طلال سلمان

هوامش

حكايات من زمن الخوف في بيروت وعليها
? تنام بيروت وعينها مفتوحة .
هذه جملة نموذجية: الكلمات الصحيحة لا تؤدي بالضرورة المعنى الحقيقي.
في التفاصيل: تنام فعل يتعذر إنجازه هذه الأيام: ثم انه ينتج قاعدة منطقية من خارج المنطق. فالنوم عكس القلق، او انه التعبير المباشر عن غيابه او عن انعدامه. فمن لا ينام معناه انه قلق. والقلق ينبع من توقع السوء. والسوء واقع وبالتالي فالقلق نهر فوار تتدفق مياهه بلا توقف فتحتل البيوت والطرقات والشوارع وتركب المصاعد الى الطوابق العليا.
…وبيروت هي، في الأصل، مدينة لا تنام. فلقد تعود الناس من خارجها أن يأتوا إليها لأنهم متعبون من النوم. كانوا يقصدونها بذاتها لكي يرتاحوا من النوم فتجعل لياليهم أكثر حيوية وأكثر ضجيجاً وأكثر اشتعالاً من النهارات التي تمر ساعاتها متثاقلة فتزيد من تشوقهم الى الليل الذي يفتح العيون على مداها.
أما الناس الذين في داخلها فقد كانوا يتكومون في شوارعها الخلفية مهدودين بتعب نهارات الضجيج والبحث عن الرزق. يكتفون من مباهج العيش فيها بأن يسمعوا من زوار ليلها أحاديث الأنس والمتعة والرفاه الصاخب الذي لا يعرفونه. وإذا ما سمحت لهم إمكاناتهم المادية ان يطلوا عليه، في مواسم الأعياد او المكافآت غير المتوقعة، او لمناسبة قدوم قريب من بلاد النوم الطويل، فقد كانوا يكتفون بتجميع الحكايات عن المطربات اللواتي يرتدين عريهن من أجل الغناء، او المطربين الذين لا يحلقون ذقونهم حتى لا يذهب الطرب هباءً.
بيروت، اذن، مدينة لا تنام وإن نام معظم أهلها، فهي تساهر الآتين الى ليلها، وليلها زمن مفتوح. ولأنه مفتوح فقد بات بإمكان الفتية ان يجدوا فيها ركناً ضيقاً ليؤكدوا حضورهم: يحتشدون في زوايا معتمة ليمارسوا إنسانيتهم بطريقة كان يمكن ان توصف بأنها متوحشة لولا اختلاف المعايير والمقاييس وقواعد الأخلاق تبعاً لاختلاف الأزمنة.
اما ان تنام بيروت وعيونها مفتوحة فذلك حديث في السياسة.
? ? ?
? يتجول الليل في بيروت بلا قيود.
المصابيح مضاءة في الشوارع الفارغة من أهلها، لكنها لا تطرد أشباح الخوف. بل لعلها في بعض الحالات تتبدى كعيون للخوف… او كأنها تضخ الخوف، او تعلنه.
الشوارع الفارغة ميادين مفتوحة لأشباح الفتنة التي لا تكشفها المصابيح المبهرة بنورها البارد. والخوف يتكدس في البيوت، ويطل من النوافذ العالية فلا يرى إلا الفراغ، فيزداد الخوف خوفاً.
الآذان ترى الآن اكثر من العيون. يرهف كل إنسان سمعه، فإن ماءت قطة اطلق الخوف همهمة، وإن صفق الهواء باباً نسي العجوز ان يغلقه خلفه صرخ الخوف بألسنة المحتشدين في الغرفة الحصينة: من هناك؟
تتحلق الأسرة من حول الشاشات الصغيرة التي غدت الآن منابع للخوف، يتحدر منها رويداً رويداً فيشكل جداول تهدر في الصدور، حتى إذا فاضت بها، بدلت الأصابع المرتعشة قنوات التهديد فعثرت بقنوات الوعيد، ويكون الحل الوحيد ان يترك للاطفال ان يستمتعوا بأفلام الكارتون التي سرعان ما تذهب بالبقية الباقية من الطمأنينة بأصوات العراك او فنون المؤامرات والتواطؤ التي ينظمها بعض شخوصها ذات الاشكال الحيوانية والتصرفات اللاإنسانية ضد بعضهم البعض.
? ? ?
? تلتمع العيون خلف النوافذ المطلة على الشوارع الفارغة الا من اضواء المصابيح الباردة.
تحدق العيون من خلف الزجاج الذي يتحول، في الاذهان، الى مصدر اضافي للخطر، في فراغ الشوارع فلا ترى ما تتوهم انه كامن فيها. تعيد التحديق لعلها تكتشف مكامن الخوف او المنابع التي لا بد سيتفجر منها. الذين في الشرق ينظرون بكثير من التوجس ناحية الغرب، والذين في الشمال يتوقعونه قادماً من الجنوب، ثم ينتبه الجميع الى انهم يتقاسمون العمارة مع مصادر خوفهم فيخافون اكثر… وتبدأ المخيلات برسم مشاهد المواجهة التي لا بد واقعة، او بالتفتيش عن مخارج النجاة، او بابتداع الجمل المهدئة التي بوسعها ان تطيل الهدنة ريثما تصل النجدات!
ينتبه بعضهم الى ان الخطر داخل غرف النوم. بلحظة واحدة يتحول الصهر الى خصم ! تنهمر الأسئلة حتى تغطي على القلق: هل أخذنا على حين غرة؟! هل تسلل إلينا مستغلاً عواطفنا الطبيعية؟ ولكننا لم نعرفه خبيثاً، ولم نسمع عن أهله ما يسوء، فهل ترانا خُدعنا؟! لكن وضعه، هذه اللحظة، يوحي بأنه هو المخدوع، فنحن الأكثرية . لا بد ان ثمة سوء فهم. فلنعد التفكير بالمسألة لكن التفكير يحتاج إلى هدوء، فلنهدأ. كنا نتحدث عنه، حتى الأمس، بصيغة ابننا ، كيف صار خصمنا ، وهو هو لم تتبدل في رأسه شعرة، ولم نر منه ما يبرر ان ننقلب الى اصحاب دم نطلب الثأر منه… ولمن نثأر؟ وماذا سيتبدل لو اننا طردناه وأنكرنا صلة الرحم وربما آذيناه. هل ننهي حرب الثلث المعطل او الضامن او الوزير الملك ؟!
? ? ?
? تنام بيروت وعيونها مفتوحة… لكنها لا ترى!
…والحب في الجهة الاخرى من ضوء المصباح، فهل تجرؤ على اجتياز مساحة النور بقوة الشوق؟!
لو نطفئ هذه المصابيح لساعة حب!.
? ? ?
? كاد الخوف يقتلني. أمر كريه ان تموت وحيداً. حبي اعظم من خوفي، فلماذا اموت خوفاً من الخوف ولا اعيش حباً اقهر به الخوف. اكتشفت ان الخوف يخاف من الحب. حين خرجت الى الشارع المهجور اخذ الخوف يتراجع ويتراجع مدحوراً ويتلطى خلف جدران الصمت. طالعتني نظرات الناس في البداية وكأنني مخلوق غريب يهبط من كوكب آخر. عقدت الدهشة ألسنتهم.. بل لعلها فكت عقدة ألسنتهم التي كانت قد تجمدت، في حلوقهم كقطع من الخشب. سمعتهم في البداية يشهقون بدهشتهم. ثم تجرأ واحد منهم فخاطبني: يا مجنونة، الى أين؟!
ابتسمت. فقط ابتسمت، فإذا به يتحرك مقترباً مني… وإذا بالجمع يتحرك معه، حياني بعضهم بفخر. نظر إليّ آخرون بانكسار. قال احدهم: فلنرافقها! قلت: معي من يرافقني. شكراً! دبت الحياة فجأة في الجمع الذي كان صامتا في قلب العجز. ذهب بعضهم يساراً، ذهب بعضهم يمينا، عاد آخرون الى ما كانوا فيه وهم يودعونني بنظرات فيها من الغبطة اكثر مما فيها من الحسد.
? ? ?
? قالت بلهجة أهل الحكمة: الإنسان اذا ما فقد قلبه يصير وحشاً، انه يفقد مع قلبه عقله. اننا نستحق حياتنا بحبنا. الوحوش لا تقتتل عبثا. انها تعيش في الغابة معاً، ولها قانونها الذي يحمي ضعيفها من قويها. حتى للجوع قانون. بلادنا أسوأ من الغابات. لقد اختفى منها الحب فتحولت الى جحيم.
قال الزعيم : المسؤولية على من حولها الى جحيم.
قالت: لا نستطيع الانتصار بالحقد. أن تثأر اليمنى من اليسرى ليست عدالة. الحب وحده العدالة. بلا حب نفقد العدالة.
???
? بيروت تنام وعيونها مفتوحة…
وأنا أفتح عيني لأسمع القصائد التي يترنم بها حبيبي فيطرد أشباح الخوف ويلفني بدفء الحياة.
لو ملكت القدرة لوزعت من بحر حبي على الناس جميعاً ما يكفي لأن يخرجوا الى الشوارع الفارغة وقد احتضن كل خل خله. الحياة أجمل من ان نهدرها في الأحقاد.
???
? لمحت في زاوية من الشارع ام جاءت بابنها لتشتري له ثياب العيد. مشيت الى جانبها، لعل وجودي يطرد من عينيها بقايا الخوف… ودخلت معها الى الدكان، وشاركت في مساومة البائعة التي كانت تتعجل نهاية الدوام. وحين سألتها ان تقبل هدية بسيطة أقدمها الى طفلها التفتت إليّ وفي عينيها نظرة استغراب: شكراً، ولكنني اشتريت له ما أريد!
انحنيت على الطفل أقبله فعانقني… وتقطر عليّ خجل المرأة التي لا تعرف اسمي.
قلت: أردت ان أمارس انسانيتي. ليس لي أطفال، وأتمنى ان تقبلي هديتي. ليس أبهى من ابتسامة طفل، اسمحي لي ان أستعير من ابتسامته عيدي.
تنهدت المرأة عميقاً وردت معتذرة: قاتلهم الله! لقد حجروا قلوبنا بالخوف واحدنا من الآخر. شكراً لك، سيدتي، وليحفظك الله. العيد الناس…
قالت البائعة وقد استعادت هدوءها: سأبقى خارج الدوام. لعل أحداً قد تأخر في شراء الهدايا لأطفاله.
???
? بيروت تنام وعيونها مفتوحة…
والأعياد تأتي متواكبة فلا تجد من يستقبلها. الكل مشغول عنها بنقيضها.
لا هدايا للأطفال الناطقين بالضاد.
لا هدايا للشهداء. لقد منحونا حق الحياة وشرفها وبهجاتها ومضوا. يمر العيد فلا تلمحه العيون المفتوحة بالقلق… وحين يحاول الذهاب الى الأطفال نسد عليه الطريق اليهم. نخاف ان يفضحنا امامهم. ندعي انه قد ارجأ قدومه حتى تزال الالغام من طريقه… او نزعم انه قد منع من الدخول لأنه لا يحمل تأشيرة دخول.
لكن الاطفال هم عيون بيروت…
لكن بيروت هي الأم والحاضنة والراعية.
لكن بيروت التي انشأت الأهل تريد ان يأتي اليها أطفالها ليكونوا عيدها.
???
? بيروت هي ام قرانا، ام بلداتنا، أم مدننا. امنا، لن يأخذها منا احد. لن نجعلها تسهر قلقة على عمرانها ودورها. شوارعها من لحومنا ودمائنا. تاريخها من قصائدنا وإبداعاتنا وغنائها وهتافاتنا لها بالنصر. لقد اعطتنا اعمارنا واعطيناها اعمارنا، فكنا بها وكانت بنا. لم ترفض فقيرنا، ولم تقفل ابوابها بوجه ضعيفنا، ولم يساوم عليها اهلنا، ولم يعرضوها في سوق النخاسة. قاتلوا من اجلها، هي تسكنهم بقدر ما يسكنونها. انها هويتهم وهم من اصطنعوا لها الدور والرسالة.
ينبع العيد من بيروت فتوزعه على الضواحي والقرى والدساكر البعيدة.
لنشعل اضواء العيد لبيروت، فبيروت هي مصدر العيد. هي مدينة الفرح والشعر، مدينة الحرف والكلمة ذات الوهج. هي المدينة التي بحرها حب وجبلها بيوت العتابا، جنوبها الشعر والمقاومة وسهلها القمح وشمالها قلعة صمود في وجه الهجانة.
من أقوال نسمة
قال لي نسمة الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
حبي يصطنع لي الأعياد، على مدار الساعة. الف عيد يعطيني في اليوم. العيد حين أسمعه، والعيد حين يضمني، والعيد حين يهتف لي بشوقه، والعيد حين يبقى معي وهو غائب، والعيد وهو يعود مثقلاً بحبه الأغلى من كل الهدايا.
عش حبك، تكن حياتك عيداً دائماً.

Exit mobile version