طلال سلمان

هوامش

عراقي اسمه اموري الرماحي يموت ميتة طبيعية!
قال ماجد السمرائي وكلماته تقطر أسى: لم أشأ ان أغادر دون ان أقدم لك العزاء في اموري الرماحي…
لم يعد الموت الفردي في بغداد، بل في العراق كله، خبراً. لم يعد الحزن شخصيا، لأن المذبحة المفتوحة تحصد المئات يومياً، وتستنزف مشاعرك وترميك في بئر من تبلد الحس، ماؤه اليأس من كل مصادر الرجاء.
للوهلة الأولى افترضت ان ذلك الانسان الطيب، المؤمن حتى العظم، قد قدم حياته كشهادة على ان العراق أقوى من الفتنة، وان العراقيين لن يغتالوا غدهم، وان الاحتلال الاميركي الذي ورث الطغيان لن ينجح في جرهم الى الانتحار الجماعي.
لم تكن تشغلني الأسئلة: كيف وأين ومتى؟
كان قد سقط من الذهن ان العراقي، طفلاً كان او شيخاً، امرأة عجوزاً كانت أم طالبة، استاذا جامعيا كان أم خبيراً متميزاً في مجال علمي عالي المستوى، يمكن ان يموت لسبب طبيعي كالسكتة القلبية او لعلة او مرض خبيث.
لكأنما انقرض الموت الفردي في أرض الرافدين التي صارت مياه نهريها من دماء اهلها الفقراء، على غناها، المقتولين غدراً على شجاعتهم في المواجهة، المغتالين بسموم الفتنة على غنى تاريخهم بالدروس والعبر القاطعة في ان الفتنة هوة بلا قرار ان هي انفتحت ابتلعت الجميع بلا تمييز بين المذنب والضحية.
انتبه ماجد السمرائي الى انني ذهبت بعيداً مع تصوراتي لكيفية رحيل اموري الرماحي، فقال وقد رفع صوته قليلاً: لقد مات في منزله وبين أهله. غافلته نوبة قلبية فرحل بصمت ولم يتمكنوا من دفع المنية عنه.
استغربت غلبة شعوري بشيء من الارتياح على قلقي من تصوراتي عن كيفية رحيله: انه الموت لا القتل… لعل هذا اقل إيلاماً!
استذكرت كيف كان يطل علينا تسبقه طيبته، فيوزع علينا ابتساماته وتفاؤله بأن العراق لا بد سينتصر على الفتنة، وان العراقيين لا يمكن ان يقتتلوا لأسباب طائفية او مذهبية، فكيف يشتبك الصدر بالكتف، وكيف تفقأ العين العين، وكيف تطعن اليمنى يسراها وكيف يعطل البطين الايمن البطين الأيسر والقلب واحد؟!
في مرة جاءني ومعه ابنته زينب وقد حملت بعض من السما وأشرطة من تلك التي تلف حول بعض اضرحة المقدسين من الشهداء… وقالت عبر ابتسامتها المشرقة انها تريد ان تكون صحافية ما ان تنهي دراستها الجامعية.
وفي مرة أخرى جاءني بكتابات لأدباء وقصائد لشعراء وتحقيق عن رسامين مبدعين وقال بلهجة التوكيد: ان حركة الابداع في العراق لم تتوقف برغم محنة الاحتلال والفتنة التي يحاول زرعها بمعاونة الارهابيين متعددي الاصناف والأشكال والمصادر والهويات.
قال ماجد السمرائي: اريد ان اطمئنك الى ان العراقيين اقوى من الفتنة، برغم كل ما يدبر لهم. ما زالت العروة الوثقى تشد بعضهم الى بعض وتجمعهم لمواجهة الخطر الذي يتهددهم جميعا. كيف تفصل اليد عن الذراع، كيف تقطع ما بين الشفتين؟! اننا متداخلون، طائفياً، في بيوتنا وفي عائلاتنا وفي عشائرنا وفي مناطقنا بحيث ان نار الفتنة تصيب الجميع. كيف تطعن بيدك صدرك؟ كيف توقف التنفس عن انفك نكاية برأسك؟!
زادتني كلماته حزناً، فلم أكد أسمع ما قاله لي عن سامراء وعلاقة اهلها بمقام الإمامين علي الهادي وحسن العسكري، ومدى التشابك في النسب بين القبائل والمناطق، العشائر والعائلات.
كنت أبحث عبثا عن المرجعية ذات الهيبة والصدقية التي ان قالت: الأمر لي! صدع الجميع فأوقفوا الاندفاعة المجنونة الى الموت العبثي، وعادوا فالتقوا ليواجهوا الخطر في عينيه، وفي مصادره الفعلية.
الموت العادي لم يعد خبراً يا أموري الطيب.. لا سيما اذا كان موتا فرديا! مصرع العراق هو الخبر ايها الانسان الذي ظل يعطي من نفسه حتى نفدت.. فمات!
امتحان التخرج في الصف الابتدائي الرابع
اربكتني الدعوة بقدر ما اسعدتني: ان التقي تلامذة في سن كبرى حفيداتي (10 سنوات) لأحدثهم عن الصحافة، كمهنة، وعن تجربتي الشخصية فيها.
ضبطت نفسي غارقاً في التفكير، عشية الذهاب الى هذا الامتحان ، وفي الصباح ارتبكت وانا اختار ملابسي وربطة العنق، وكأنني في الطريق الى فحص هيئة او مباراة في الأناقة الرجالية.
استقبلتني كوكبة من المدرسات بود، وهدأن من روعي بالقول ان الامتحان لن يكون صعبا، وانهن طلبن من التلامذة الا يخرجوا عن موضوع الحوار .
تدفق الى القاعة الصغيرة نحو خمسين من الفتية والفتيات، ووجدت نفسي بعد لحظات في مواجهة مئة من العيون المشعة بالفضول والرغبة في التعرف الى هذا المخلوق الذي يقدم أحياناً وكأنه يعرف كل شيء عن كل الناس وعن كل الأحوال في بلده والمحيط، بل وفي العالم، او تنسب اليه أحيانا تهم التسبب في تشويه الحقائق او في تهييج الجمهور، او يطالب بأن يقرأ الغد وان يبتدع حلولاً للمشاكل المستعصية على الحل.
تطلعت الى الوجوه الندية، ثم هربت بنظري من الاسئلة التي تنطق بها العيون، والتي لا أجوبة لها عندي اذا ما كانت تتصل بالتطورات المحتملة للأوضاع في لبنان والى أين ستأخذنا.
سألوا فحكيت تجربتي مع المهنة وكيف تعلقت بها يافعاً، ربما بتحريض من استاذي الأول، السيد جعفر الأمين، الذي لفته في انشائي لغتي، فشجعني، ثم استاذي الثاني، فوزي عابد، وكان أول من توقع لي ان أنجح في الصحافة او في المحاماة، وأيضا بسبب براعتي في الإنشاء.
وسألوا فحكيت عن عشق اللغة، وعن الغنى الهائل في لغتنا الجميلة، عن رقتها وعن خصوبتها، عن سهولة الاشتقاق فيها، وعن مكامن الجمال، عن دقتها الشديدة اذا اردت الاختصار، وعن التدفق الهائل لمن اراد الاطناب في الوصف، حدثتهم عنها كلغة للحب والشعر والسحر والفن وكيف خلدت شعراء مكنتهم من ان يقولوا ما لا يقال، وكيف خدمت علماء وأطباء ومهندسين فأعطوا وأغنونا.
ثم سألوا عن تفاصيل المهنة: كيف نحصل على الأخبار؟ وهل ننشر كل ما نعرف؟ وكيف نميز بين الصح والغلط، بين الشائعة والواقعة…
ضحكوا طويلاً حين أخبرتهم كيف كنا ندور لنجمع أخبار الحوادث الأمنية من الاسعاف والاطفائية ومديرية الشرطة، وكيف انتقلت عملية الصف من الحروف التي تجمع باليد، الى الانترتيب، حتى وصلنا الى الكومبيوتر، وكيف باتت اخبار العالم جميعا تأتينا الآن ونحن في قاعة مكيفة، وكيف ساهم الأرشيف بداية، والانترنيت الآن، على وجه الخصوص في إغناء معلوماتنا لنتمكن من تقديم اضافة الى ما هو متداول، بما يسهل الاستنتاج وتقدير التداعيات.
ورويت لهم ما حدث حين طلبت، يوم جاء البابا يوحنا الثالث والعشرون الى لبنان، من بعض المحررين ان يحاولوا اغناء الخبر بما يمكن ان يفيدوه من خزين الانترنيت، وكيف جاء اليّ أحدهم ليخبرني مبهوراً ومن خلال ابتسامة معلقة على شفتيه انه وجد مئتي الف عنوان لموضوعات عن الفاتيكان والبابوية.
رويت لهم طرائف صادفتني فضحكوا طويلاً، واستعدت هدوئي… وكان الميزان حفيدتي روى التي تحاشت طوال الوقت ان تنظر إليّ او تتصرف معي كأني جدها ففازت في الامتحان الذي ما زلت انتظر نتائجه بقلق، برغم تطمينات المدرسات المتميزات اللواتي أحسست بأنهن قد نجحن في تقديم صورة نموذجية عن المعلمة التي فيها الكثير من الأم ، ولكن فيها ايضا الكثير من المثال او القدوة ، وفيها من الجدية حتى لا نقول من الصرامة القدر الكافي لكي ينتبه الفتيان والفتيات الى الواجب والى الوقت والأهم الى ما سيكون طريقهم الى غدهم.
حين ودعني التلامذة بتظاهرة التواقيع تلك، عدت مطمئنا الى انني لم أفشل في هذا الامتحان الصعب، والذي كان لمساعدة المدرسات فضلاً عظيماً على اجتيازه من دون علامة لاغية .
في مأدبة الشعر!
حين مد يده لمصافحة التعارف أمسكتْ بها واستوقفته طويلاً، في قلب حرجه، لتخبره عن محاولاتها الأدبية، ما نشر منها وما أهمله اولئك المتعسفون من المسؤولين عن صفحات الثقافة في الصحف .
حاول، أكثر من مرة، ان يلفتها الى ان بضعة من الضيوف، مثله، وقفوا تأدباً، للسلام، لكنها لم تكن مستعدة لأن تسمع، فأشار الى من سبقه الى هذا الكمين ان يتفضلوا بالجلوس ففعلوا، وظل واقفاً بينما أشارت الى رجل بالذات فتقدم وبيده ثلاثة كتب، بينها ديوان شعر، فأخذتها ثم أصرت عليه ان يقرأ الاهداءات، فهز رأسه قبل ان يرتمي على كرسي تركه له صاحبه، باشفاق ظاهر، لكنها احنت عليه بعد الجلوس تتابع بعينيها عينيه وهما تمران على السطور الطويلة لكل اهداء، فلما اطمأنت الى انه قرأها جميعا، وقفت لتقول: أخيرا وجدت من سينصفني! وجدت من يتذوق الأدب ويقدر المبدعين، كتابا وشعراء وروائيين.
دار بعينيه على الحشد الذي نجحت في جمعه من حول ادبها، فهمس له جاره الأيسر: الاحظت ما يشف عنه ثوبها الحرير؟!
غبَّ من كأسه، وقبل ان يرد سمع جاره الايمن يهمس له بحرقة: بثمن ما ترتديه من مجوهرات استطيع ان اصدر دواوين القدامى والمحدثين.
سمع طرقات على الطاولة فانتبه وانتبه القوم جميعاً، فاذا بمتأدبة تقف لتقرأ من صفحات عدة تقديماً للسيدة الأديبة… والتفت الى الباب فاذا هو مسدود بالمعجبين، وكلٌ صحنه في يمينه: لقد أحسنت اختيار اللحظة!
اما هو فلم يأكل.. لقد شبع شعراً، لكنه لا يتوصل لأن يهضمه.
من أقوال نسمة
قال لي نسمة الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
استطيع ان أميز المحبين من وجوههم. ان لهم ملامح منداة بالإقبال على الحياة. اما عيونهم فنهر من الموسيقى. يقولون ان قلب المحب في عينيه، لكنني اسمع نبضاته عن بعد.. اليس المحب للمحب قريباً! ادعو لك بأن تصيبك هذه العدوى كي أستطيع ان اقرأك في عينيك.

Exit mobile version