التركيز على آثارها المدمرة للآخرين.
في الرواية الاخيرة التي أصدرتها اميلي ما حدث في جزيرة تامايا متابعة لبعض الذين هاجروا في اتجاه الولايات المتحدة الاميركية، فرمتهم مقاديرهم في بعض الجزر التائهة في المحيط الاطلسي، وإن كان الاستعمار البريطاني قد عثر عليها فاحتلها وأقام فيها الحكام، نواباً للملكة وأبقى أهلها عبيداً لسيطرته. وهي تقدم الصورة بوجهيها: في المهجر ثم بانعكاسها على القرية والاقارب فيها الذين كانوا يتلقون من أبنائهم المغتربين مع الدولارات الكثير من الحكايات والاساطير، بينها قصص حب جميلة، وقصص زواج بالمراسلة لم ينجح دائماً. والاخطر أن فيها وصفاً للتحولات التي أصابت العادات والتقاليد، وأثر المال فيها على السلوك الذي كان طبيعياً ثم استجد ما يفرض استصدار فتاوى التبرير للاعظم غنى والذي بغناه اشترى مكانة جديدة ونفوذاً عريضاً، ولو كان الثمن إسقاط بعض ما كان في حكم المقدس.
واضح أن اميلي نصر الله التي يصح أن توصف بالسندبادة لكثرة أسفارها بين العالمين القديم والجديد، ولتوغلها بعيداً بعيداً حتى الوصول الى أطراف القطب المتجمد الشمالي، لا تضيع لحظة من وقتها في الفرجة : بل هي تتصرف وكأنها مكلفة بأن تشرك الناس معها في ما تراه، وفي ما تعرفه، وفي ما تقرأه في الكتب أو في الطبيعة، أو خصوصاً في وجوه الناس كما في خبايا نفوسهم.
متى دور أفريقيا أيها النحلة التي لا تتعب من إنتاج العسل بشهده؟!
سلطان الليلة الواحدة!
لم تكن الاسماء تعني شيئاً، فلا يهم إن كانت حقيقية أم مستعارة. ولم تكن القيافة لتستوقف أحداً، فالجسد هو المهم. ولم تكن الاغاني بكلماتها هي المطلوبة بل اللحن الذي يتضمن قرعاً أعلى للطبول ويستدرج تصفيقاً سريعاً لتبرز الكفاءات الخفية للراقصات اللواتي لا يهزهنّ الطرب بل الدوي المنغم.
كانت متعجلة، تريد أن تفرغ من هذه المهمة بأسرع وقت لتنصرف الى مهمات اخرى لا تكف عن الرنين، فتهمس في هاتفها كلمات تتقصد أن تجعلها غير مفهومة… ربما بقصد استيلاد إثارة اخرى، خارج الجسد: الفضول.
ولم يكن في حال من النشوة تدفعه الى حسم خياره بسرعة تتناسب مع تعجلها، فسألها، كأنما ليكسر جدار الجليد عن بلدها فردت بكلمة واحدة. سألها عن مدة إقامتها الطارئة في البلد الذي جذبتها إليه أساطير الغنى السريع بمجهود محدود… فالرغبة تدر ذهباً، إذا واكبها الحظ… ولكنها كانت عازفة عن الثرثرة التي قد تضيّع عليها فرصة اخرى.
قال: سأدفع ثمن الوقت، فارتاحي.
لم تفهم تماماً، فشرح مقصده وقد تسلل الى كلماته شيء من الود.
بحثت في المسجل عن لحن راقص، ثم التفتت إليه تسأله: هل أستطيع أن أسكب لنفسي؟! وخجل عن تقصيره، ولكنها أعفته من واجب خدمتها. قالت: تعودت أن أخدم غيري، أفلا أستطيع أن أخدم ذاتي.
كانت زميلتها قد تكورت مثل قطة في حضن صديقه… فانفلتت الى الرقص. شدته ليراقصها فاعتذر. قالت: فهمت، تحبون أن تكونوا في مقاعد السلاطين ونحن الجواري… حسناً، كم تدفع ثمناً لي أيها السلطان؟ سأريك ما لم ترَ قط، وسأسمعك من الغناء ألحاناً شجية حتى أبكيك. لن أقبل تبرعك، ولكنني سأتقاضى ثمن وقتي ومتعة الفرجة. الآن يمكنك أن تسكب لي كأساً جديدة ما دمت غدوت سيدتك!
لا يدري ما الذي استفز الصديق، لكنه رآه ينهض مكفهر الوجه، ثم سمعه يصرخ بالجميع أن اخرجوا فوراً!.. أريد أن أنام!.. ثم انفجر يبكي بحرقة!
… وبعدما انصرفت الجاريتان ، لبث يهدئ صديقه حتى انبلج الفجر، فأخذه النعاس، وحين صحا قبيل الظهر خلع ثياب السلطان، ومضى يبحث عن رزقه.
أما الصديق فقرر أن يصير اليوم سلطاناً من حوله ألف جارية ليعوّض ليلة البكاء!
من أقوال نسمة
قال لي نسمة الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
الحب لا يعترف بالزمن. إنه شجرة وارفة الظلال بقدر ما تسمق فروعها ارتفاعاً تمتد جذورها عميقاً عميقاً فتصبح أوردة للقلب الذي ينبض اسم حبيبك بلا توقف.
هل تسمعني جيداً أيها الحبيب في علاك؟

Exit mobile version