طلال سلمان

هوامش

لولا محامي بعقلين لما عرفنا كل سعيد تقي الدين
لولا المحامي سليمان تقي الدين لظللنا نتعاطى مع المبدع الكبير المتعدد المواهب سعيد تقي الدين بالمفرق: مرة كأديب مجدد أضاف الى الكتابة فن الكاريكاتور فأعطانا جديدا، خصوصا أنه لم يستثن منه نفسه، ومرة كمغامر سياسي برغم ان عمله في السياسة (ومن قبل في التجارة) كان أقرب الى العمليات الاستشهادية حتى لا نقول الى المغامرة، اذ جاءها متأخرا فشهد الخواتيم من دون أن يعرف البدايات ومن دون أن يرافق انطلاق المسيرة وسباقها بتعثراتها وإخفاقاتها ونجاحاتها المحدودة.
… ولولا سعيد تقي الدين ما كنا عرفنا وجهاً جديداً لسليمان تقي الدين، اذ أضاف في هذا الكتاب المرجعي الى قلم المحامي وحضور المحاور إطلالة المؤرخ برغم ان موضوعه كان يفرض عليه، أو انه قد فرض على نفسه التوغل في بعض غير المعروف من داخل الطائفة الدرزية بتراتبياتها العائلية.
???
أستأذن في استدراك شخصي:
ربما لأنني وعيت على الدنيا في الشوف أحس إزاء هذه المنطقة الجميلة من جبل لبنان حنيناً طفولياً يزيد من توقده أن تلك السنوات التي كنت خلالها أفتح عيني على الحياة العامة، قد زودتني بمعرفة بعض الاسرار التكوينية لهذا النظام الفريد الذي تم ابتداعه خصيصاً للبلد الذي كان ولا يزال وأغلب الظن انه سيبقى حقل تجارب أو حلبة تنافس كثيراً ما استحال صراعاً بين الاقوياء من حوله.
لقد تكونت بدايات وعيي السياسي في تلك المنطقة التي تعج جنباتها بوقائع التحولات التي أسهمت في استيلاد الكيان اللبناني، الذي كان في نشأته الاولى جبليا وعلى قاعدة هذه الجبلية استكمل ما نعرفه اليوم في الجمهورية التي لا تكف عن الاضطراب.
بين رشميا المسيحية وبعقلين الدرزية ودير القمر المعبر بين الدينين والمختارة التي زعامتها للدروز ووجاهتها للمسيحيين المطمئنين الى ظل دار المختارة ، فهمت الكثير من المكونات والخصوصيات التي سأقرأ لاحقا فصولا إضافية عنها، لعل أدقها ما كتبه سليمان تقي الدين في كتابه الجديد الذي أصدرته مؤسسة التراث الدرزي لندن. المملكة المتحدة تحت عنوان سيرة الاديب سعيد تقي الدين .
بين ما فهمت مواقع العائلات بتراتبية الأنساب وعراقة الاصول، ثم بوجاهة الاقطاع ورضا السلطان.
وفهمت بعض أسرار التماثل الى حد التناقض فالاقتتال بين الدروز والمسيحيين في الجبل، من التعلق بالكيان وطلب استقلال الدوقيات أو الامارات ، الى العلاقات مع الأجانب الذين كثيرا ما كانوا محركاً للفتن تمهيداً لان يصيروا في ظلها حماة وحفظة للدين أو المذهب او.. للتراتبية الاجتماعية.
لكن ذلك بحث آخر يطول، فلنعد الى سليمان تقي الدين وكتابه الممتاز عن عمه وابن عمه سعيد تقي الدين.
ولأنني عشت بعض فتوّتي في بعقلين فلقد حفظت حبا لتلك البلدة الجميلة التي أعطى النقاش أهلها لقب الغنم لالتفافهم بعضهم حول البعض الآخر، كما أمضيت سنة دراسية فاشلة برعاية مدرّس من آل تقي الدين أصحاب المكانة المميزة، نسباً وعلماً ووجاهة في بعقلين .. لذا أطربتني القصيدة التي نظمها سليمان فيها معلقة على إحدى عشرة تلة تغطيها غابات الزيتون والصنوبر والسنديان، تتكئ على جبل الباروك وتستلقي بذراعيها على جاراتها دير القمر وبيت الدين وقرى المناصف وإقليم الخروب وتمد ساقيها عبر وادي الدامور الى البحر .
???
أعتذر عن هذا الاستدراك الطويل، عائداً الى سيرة الاديب سعيد تقي الدين .
لا بد من التنويه بداية بأن سليمان تقي الدين قد استطاع الحفاظ على رصانة الباحث المدقق مع انه من أهل البيت فروى تاريخ العائلة بما يليق به فلست بائع فحم ولا الموضوع بضاعة كاسدة .
لقد عرفنا كل سعيد تقي الدين، أخيرا، بموقع عائلته التنوخية، والتي هي فرع من آل عبد الله ولبيت منه هو بيت عبد الغفار، التي خرج منها رجال دنيا ورجال دين أبرزهم الشيخ زين الدين عبد الغفار صاحب المؤلفات الدينية التوحيدية.
وعرفنا تعصب سعيد تقي الدين لبعقلين التي لو كان علي أن أتقمص لما نزلت إلا في بعقلين دار مولد .
أما سعيد تقي الدين الذي عاش مغامراً بكل رصيد، عابثاً بكل عناصر السلطة بحثاً عن قضية فهو واحد من كوكبة من الاشقاء ندر أن اجتمع مثلهم في بيت واحد: نائب ووزير ومحام خطير (بهيج) وأديب ارستقراطي مبدع وسفير (خليل) ومؤرخ وإداري وصاحب ذراع قوية عند الاقتضاء (منير) وأستاذ جامعي متفوق في الرياضيات (بديع) وتاجر أديب (نديم).
يكتب سليمان عن سعيد تقي الدين بحب وعن سيرته بشغف، اذ بين القريبين علاقة أسرية ترسخت في ما بعد، لأنني مثله خرجت على تقاليد الولاء لكل ما هو سائد من أعراف… وبرغم تباين الافكار والعقائد بيننا فقد كانت القرابة بيننا أقوى من الآخرين .
الرحلة قصيرة والانجاز عظيم. فالعمل المسرحي الاول كتبه سعيد تقي الدين وهو طالب بعد في الجامعة الاميركية.. وكما بدأ من الهم القومي في السياسة، فهو قد ختم كتاباته عن الهم القومي، وان تعددت تلاوين الانتاج تعبيرا عن غزارة الموهبة.
وما من شك في أن سعيد تقي الدين هو واحد من أندر المبدعين في الكتابة الساخرة، وقد ابتدع شخصيات (شمدص جهجاه مثلا) وأفعالا (صرعز اشتتاقاً من صرح عزام باشا، وكان أمينا عاما للجامعة العربية) ومقولات ملخصة لمراحل (الثورة مؤنث ثور) و(الانقلاب ثورة فشلت)… وهو مقتحم في التجارة كما في السياسة كما في الادب ولذلك فقد ترك علامات على طريق الابداع أكثر مما ترك منهجاً.
ثم إنه بشخصه وبتحولاته الفكرية قد لخص الاضطراب الفكري الذي عاشه جيله بين لبنانية كونية وقومية عصبوية تستند الى جغرافية التاريخ في مرحلة معينة وبين عروبة انطلقت صوفية وسحقتها الدبابات التي حملت راياتها فجعلتها مجرد حنين الى ماض لن يعود أو الى أحلام لا تطاولها أيدي الذين ينسون أحلامهم متى دغدغتهم السلطة… ولو على حي في بيروت، أو في غزة، أو في بغداد، وكلها الآن طعم للنار.
ليست هذه الكلمات عن سعيد تقي الدين والكتاب الجديد الذي وضعه عنه سليمان تقي الدين فهو يحتاج الى غيري ينقده … ولكنها على هامش كل ما يعنيه الكتاب والمؤلفان والارض التي أنبتتهما، فعذراً لغياب ما كان مفروضاً أن يكون!
فؤاد مطر ينصف أقلام القادة التاريخيين!
خصب هو قلم فؤاد مطر، وغنية هي ملفاته وذاكرته، والاهم غناه بأصدقائه الذين كانوا لعصر كامل وثيقي الصلة والقرب من مركز القرار، وشركاء في صوغه، أحيانا.
لقد أنتج هذا الصحافي الذي لا يعرف البطالة مكتبة كاملة لا غنى عنها لأي مهتم بالشؤون العربية وبالذات في ذلك العصر الذي كان فيه العرب عرباً أسياد قرارهم، وليسوا مجرد ملحق بقوى الهيمنة يفعلون ما يطلب منهم، ولا يطلبون اذا ما طلبوا إلا إعانتهم على إخوتهم الاقربين.
بين صفات فؤاد مطر انه يدخل على السياسي صحافياً ويخرج من لدنه صديقاً.
على ان الاستاذ الاول والأخير يظل هو هو: محمد حسنين هيكل، لا سيما أيام كان بوابة مصر وكاتم أسرار دولتها الحاضنة، والمترجم الممتاز لأفكار قائدها العظيم جمال عبد الناصر.
إضافة الى مصر التي أنتج فؤاد مطر بعض أهم الكتب عن فترة النهوض ثم عن فترة الانتكاس فيها، فقد عرف جيداً ومن قرب الأخ معمر وثورته التي جعلت ليبيا الجماهيرية الوحيدة في الكون، وعرف أكثر مما يجب عن السودان ورجالاته وأحزابه والتحولات.
للقائد التاريخي قلم ينصفه هو العنوان الذي أعطاه فؤاد مطر لتحية الوفاء والتقدير التي اتخذت شكل كتاب يركز على دور القلم في قرار القائد التاريخي..
واذا كانت ظروف العمل الصحافي قد سمحت لفؤاد مطر أن يعرف هيكل في ذروة مجده على رأس الاهرام التي كان العرب يقرأون فيها ما يقرره جمال عبد الناصر، فتهتم له الدنيا، فإن الود الشخصي كان المدخل الى حرم الشيخ عبد العزيز التويجري، الذي عاش في ظل الملك الراحل عبد العزيز آل سعود، وهو يحقق الإنجاز التاريخي الباهر بتوحيد تلك القارة التي كانت مضيّعة في قلب شبه الجزيرة العربية، فصارت دولة كبرى تحمل اسم المملكة العربية السعودية.
لقد اقترب هيكل من جمال عبد الناصر بحيث بات يعرف أفكاره وأحلامه وطموحاته وخططه، وعاش معه لحظات الحزن والغضب والخيبة.
كذلك كان الشيخ عبد العزيز التويجري، قريباً من الملك عبد العزيز، رافقه في مسيرته الكبرى، وحفظ الكثير من أسراره، ونفذ الكثير من المهمات الدقيقة التي كلفه بها، وهو الذي تربى في كنفه فتى توسم فيه النباهة فرعاه حتى بات من رجال الملك والمملكة، نائباً لرئيس الحرس الوطني، وهو الموقع الذي حل فيه كبير أنجاله، عبد المحسن، بينما تبوأ رجل المهمات الدقيقة خالد منصب رئيس الديوان الملكي، مع الملك عبد الله بن عبد العزيز.
وكما كتب هيكل عن عبد الناصر فأنصفه، كتب الشيخ التويجري عن مرحلة تأسيس المملكة، بالسيف والدينار والدهاء السياسي والمعرفة الدقيقة بشؤون مجتمعه وأهله.
كتاب فؤاد مطر شهادة لوفائه، بقدر ما هي قراءة من بعد كاف لرؤية بعض صفحات تاريخنا العربي.
وردة قبل، وردة بعد
صعب أن تصف مجرى النهر وأنت محمول على مائه، يرتفع بك تياره فتتحسب لمنحنى الانحدار الآتي، ثم تهدأ صفحته فتصفو نفسك وتسبح أحلامك أمامك بمدى الذراع، لكن الريح التي تدنيك تبعدها.
في البدء كانت اللهفة لان تعرف المعروف، ولان تحاول الاضافة الى ما لا يضاف اليه إلا ادعاء، فالحكاية هي الحكاية وإن اختلف الثوب، والموسيقى هي الموسيقى وإن سبقت اللحن بنغم تفترضه ابتكاراً فإذا هو سطر في سفر عظيم، المتساقطون من هامشه أكثر عدداً من الثابتين في متنه يروون سيرة الخلق فلا هي تنتهي ولا هم يتعبون من حذف المتساقطين لتسهل الاضافة.
الحياة هي العيد. تعطيك بقدر ما تقدر أن تأخذ، وتأخذ منك كل ما تهمل أو ترجئ الافادة منه مفترضا أن الوقت لك وقبل أن تنتبه أن للوقت وقتا، وأنك إن ترددت بقيت خارجه وإن أنت تسرعت عبر بك من خارجك.
السنة تصير عمراً، والى العمر تضيف أعماراً، وها أنت معها الآن حاصل جمع أحد عشر كوكباً، فكيف تحتسب الكواكب بالساعات؟
ساذج من يحاول الاضافة الى نور الشمس ببضع شمعات يشعلها ليطفئها فرحاً بأنه قد ازداد في حين أن رصيده قد نقص.
العمر ما تحياه من حياتك. كثيرون مكثوا في الارض طويلا ثم انصرفوا من دون أن تلحظ الحياة عبورهم من قبلها الى ما بعدها.
ما سقط قد سقط، فخذ ما بقي. أمسكه بكلتا يديك. عضّ عليه بالنواجذ. ارشف من رحيقه بتمهل… وليكن عبورك رحلة بين نشوتين.
روضة الورد الصباحية تنام قبل موعد الوصول على الحد بين يومين، واحد أخذ ومضى والثاني أتى ليعطي فيضيف الى ما بعد الاربعين الاولى عطر الأماسي الماضيات في انتظار صباحات الزمن الآتي.
من أقوال نسمة
قال لي نسمة الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
حبي طائر النار وأنا الحديقة المعلقة، وقد عز التلاقي.
الشوق يحرق الرسائل، والفضاء لا يصلح موعداً ويستحيل العناق في المعبر بين طائرتين.
قد يكون الحب نعمة سماوية، ولكنه يحتاج الى الارض سريراً… والاحلام عاقر.
هل من يمنحنا مساحة ذراعين للارتطام؟

Exit mobile version