طلال سلمان

هوامش

أبطال التاريخ في سوق النخاسة
في بلاد الله تحترم الشعوب تاريخها بمراحله المختلفة، بما فيه من انتصارات وهزائم وانتكاسات، وتحفظ رجالاتها والنساء، ابطال المقاومة والصمود في مراحل السقوط تحت هيمنة الاستعمار، وتحفظ معهم علماءها وشعراءها وكتابها الكبار ممن انجزوا ما يفيد الانسان في تقدمه وفي صياغة وجدانه.
وفي بلاد الله يتهيب الحكام، مهما كانوا جبابرة، ان يقدموا على طمس من سبقهم فأنجز لبلاده واعطى شعبه ما يمليه عليه واجبه الوطني في مجالات التحرر والتقدم ومجابهة مشكلات التخلف ومقاومة الهيمنة الاجنبية وصولا الى بناء الدولة.
وفي بلاد الله يُعتبر الاعتداء على الذاكرة الوطنية جريمة، وكذلك الاعتداء على التراث بتشويهه ومسخه، عبر تحقير من اعطى او اضاف فأغنى وجدان الناس ومكّن لاعتزازهم بأنفسهم وبأرضهم وربطهم بجذورهم.
اما في بلادنا فقد حول تجار التسطيح الثقافي عبر التلفزيون خاصة والسينما الى حد ما، والروايات التي تتخذ من الماضي وابطاله موضوعها التاريخ الى مستودع بلا صاحب وبلا ابواب، يمدون ايديهم اليه فيغرفون منه، ما شاءوا من احداث، فيحولونها الى مهازل ومساخر تستفز كل من يشاهدها على الشاشة الصغيرة (او الكبيرة) او يقرأها في كتاب حُرر على عجل وبقصد الافادة من مناسبة عزيزة على الناس او من ذكرى تعتبر نقطة تحول في سياق تقدمهم الى التعرف الى ذاتهم والى قدراتهم في مواجهة الاجنبي، محتلا كان ام مهيمنا بتفوقه.
كل عام، وفي شهر رمضان على وجه التحديد، يمد كتاب المسلسلات ايديهم الى التاريخ فيغرفون منه مَن شاءوا من ابطاله ليحولوه الى مجرد ممثل ثانوي او كومبارس في سياق قصة غرامية تافهة بين مطرب ناشئ مثلا وراقصة معروفة.
لقد رمى هؤلاء التجار الأميون غالبا، ابطال التاريخ في سوق النخاسة، يستدعون منهم من ارادوا فيمسخونهم ويشوهون ذاكرة الناس، ويحقرون ما هو مضيء في وجدانهم، من دون ان يشعروا بالذنب، وبالطبع من دون ان يحاسبهم أحد… فمن هو المسؤول عن حماية التاريخ؟
على سبيل المثال لا الحصر: فقد لمحت لقطات، في فترات متقطعة، من مسلسلين مصريين، يقدم الاول سيرة حياة مطرب كبير راحل ويتصدى الثاني لتقديم قصة مأساة ممثلة ممتازة راحلة.
ولقد فاجأني حشد الشخصيات والاحداث التاريخية في كل من المسلسلين اللذين ينتقلان من السيرة الشخصية الى الحديث عن فترة محددة من تاريخ مصر الحديث تمتد من اواخر العهد الملكي حتى زمننا الحاضر: فلقد عبر المسلسل كل من كبار عصر فاروق، ومجلس قيادة الثورة (23 يوليو) برئيسه واعضائه جميعا، وقيادة الاخوان المسلمين مع الانشقاقات التي حدثت فيها، والخلاف مع الشيوعيين، وقيام دولة الوحدة، وسقوطها، والتأميمات وتوزيع اراضي الاقطاعيين على الفلاحين… الخ، فضلا عن العدوان الثلاثي على مصر وعشرات الاحداث التي صنعت التاريخ المعاصر لمنطقتنا جميعا، من المحيط الى الخليج.
كل ذلك في ثلاثين حلقة، مدة الواحدة منها (مع الاعلانات التي تستهلك نصف الوقت) حوالى الساعة، اي في أقل من 15 ساعة تتضمن اكثر من عشر أغان، وكذا قصة حب بما تستلزمه من غيرة ومن تفجرات للزيجات بالطلاق، ومن استذكار لقصص حب مطوية.
لم تستكمل أي واقعة مداها التاريخي، ولم تتوفر للمشاهد فرصة ان يعرف حقيقة ما جرى في زمن غير بعيد، ثم انه ما زال يفعل في أيامه الحاضرة. لم يعرف المشاهد عمن قام بدور جمال عبد الناصر إلا انه يدخن كثيرا ويشرك زوجته في الشؤون المصيرية وينشرح بنفاق انور السادات ويتعبه نقاشه مع عبد الحكيم عامر. ولم يعرف هذا المشاهد عن الصراع داخل الاخوان المسلمين غير ان حسن البنا قد اعترض على الاغتيالات السياسية التي مرت كجملة معترضة. اما الافكار، واما المبادئ، واما دلالات الاحداث في سياقها التاريخي، واما تأثير ذلك كله على مسيرة هذه الامة نحو امانيها، فأمور لا تعني مسخري كل المقدسات لغرضهم في الربح السريع!
اما الشخصيات الثقافية والفنية فقد مرت مهزوزة، تثير السخرية اكثر مما تثير الضحك، ولا تبرر حضورها بما يصدر عنها. وبالتأكيد، فإن احدا لم يعرف، من خلال المسلسل، اهمية الادوار التي لعبها كل من الراحلين الكبار كامل الشناوي وصلاح جاهين ومصطفى امين، فضلا عن ام كلثوم ومحمد عبد الوهاب وكمال الطويل، في صناعة وجدان جيل او جيلين ممن عاصرهم او تربى على ما ابدعوه.
لا تهيب للتاريخ، لا احترام لذاكرة الناس، لا خوف من مجافاة الحقيقة، لا وجل من مسخ الشخصيات الذين لعبوا ادوارا تأسيسية في مراحل التحول.
لا بحث جدياً في النفوس ولا دقة في الوقائع، وقفز بل إحراق لمراحل كاملة تركت بصماتها على سياق التطور في هذه المنطقة من العالم.
من يجيز مثل هذه الاعمال التي تحكمها نزعة الربح التجاري ولو على حساب تشويه وجدان الناس، ومسخ من يسكن ذاكرتهم من الشخصيات التي ساهمت في صنع قيمهم وترسيخ مفاهيمهم الوطنية وذوقهم الفني؟!
من يعيد الكرامة الى الشاعر والموسيقار والمطربة الكبيرة بعدما شوهتهم الصورة التي قدمت لهم وعنهم من اجل ثلاثين من الفضة؟
الأخطر: كيف لذاكرة مثقوبة كالتي تتسبب فيها المواقف السياسية المفرطة والاعمال الفنية الهابطة ان تتصدى لمهمة في صعوبة غد التقدم والعدالة الاجتماعية والتحرر من الهيمنة الاجنبية؟!
أما في مجال المسلسلات الدينية فحدث ولا حرج عن تزوير الوقائع ومسخ الشخصيات ذات الادوار المجيدة في تاريخنا!
من يحمي ذاكرتنا من التشوه؟
وكيف لمن لا يحترم ماضيه ان يحب بلاده في حاضرها؟ وان يعمل بكل جهده من اجل غده الافضل فيها؟
وكيف لمن لا يجد في ايام آبائه ما يستحق الاحترام ان يحظى باحترام الآخرين؟
لقد شبت اجيال في العديد من الاقطار العربية من دون ان تعرف شيئا عمن كان في سدة الحاكم قبل حاكمها الابدي القائم بالأمر اليوم، ودربت على ان تعتبر ان التاريخ يبدأ بالجالس فوق السدة الآن، وانها مهددة بأن تنتهي حياتها معه.
في بلاد الله يرون الماضي في صورة غدهم.
اما في بلادنا فيريدوننا ان نعيش اليوم على حساب الماضي فكيف يكون لنا مستقبل؟ واذا كان الماضي بلا حارس يحميه من التشوه، والحاضر يعيد صياغته الحاكم على مقاسه، فمن أين سيولد غدنا ونحن لا أحد ؟!

حكاية / رجال في سوق الحريم
قال وهو ينفخ بتأفف:
النساء! صارت البنت تولد امرأة! انظر في الشارع، كل الفتيات، حتى تلميذات المدارس، يلبسن ويتصرفن كأنهن نساء! لقد انتهى عصر البراءة. مات الغزل. سقط الشعر واللحن الشجي. كم كان واهما ذلك الذي تحدث عن نظرة فابتسامة فسلام فكلام فموعد فلقاء في افياء تذكر بالجنة.
لم أعلق، فعاد يقول، وهو يشير الى سرب من الفتيات يعبرن من أمامنا: انظر اليهن بأزيائهن الجديدة التي تكشف معظم البطن وأعلى الصدر وثلاثة ارباع الساقين! او فانظر الى الازياء الجديدة التي تتشكل من ثلاث طبقات كي تؤكد الاشارة الى المواقع المحرقة في جسد المرأة.
قلت محاولا التخفيف عنه: ولكنك بمنأى عن هذا كله، فلا بنات لديك، وامرأتك تلتزم بما نشأت عليه.
قال بحنق ظاهر: ولكن، في وجهنا عينان والعين تنقل الى الدماغ والدماغ يحرك كوامن الحس… فأين اذهب بعيني؟ انهن في حال أشد اغراء من ان يكن عاريات. ثم ان المباراة مفتوحة بين صغيرات السن والهرمات. اتحداك ان تعرف سن امرأة من خلال ازيائها، او ملامح وجهها الاصلية المموهة بوسائل التجميل الحديثة، خصوصا بعدما اضيفت اليها وسائل الشد ، واضفاء سماكة مصطنعة على الشفاه، وتثبيت حواجب مرسومة، وتقويم الانوف، فضلا عن الوسائل الاخرى المتصلة بسائر انحاء الجسد.
لم أعلق فختم بما اعتبره حكمة خالدة: كان البعض، في الماضي، يعتبر المرأة سلعة… الآن، صار الرجال هم السلعة!

حكاية/ نجمة الإنشاد الديني!
حين أوصلها الى مدخل الزاروب الذي يقع منزلها فيه، تساءل في سره: كيف لموهبة مثلها ان تنحشر في هذه المساحة الضيقة التي لا تتسع لصوتها ولا لقلمها ولا لشوقها الى التمتع بحياتها؟
قال في نفسه: سأنتشلها واطلقها نجمة تحتل مساحة في سماء الثقافة والفن.
كان صدى اغانيها الشجية يتردد في وجدانه. بعد حين اقترب منه صاحب المتجر الذي على الزاوية ليقول له: من حضرتك؟ ومن تنتظر؟
ارتبك ورد بتسرع: نحن زملاء نعمل في مكان واحد.
قال صاحب المتجر وهو يتأمله مليا: يفضل الا توصلها بنفسك، فاهلها محافظون، ولا يقبلون علاقة ابنتهم بأي غريب.
هز رأسه متفهما ، وانطلق بسيارته وهو يمسح حبيبات العرق التي تجمعت من حول عينيه. وعاد يقول، بصوت عال هذه المرة: مع ذلك، سأجعلها نجمة، وسأنقلها من هذا الحي التعيس.
في اليوم التالي لاحظ انها لم تقبل عليه، بلهفة، كعادتها، بل اكتفت بسلام بارد… وتقدم يسألها: هل خفت منه؟!
قالت: ألم تجد غير جارنا تتحدث امامه عن النجوم؟
ارتبك. ترى، هل سمعه صاحب المتجر يحدث نفسه، أم تراه قرأ أفكاره؟
بعد لحظات سمعها تتمتم: ألم يلفتك المكان الى طبيعة سكانه؟! لقد حرموني من الغناء. قالوا انه حرام! ولكنهم سمحوا لي بأن أنشد في المناسبات الدينية. اذهب بآرائك الى الجحيم، حيث يمكنك ان تسمع أمتع الغناء.

من أقوال نسمة
قال لي نسمة الذي لم تعرف له مهنة الا الحب:
يعطيني حبيبي من نفسه ما يجعلني استمتع بحياتي.
انه يشركني في احلامه… ولست اجد ما اكافئه به الا ان أجعله حلمي الابهى. فحبيبي هو الحلم الوحيد الذي ألمسه وأشمه وأضمه في الحضور وفي الغياب.

Exit mobile version