طلال سلمان

هوامش

بنت جبيل ترسمنا… بريشة مارون الراس
اندفعت بنا السيارة على الطريق التي باتت تحفظه عن ظهر قلب لكثرة ما درجت عليه: تعرف مواقع الحفر الناجمة عن القصف الاسرائيلي، وتعرف كيف تتخطى الجسور المنسوفة، وكيف تتوقف عند نقاط الجيش المستحدثة على امتداد المسافة بين البقاع الشمالي والجنوب مرورا بالبقاع الغربي.
المقصد: بنت جبيل. والحدث: معرض للرسام الكبير موسى طيبا.
بعد مقاهي الحاصباني مباشرة صارت الطريق رديئة بالحفر الناجمة عن الاهمال… اما بعد ابل السقي وعلى امتداد سهل الخيام الذي صار مقبرة لدبابات الميركافا الاسرائيلية فقد تحولت الطريق الى خنادق يتزاوج فيها الاهمال الرسمي مع نتائج القصف وآثار المعارك البطولية لدحر جيش الاحتلال.
لم تعد بوابة فاطمة معلما سياحيا، وان بقيت الاعلام الصفراء ل حزب الله تلف الدرب اليه، وترافقك في كفركلا والعديسة وحولا وعيثرون وعيناثا وترفرف فوق تلة الصمود في مارون الراس التي تحولت الى مقبرة للغزاة.
قصدنا ثانوية بنت جبيل التي خلدها انتصار الالفين، حين عقدت فيها الجلسة التاريخية للمجلس النيابي كإعلان نوايا من طرف الدولة بالاستعداد لحماية الصامدين في ارضهم، الذين حموا بدمائهم ارض الوطن ودولته.
عند المدخل بضع سيارات، ومن حول السور مجموعة من العمال يتابعون اعمال الترميم، وفي الذهن تضج اسئلة عديدة تتلخص في واحد كبير: هل اللحظة مناسبة؟ هل تبقى في بنت جبيل العدد الكافي من الناس الذين يعنيهم معرض لوحات فنية لرسام مهما كان كبيرا وعالمي المستوى؟ ام ترانا سنجد انفسنا، موسى طيبا ووزير الثقافة فائق الدماثة طارق متري وأنا وسط عدد قليل من الناس جاؤوا بدافع المجاملة او الفضول او بحكم واجباتهم الرسمية؟!
مع ولوجنا القاعة توالت المفاجآت السارة: استقبلتنا تلك الوجوه الناضحة بالطيبة وحرارة الترحيب والتي لا تعكس اي ادعاء بالبطولة او بامتياز الصمود. كان ثمة العشرات من الاهالي رجالا ونساء وقد ارتدوا البذلات وقد احتلت وجوههم ابتسامات وادعة. لا انتفاخ بأساطير التمايز عن الآخر، ولا أصوات خطابية تجعجع بتلك الكلمات التي يرشقنا بها السياسيون في بيروت. مدير الثانوية وأعضاء الهيئة التعليمية، رئيس البلدية وبعض وجوه البلدة، النائب على بزي الذي لم يدَّعِ لنفسه دور المضيف، الهيئة الثقافية، ومن يهتم بالفن، اما الكثرة فممن لا يقصرون بواجب الترحيب بالآتين الى بنت جبيل لتأكيد التضامن واعلان التقدير لأهلها الصامدين الصابرين.
بعض كلمات الترحيب التي تبدأ باعلان اننا هنا باقون، نقاوم، نقاتل، نضحي، ونبقى. يهدم العدو بيوتنا فنعيد تعميرها ونبقى. يقتل بعض ابنائنا فنشيعهم ويزيد اصرارنا على التمسك بأرضنا التي تعمدت مرارا بدمائنا، ونبقى.
تقدمنا موسى طيبا ليشرح لوحاته الخمسين التي انتجها في مدة قياسية وبأسلوب جديد مزج فيه بين الرسم والتصوير والوقائع اليومية فأعطى ما يشبه يوميات الحرب الاسرائيلية على لبنان، بوحشية العدو قاتل المدارس والمستشفيات وأصص الحبق والورد على شرفات البيوت الأقدم من وجوده العابر والباقية بعده.
توزع الناس يقرأون حكاياتهم في الجدارية الكبرى، ثم التفاصيل التي تناثرت في اللوحات التي غطت جدران القاعة الرئيسية للثانوية التي تحمل بعد اللوحة النحاسية التذكارية لانعقاد جلسة المجلس النيابي فيها احتفاء بعيد النصر.
كانوا يتطلعون الى اللوحات ثم يستكملون الحكاية بالتفاصيل التي لن ينسوها. كانوا كأنما يشاهدون وجوههم فيها، وملامح اولئك الذين غيبتهم وحشية العدو، وان ظلت ارواحهم ترفرف من حول المدرسة التي باتت شاهدا على النصر بقدر ما هي بتلامذتها الستمئة شاهد على هزيمة العدو الاسرائيلي.
تصور: ستمئة تلميذ في ثانوية بنت جبيل المهدم نصفها او يزيد، بعد أقل من ثلاثة شهور على الحرب التي أرادت منها اسرائيل ان تقضي على مستقبل لبنان وشعبه انطلاقا من جنوبه الذي هزمها بمقاومته مرة واثنتين وثلاثاً.
قبيل اختتام الحفل البسيط كما الناس، أمسك بيدي واحد من الاساتذة ليدلني على جناح خاص يحمل لوحة تشير الى انه مركز دراسات وتوثيق، وقال بلهجة فخر: انه يضاهي المركز العربي للمعلومات توأم السفير .
اصر أهالي بنت جبيل على دعوتنا الى الغداء، وتنادوا: الى مطعم التحرير!
في الطريق كانت مارون الراس بمئذنتها المشروخة بالقذائف، تنتصب شامخة كحارس للأرض والتاريخ. قال صديقي: انها حادي النصر. ان الوديان تردد اصداء أهازيج النصر.
في الطريق الى المطعم كان علينا ان نتخطى ركام ما هدمه العدو من بيوت ومحلات تجارية ومؤسسات… وان نلتفت في اتجاه سوق الخميس الذي يحاول ان يستعيد حياته وان يستعيد معه بعض ألق مدينة الشعراء التي تقرأ الآن في كتاب صمودها.
اما في المطعم الذي ما زال قائما باسمه فلقد تناولنا اشهى الطعام.. وكانت الخدمة ممتازة، لأن الحفاوة كانت صادقة. كنا في بيتنا.
حوار بين حياتين، خلف الندم!
التقيا على غير موعد خارج الزمان، في مكان خارج الدنيا. لم تكن تعرف عنه شيئا، ولم يكن يعني لها إلا انه وقع في طريقها بالمصادفة. ولم يكن يعرف عنها شيئا، وان استفزت حشريته اللبنانية التي كونت له دائرة معارف خاصة طالما تباهى بها بين زملائه وأصدقائه بل وعموم المصريين .
لم تكن بها رغبة في الحديث، ولم يكن قادرا على ضبط حشريته. سأل فابتسمت، وحين ألح في السؤال اكتفت بهزات من رأسها بعضها يعني نعم وبعضها يعني لا .. حتى اذا استذكر بعض الأسماء اكتشفت ان ثمة مشتركا بينهما من المعارف و الصداقات .
طال بهما الانتظار، فجرت الألسنة بكلمات التبرم، ثم بأسئلته المجاملة، ثم بالرغبة في التعارف، بدءا بالسؤال عن العائلة وظروف المغادرة ، وكانت بقوة المصادفات متشابهة.
قال إنه يمضي الى مصيره راضيا مرضيا، فهو قد عاش حياته بهدوء. لم يعترض مرة مع ان لا شيء تم حسب المبتغى.
قالت في سرها: من أين جاءني هذا المخبول؟
ثم سألته: هل نلت ما أردت من حياتك؟
قال: لا، ولكني احمد الله على أنني عشت بكرامتي. صحيح أنني لم أعترض مرة على ظلم، او خطأ ارتكب بحقي، ولم أرفض وظيفة او عملا مع أنني كنت استحق أفضل.
صاحت به: ولماذا لم تعترض، ولماذا لم ترفض؟ لماذا لم ترفع صوتك في وجوه من ظلموك؟ لماذا لم تنقذ نفسك وتوصلها الى ما تستحق؟
قال بصوته الذي ازداد خفوتا: لم أقصّر يوما تجاه أسرتي وأصدقائي وقد غفرت لكل من أساء إليّ. لم اجن ثروة كزملائي الذين استغلوا مواقعهم.
لم تكن قادرة على ان تطيق الاستماع اكثر فصرخت: يا أبله، جئت الى الدنيا وغادرتها كما جئت! وتفاخر بأنك غفرت، ولم تجن ثروة، ولم تقصّر.. أأنت غبي فعلا أم تتغابى حتى لا يكون حسابك شديدا؟ من يحاسب من أيها المعاق.
بوغت بلهجتها لكنه أكمل كمن يعترف: لم أتقرب الى زعيم او نافذ وكان بمقدوري ذلك.. لقد اخترت نفسي، وهكذا وصلت الى سن التقاعد ودخلي بالكاد يكفيني.
لطمته على كتفيه وهي تكاد تولول: كفى أيها الدرويش! انصرف عني! تكاد تفسد عليّ صورة الحياة كما أراها وكما عشتها..
أصر على اكمال اعترافه فقال: وإنني أحمد الله دائما على الصحة والعافية.
قالت وقد هدأ روعها: اسمع أيها المخبول. لقد غادرت الحياة كما جئتها. ما قيمة حياتك التي لم تعشها؟!
نظر اليها وقد صدمته لهجتها، فأكملت:
انت عبء على الحياة! انت عار على الحياة، أيها الجبان.
الحياة ان نعيشها، باليوم، بالساعة، بالدقيقة. الحياة نهر من الملذات يجري الينا ونجري فيه، نغب حتى نرتوي ولن نرتوي!
توقفت للحظة عن الكلام، حدقت فيه بازدراء، ثم سألته بما يشبه التحقيق:
كم امرأة عرفت أيها الذي ترتدي زي الرجال؟! كم عشيقة نمت معها؟! كم فتاة أغويتها فقبلت دعوتك فأخذتها وعلمتها ما تعرف من لذائذ الحياة؟ كم كأسا كنت تشرب في اليوم؟! أراهن انك لم تذق غير الماء.. تفاخر بأنك لم تجن ثروة! ما قيمة الانسان بلا مال؟ تتباهى بأنك عملت بدأب طوال أربعين سنة لغيرك… ولكن أينك من الحياة أيها الذي لم يعرف الحياة!
حاول مقاطعتها فأسكتته بحركة من يدها لتضيف:
أما أنا فقد شربت ما يوازي خزين السد العالي، وعرفت من الرجال بعدد شعر رأسي، أيها الأصلع. سافرت واستمتعت بالبحر والجبل وما بينهما. جربت من الرجال القوي الهادر والضعيف الخائر. سهرت حتى ضجر مني الليل. وثملت حتى تعب مني السكر. ولطالما رجعت مع الفجر محمولة على أكتاف الرجال.
قال: ولكننا معا الآن، لا بد من خطأ ما..
قالت: بالتأكيد هناك خطأ. كنت أحسبك رجلا، ولم تنظر إلي كامرأة.
قال: فقدت الإحساس بالفرق..
قالت: أما أنا فسأرميك عند أول رجل يصادفني. أنت تضجرني. أنت تنقص إحساسي بأنوثتي. أنت لم تعرف الحياة وأنا أعطيتها نفسي فأعطتني كل ما أرغب فيه. لقد تخليت عما تقدس، الأسرة، الأولاد، البيت الدافئ، لأعيش أيامي بلياليها، كما أرغب وكما أتمنى وكما يلذ لي. واذا ما غادرت فلن أندم على شيء.
قال: وأنا لست بنادم على شيء..
ردت بسرعة: أنا نادمة على أنني صرفت كل هذا الوقت مع من عبر الحياة ولم يعرفها.

من أقوال نسمة
قال لي نسمة الذي لم تعرف له مهنة الا الحب:
أعرف حبيبي من رنين الهاتف. أرفع السماعة فأسمع نبضات قلبه شعراً وموسيقى. وحين يباشر الكلام تتزايد صفحات الديوان الذي لا يقرأه غيري.
وحين تنتهي المكالمة تتفتح كل ورود الأرض في مدى النظر، وتترنم البلابل بكلمة: حبيبي.

Exit mobile version