طلال سلمان

هوامش

خسرنا الماضي ولم يربح أبناؤنا المستقبل؟!
هل صار زمننا الجميل خلفنا فعلاً، وصارت أيامنا حقولاً من الرماد بعدما التهم الحريق أحلام شبابنا والأمنيات؟
هل علينا أن نقنع بهزيمتنا الشاملة، ونقبع في بيوتنا مستكينين، نتفرج على الآخرين يصنعون لنا أيامنا الآتية، بينما الحسرة تغلّف ماضينا الذي كنا فيه نتوهم بل نفترض أن أيادينا قادرة على أن تطال المستقبل فتشكله وفق أمنياتنا؟
نحن نشفق على أبنائنا من زمانهم الآتي، وهم يشفقون علينا من ذكرياتنا كما من إحساسنا بالذنب تجاههم. نلوم أنفسنا على أننا لم نترك لهم أياماً للفرح… لم نترك لهم إلا حطام آمالنا ومآسي هزائمنا والخيبات ومرارة العجز عن المواجهة… وها هم يسبحون في بحر من الدماء كيفما التفتوا. تضيق عليهم بلادهم التي افترضنا أننا قد استعدناها من الاجنبي، فيلحقون بآمالهم وأحلامهم الى البلاد التي يقاتلنا نظامها الشرس ونقاتله. يصبح المشهد ذروة المأساة: هم هناك، لا يعودون أبناءنا، بل تخطفهم منا البلاد التي تعطيهم مع فرصة العمل الزهو بأنهم مواطنون لهم حقوقهم التي تحفظ لهم إنسانيتهم.
إذا كان قد اهتز فينا اليقين، فكيف يمكن أن نقنعهم بما بات يعتبر بعض الماضي الذي يعيش فينا، ويفرض منطقه على رؤيتنا للحاضر… كيف نسحب رؤانا التي نكاد نعتذر عنها على مستقبلهم؟!
ولكن… هل كل ما نؤمن به ونعمل له كان مسلسلاً من الاخطاء لا أثر للصح فيه؟ هذا غير معقول، فضلاً عن انه غير منصف!
العيب فينا إذاً لا في مبادئنا. قضيتنا محقة، لكن دفاعنا هزيل، وغالباً ما يجيء من خارج المنطق. نخلط بين عواطفنا وبين مقتضيات واقعنا… نركّب منطقاً مرتجلاً لتمويه تعصبنا الذي يستبطن كراهية الآخرين ، والاجانب على وجه التحديد، فإذا ما اصطدم هذا المنطق المرتجل بحقائق الحياة انهار فانهرنا معه واندفعنا نحو نقيضه… وهكذا ترانا نتذبذب بين الشيء وعكسه فلا نستقر على يقين!
? ? ?
قال لي صديق كنت أصنفه دائما بين الحكماء: جيلنا السابق أعطانا الكثير… أعطانا اللغة، ونحن اليوم نرطن بهجانة مستفزة، وأعطانا الثقافة بما هي غنى للوجدان. أعطانا إحياء التراث. أعطانا كوكبة من العلماء. أعطانا ثورة في الموسيقى والغناء، فصارت لنا موسيقانا وأنماط غنائنا التي لا تقطع مع الماضي حتى وهي تمد جسراً مع الذوق العام في الحاضر وفي المستقبل. أعطانا المسرح، كتّاباً وممثلين وممثلات ومخرجين متميزين. أعطانا السينما بنجومها الذين وفروا لنا ساعات من المتعة في صحبة هذا الفن الجميل.
أضاف الصديق وهو يتنهد بحرقة: كلما قارنت ما أعطاه جيل الآباء مع ما أعطاه جيلنا أشعر بالغصة. لقد قصرنا فلم نكمل، بل اننا قد أضعنا الكثير مما أورثونا. كانوا دعاة توحيد، بالوجدان قبل السياسة، وبالثقافة بفروعها المختلفة التي تشمل الفنون ووجوه الابداع، وكانوا مشدودين الى أرضهم يطمحون الى زرعها بالعمران… أما جيلنا فماذا يترك لأبنائه؟ كوابيس الحرب الاهلية؟ الشقاق.. الفتن. الامية، الجهل بالذات وبالعدو. انعدام الذوق الفني نتيجة الالتحاق بالآخر، بذريعة أنه الاكثر تقدماً… ولكنه الآخر، ليس نحن، ليس منا ولسنا منه. له ثقافته وبيئته وذوقه الخاص، ولنا ما يخصنا من ذلك كله. طبعاً هناك المشترك مما يمكن اعتباره تراثاً إنسانياً عاماً لكل شعب منه نصيب.
توقف صديقي قليلاً وغرق وغرقت معه في موجة سوداء من التصورات، قبل أن ينبهني صوته برنة الحزن فيه من جديد: من بعد عبد الوهاب؟ من بعد أم كلثوم؟ من بعد فريد الاطرش وأسمهان؟ ليلى مراد ونجاة الصغيرة؟ محمد فوزي وصباح؟ من بعد السنباطي والقصبجي وزكريا أحمد؟ وفي الادب، رواية أو مسرحاً أو قصة قصيرة؟ من بعد جيل الآباء المؤسسين والرواد الذين جعلوا ثقافتنا تستحق نوبل، وإن كانت كتب إبداعهم الأقل بيعاً. لم يحظ أي منهم بأن توزع روايته مليون نسخة على جمهور افتراضي من القراء يعد حوالى ثلاثمئة مليون عربي. أما الآن فإن كتّاب هذه الايام يجوعون إن قرروا العيش على عائد نتاجهم الادبي. أية مقدمة برامج تلفزيونية تجني في شهر أكثر مما يحصلون في سنة بل سنوات.
أضاف صديقي المثقل بهمّ المستقبل:
ثم من للغتنا الجميلة؟ يندر أن تجد كاتباً لا يلحن.
ضحك ثم أضاف: عليك أن تفسر لأبنائك ماذا تعني كلمة يلحن ليس فقط لأنهم جميعا يلحنون ، بل لأنهم لا يعرفون لغتهم، لم يتعرفوا الى جمالياتها وغناها ورقة لفظها وشفافية المعاني في كلماتها، إلا نادراً. إنهم يستخدمون من بحرها الزاخر بضع مئات من الكلمات التقريرية الجامدة، الناشفة، كلغة مقدمي نشرات الاخبار في التلفزيون حيث تسود العاميات التي تفصل بين شعوب اللغة الواحدة، والتي مع مرور الزمن ستصبح لغات لا أصل لها ولا قواعد، ولا مرجع يضبط السياق أو المعنى.

رحيل ابتسامات الأطفال..
محزن رحيل مانح الابتسامات للآخرين.
والحزن على فؤاد المهندس، كما على عبد المنعم مدبولي الذي سبقه الى دار البقاء قبل فترة وجيزة، تقرأه في عيون الاطفال الذين غدوا الآن رجالاً ولكنهم ما زالوا يتذكرون هذين الفنانين اللذين وفّرا لهم المتعة، وجعلاهم ينقلبون على ظهورهم ضحكاً وهم يتابعون مسرحياتهما أو مسلسلاتهما الطريفة على شاشة التلفزيون، غالباً، أو على المسرح، إذا كان قد تيسر لهم أن يحضروا بعض أعمالهما الكوميدية.
لعل بين المآخذ على هذين النجمين اللذين احترفا توزيع الفرح على الآخرين أن النصوص التي قدماها لم تكن دائماً ذات مستوى لائق… لكن هذا لا يضيرهما كفنانين، بل هو يؤكد فيهما الموهبة، فلو كانت النصوص ممتازة لوفرت عليهما الجهود التي طالما بذلاها لتعويض الركاكة في النص بإضافات من حركاتهما وملامحهما. لقد مثّلا أحيانا كثيرة بجسديهما.
نخسر مزيداً من الابتسامات، بينما نتوغل في عالم الركاكة وأخبار الصراعات والمماحكات التي تغرقنا في بحر من همومنا اليومية بلا ضفاف.

حكاية عاشق المواعيد
تمطى متثائباً وهو يفرك يديه بشيء من البهجة: يا له من منتقم جبار!
قال في نفسه: لينتظرنني! لطالما انتظرت حتى القهر أن ترتبط معي أي أنثى بموعد. كانت محاولاتي تنتهي دائماً بواحد من تلك الاجوبة التي لا تعني إلا الرفض المهذب، من نوع سأحاول، وإذا ما نجحت في ترتيب وقتي سأتصل بك! ، أو لا أحب أن نظهر معاً في مكان عام… وليس من أرض للقائك إلا الأمكنة العامة.. لنتركها للزمن وحسن تدبيرك ! أما الجواب الأمّر فقد تلقاه ممن أخطأ في تقدير رأيها فيه، إذ ردت بشراسة: وهل لديك قدرة على العشق… العشق مكلف يا دلوع أمك !.
جالت في ذهنه صور متخيلة للمنتظرات: الاولى في مقهى، والثانية في غرفة في فندق والثالثة في بيت لصديقة مشتركة تتقن دور جامع الرؤوس بالحلال!
أخذته نوبة من الضحك قطعها رنين الهاتف.. تردد في رفع السماعة. لا بد أنها واحدة منهن تستعجله أو تريد التأكد من أنه في الطريق. اضطرب قليلاً. فكر. مد يده في اتجاه السماعة ثم أوقفها فظلت معلقة في الهواء: بماذا سيعتذر؟ ليؤجل الاعتذار الى الغد. سيدّعي أن طارئاً قد أخذه بعيداً! أو سيتصل بعد وقت ليقول إن عارضاً صحياً قد أصابه فعطله… أو ربما كان الأفضل أن يتذرع برب عمله الذي فرض عليه مهمة مستحيلة.
قام يتمشى: انه بهذا سيخسر النساء الثلاث معاً… اذاً عليه أن يختار إحداهن فيلبي موعدها، ويهيئ اعتذاراً للأخريات. الى من يذهب؟
ركب سيارته واتخذ اتجاهاً. وغلبه التفكير فتجاوز الفندق والمقهى، وعندها اتخذ القرار الحاسم: سيذهب الى منزل جامعة الرؤوس…
على بعد مئة متر من العمارة المقصد رآها خارجة بوجه أزرق، تردد: هل يتوجه نحوها؟! هل يندفع بأقصى سرعة حتى لا تتعرف إليه؟ هل يتوقف حتى تصل إليه فيترجل ليتقدم منها معتذراً؟!
وفاجأ نفسه حين استدار بالسيارة هارباً لكي يمتع نفسه بقدرته على تلويع النساء اللواتي طالما تسلين به.

تهويمات
قالت تعاتبه: تسحبني إليك اللهفة فتستقبلني وكأنني تلميذة في الابتدائي. متى تتفضل عليّ بنقلي الى الثانوي؟! ومتى أتخرج من جامعة تحفظك الثلجية؟!
صمتت قليلاً ثم أضافت بلهجة التحدي: لن أدعك تهزمني، سأشعل فيك ناري حتى الاحتراق. لم أتعود الإخفاق…
وقام يهدئها.. قال: وأنا لم أتعود النجاح، فاهدئي، ولنعد معاً الى الروضة ..
? ? ?
قال وهو يراها تنثر قبلاتها على الكثير من الرجال الذين استقبلوها في ما يشبه التظاهرة: هلا أبقيت لي ما يرويني؟
قالت: أنا النهر… إذا رغبت في السباحة سيغمرك فيضاني، أما إذا وقفت على الشاطئ، فلن ينالك مني إلا البلل!

من أقوال نسمة
قال لي نسمة الذي لا تعرف له مهنة إلا الحب:
بعد كل لقاء أكتشف أنني لم أقل لحبيبي ما كنت أحب أن يسمعه مني، فأعدّ نفسي للقاء الجديد وحين ألقاه أنسى ما أعددت من الكلام، فأكتفي بنشوة أن أسمعه… ولكنه يقول إنني ثرثارة، حيث أردد كلمة أحبك حتى ينسى كل ما أعده من كلام!

Exit mobile version