طلال سلمان

هوامش

الحرب ضد الذاكرة.. الحرب ضد الغد!
متعبة هي الذاكرة، بل متعب هو التاريخ. وفي بلادنا المنهكة بيومياتها الدامية يفضل الناس ان يعطلوا ذاكرتهم وان ينسوا التاريخ.. بل ان ثمة من يتمنى ان يهمله التاريخ فلا يأتي على ذكره ويبقيه نسيا منسياً.
لكن للتاريخ حراسه، وللذاكرة حفظتها، و المنتدى القومي العربي انشئ أصلا لمثل هذا الغرض، وهو يقوم بهذه المهمة بدأب.. مستفز!
ما لنا ولوعد بلفور؟
من يحمل الماضي الثقيل على ظهره الواهن قد يعجز عن الوصول الى باب المستقبل.. لا سيما اذا كان الماضي عناوين لهزائم ما زلنا نعيش تفاصيلها حتى الساعة.
ثم.. كيف تُحاسَب اجيال نُشّئت على احتقار تاريخها، هربا من ذكريات الهزائم في مراحل معينة منه، على نتائج تلك الهزائم التي باتت حقائق حياتها اليوم؟!
فوعد بلفور، على سبيل المثال لا الحصر، لا يمكن فصله عن معاهدة سايكس بيكو التي قسّم فيها الاستعمار القديم منطقتنا العربية هذه بين طرفيه المنتصرين في الحرب العالمية الاولى على الامبراطورية العثمانية (الاستعمار الأقدم)… وكل ما حدث ان الامبريالية الاميركية (وهي الاستعمار الجديد) قد ورثت الجميع، بما في ذلك فلسطين التي استبدل سكانها وهويتها واسمها ودورها ووظيفتها فصارت اسرائيل …
ثم ما لنا ولذكرى العدوان الثلاثي على مصر، نستعيدها بعد خمسين عاما حافلة بالخيبات والمواجع والهزائم وكلها يلغي بهجة الحياة ويمد فوقنا ليل التحسر والهرب من الواقع والتنكر للهوية. ومذبحة كفر قاسم؟! انها تفصيل بسيط؟ ماذا ان يقتل الهاغاناه الاسرائيلية خمسين فلسطينيا قبل خمسين عاما؟ المذبحة مستمرة والشهداء لا يحصون وهم يسقطون كل يوم… والذاكرة مفتوحة، وهي تكاد تمتلئ حتى حافتها بدمائنا، فأين الفاصل بين الماضي والمستقبل؟
لكن المنتدى القومي العربي يصر على اعادة تجميع اصحاب الذاكرة، ويصر ان يعيد هؤلاء المناضلون القدامى على مسامع الناس، وان يستعيدوا معهم وقائع تلك الأيام التي لا يجوز ان تنسى، لانها بداية لا نستطيع ان نهرب من نتائجها التي ستطاردنا عبر ابنائنا وأحفادنا. فالهرب لا يعني الا ان نستدر لعنة الاجيال اللاحقة على السابقين الذين اضافوا الى تقصيرهم جناية تزوير التاريخ: ازالوا عن وجه العدو ملامحه الوحشية وعن سيفه دماءنا، فشاركوه جريمته…
لقد بدّل الاسرائيلي اسم فلسطين، ونحن نمحو آثار جريمته كلما سمينا فلسطين اسرائيل، من دون ان نذكر بانها ارض محتلة، وبأن الاحتلال ليس دولة شرعية هي بين المكونات الاصلية لمنطقتنا. بل ان وجودها قد ألغى الهوية الجامعة لمنطقتنا العربية، فصار سهلا اطلاق التسمية الهجينة عليها: الشرق الأوسط! وصار سهلا على الامبريالية الاميركية ان تسميها مرة الشرق الأوسط الكبير ومرة اخرى الشرق الأوسط الجديد ، وفي المفاضلة بين هذين الشرقين المنسوبين الى الجغرافيا تضيع الهوية العربية لهذه الارض وناسها. انت شرق اوسطي والاسرائيلي شرق اوسطي. وكذلك التركي والايراني… ولا فضل لشرق اوسطي على شرق اوسطي آخر الا… بالقوة. وللأقوى السيادة، وليس لك الا النسيان.
اياك ان تنسى. النسيان موت. النسيان الغاء للذات. لماذا يحب العرب الغاء انفسهم قبل ان يأتيهم الموت!
الحزن البعلبكي في القلعة المحاصرة
وعيت الدنيا وبعلبك في مدى نظري، أرى طيفها من العلية في بيت جدي، في الصباحات الندية وقد غطاها ضباب خفيف بل قل انه الى السراب أقرب، فيجعلها كتلة من الخضرة المكمدة، ومن خلفها تتدرج التلال ارتفاعاً حتى تغدو جبلاً أصلع الرأس إلا في الليالي القمرية فيبدو متلفعا بكوفية من لجين.
وعندما قصدتها أول مرة، كتلميذ في رحلة مدرسية، وقعت في تلك الفجوة الهائلة بين حنيني اليها نتيجة ما كنا نتعلمه عنها، كواحدة من عجائب الدنيا السبع، وما أسمعه من الناس الذين يتباهون باتخاذ اسمها هوية، ثم بين واقعها الذي أشعرني بشيء من المهانة: لقد انتبهت الى ان إهمالها قرار كبير يتضمن ازدراء لكل البعلبكيين سواء أكانوا من أهلها المباشرين أم من أهالي محيطها الذين ينسبون أنفسهم اليها.. فضلاً عن أن هذا القرار الكبير هو بعض من الجهد المبذول لتزوير التاريخ.
مرت الأيام فغدوت فتى، وازدادت بعلبك كهولة. وقبل أن ابلغ سن الرجولة كانت بعلبك قد شاخت، برغم المهرجانات التي تجري في قلعتها كل صيف، والتي تتوقف عند بابها فلا تدخلها ولا تؤثر فيها ولا تبدل في واقع أهلها. فلا الحفلة المجانية التي تقدم كرشوة يمكن أن تشكل علاقة جدية بما تحمله المهرجانات من أفكار وفنون وجماليات وأعمال إبداعية لا سيما في مجال المسرح، خصوصاً وأن القسم الأكبر من الإبداعات يقدم بلغات أجنبية وللنخبة من النخبة من اللبنانيين الذين لا يتقنون اللغة العربية.
…ثم جاء زمن الحروب. واستبيحت بعلبك مراراً وتكراراً، وتقلب عليها الوافدون فبدلوا فيها، حتى انكمش أهلها في أحيائهم العتيقة وكانوا ينكرون ما طرأ عليها او استجد فيها مما لا علاقة له لا بماضيهم ولا بأحلام ناسها حول مستقبلهم المطموح اليه فيها، وهي هي منطلقه وإطاره ومهجع الحلم بالتغيير.
حوصرت القلعة… وتم التضييق عليها وان استعصت على السقوط!
اقتلعت الأشجار حتى كاد يندثر مشمش بعلبك ، وهوجمت المدينة بقلبها وأطرافها بالبناء العشوائي، وتحول المنتزه الطبيعي الجميل في رأس العين الى مساحة للحزن.
ظل السوق هو السوق برغم تبدل الزمان والسكان والعادات والتقاليد.
فصلت القلعة عن المدينة تماماً، وعوملت كأنها لاجئة سياسية الى مدينة ليس أهلها أهلها.
صارت القلعة أهم من المدينة، حجرها أهم من البشر، مسارحها أهم من ساحاتها وبيوتها بالرجال والنساء والأطفال… لكن بعلبك ظلت عالماً آخر غير القلعة. لتذهب القلعة الى من تستهويه الآثار، أما المدينة العاجزة عن التقدم الى الغد فكانت تتراجع القهقرى الى افتقاد الهوية: لا هي في الماضي ولا هي في المستقبل، وحاضرها هجانة تخلط التبر بالتبن والتراب بالزجاج الملون، وتتهاوى الأشجار المثقلة بعلاقتها الحميمة بالأرض وناسها لكي توسع الطريق.. الى الهجانة.
…وحين عرفت مازن الرفاعي انبثقت أمامي روح بعلبك التي لا تشيخ ولا تعرف اليأس.
كنت قد تعلمت الفرح من أبي يحيى وأبي مصطفى وأبي ماجد وسائر الشباب من آل صلح الذين يوزعون من أرواحهم ما يجعلك تحب حياتك أكثر، ثم يصحبونك في رحلة الى النشوة ويعلمونك انك لا تحتاج الى المال لكي تحب في أرضك ذاتك والناس جميعاً، وانك تجعل الحياة جميلة بحبك للحياة وبحبك للناس، وان الفرح ينبع من داخلك فلا يستورد ولا يستعار… وان تراثك ليس الأمس ولكنه ركيزة إبداعك غداً، في الغناء او الكتابة او الدبكة والرقص او الموسيقى وصولاً الى الرسم والنحت.
تجاوزت لقب مازن الرفاعي العلمي وأنا المح طيف الشاعر في عينيه الغائمتين، ثم تبين لي ان قصائده لوحات وان موسيقاه الألوان، حتى اذا جاءني بهذا الديوان اكتشفت ان الرسام يكتب شعراً وان الشاعر فيه يرسم بالكلمة واللون.
وحين عرفته أكثر وبدأنا رحلة الصداقة انتبهت الى أن حزنه البعلبكي عميق عميق، وان خطوطه بالأبيض والأسود أعجز من ان تلخصه او تختصره، وان مدينته التي تكاد في واقعها الراهن تنكره وتفرض عليه أن ينكرها في حين ان قلبه ممتلئ بها وكذا عيناه ووجدانه وريشته التي تحاول جاهدة ان تقولها في كل لمسة.
في الليل الأبيض / يستدير القمر ويبدأ من جديد/ يرسم على الجدران أشكالاً لم أعرفها.
الشمس أضحت أقل حزناً. أخاف على نهاري من ذاكرتي. لم أعد أذكر ضوء القمر..
إنها بعلبك الضوء والظل معاً، الليالي القمرية وبيوت الطين والحارات الضيقة وأشجار البساتين .
إنها بعلبك سأسقي من عروقي سنابل قمحي، وسأستظل من شمس خريفي صباحات شتائي
إنها بعلبك الحارة التي في ذاكرتي كالمرأة التي ارسمها. البيت الذي ارسمه ليس لي ولكنني احفظ ملامحه .
إنها بعلبك، ولكنها قد اختلفت عليه، وهو ما زال مصّراً على صورتها الأولى دعيني ألبسك من ثيابي، من خطوط رغبتي، من ذكرياتي .
إنها بعلبك كم إله مارس عبادته عندك .
إنها بعلبك التي يستخرجها مازن الرفاعي من ذاكرته فيعيد بناءها ويحاول ان يقيم فيها فلا يستطيع.
بعلبك ليست القلعة.
بعلبك هي الناس الذين بنوا القلعة وماتوا تحت حجارتها ثم بعثوا مجدداً ليجدوا أنهم قد باتوا غرباء في مدينة غريبة عنهم.
أما القلعة فهي الشاهد والشهيد.
(?) مقدمة لكتاب بعلبك.. بالأبيض والأسود
حكاية/ الخوف من أبي نوّاس!
انطرحت على الكنبة العريضة بعباءتها البيضاء فتبدت وكأنها عروس تستعجل زفافها ونبرة الفرح في كلماتها تقربها من الزغاريد.
أشارت اليه ان يجلس الى جانبها، بينما دعت صديقتيها الى الجلوس من حولهما، عن اليمين والشمال، وكأنهما وصيفتا الشرف.
قماش الكنبة احمر قان، اما الستائر فكانت بنفسجية، وفي الركن المقابل شاشة لبرامج غنائية خاصة واضح انها اختارتها بنفسها لكي يكتمل بها الجو .
نظرت في عينيه تستقرئ وعده القديم الغامض في حين كان يسبح في حيرته بين مشهد الغواية وأسوار الامتناع… واكتمل الالتباس حين قالت بكثير من الحرارة: خذ راحتك، تصرف وكأنك في بيتك تماماً!
قالت احدى الصديقتين بخبث مكشوف: هل تدعينه الى الدخول ام الى الخروج؟!
قالت الوصيفة الثانية من دون تخابث: اعتبرنا جميعا نساءك.. ولن نتصرف كالضرائر!
قرأت على وجهه شيئا من خيبة التوقع فتوغلت في ايلامه: اعرف انك تحب صديقتيّ هاتين فدعوتهما لوحدهما ليشاركانا هذه السهرة الحميمة..
قبل ان يجيب رفعت صوت التسجيل وغمزت لاحدى الوصيفتين فقامت تملأ الكؤوس، بينما انهمكت الاخرى في توسيع دائرة الرقص..
قال في نفسه: كن هارون الرشيد لليلة..
وقال في نفسه: اياك ان تكون أبا نواس..
عبثاً حاول الدخول في الجو … وتساءل عن السبب، ثم قرر ان المشكلة في عدم التوازن في الألوان: ابيض على احمر!
قالت وهي تودعه: خفت ان استقبلك لوحدي، فقررت ان اخيفك، ثم خفت من فكرة الخوف فاستعنت بصديقتيّ كي يحمياك مني.. الحب من خلف الأسوار…
وحين صار خارج الفندق فوجئ بأبي نواس يهتف به من داخله:
اياك ان تأتي على ذكري وأنت تروي خيبتك لغيري!
من أقوال نسمة
قال لي نسمة الذي لم تعرف له مهنة الا الحب:
يهلكني حبيبي حين يغنيني. ان في كل انسان ميلاً الى حب الذات… وانت تحب ذاتك في حبيبك، فكيف اذا حملك حبيبك على جناح النشوة وأدخلك قلوب الآخرين؟!
اعظم الحب ان يزرعك حبيبك خارج ارضه فيزيد شركاءه فيك… ويزيد ثروتك من الحب.

Exit mobile version