طلال سلمان

هوامش

الصورة تستحضر الصورة… على طريق فلسطين!
لا يطويه الغياب مهما طال. تشحب صورته في ليل الهزيمة حتى لتحسب انه أخيراً قد سقط من الذاكرة واستقر في كتب التاريخ ومذكرات رجال المرحلة التي دمغها بطابعه، سواء أكانوا من خصومه الكثر أم من صحبته القليلة أم من المجتهدين في اعادة تفسير ما جرى في ضوء النتائج والتداعيات التي تصطنع الحاضر وتؤشر الى المستقبل.
أما متى لاح الأمل بنصر ما، في اية مواجهة مع العدو ذاته، فإن طيفه يطل فيظلل المجاهدين ويغدو الحادي والدليل.
ومع وقائع الصمود العظيم لرجال المقاومة الميامين في الحرب الاسرائيلية على لبنان انبثقت صورته من قلب استعادة الثقة بالنفس وعودة الروح الى الأمنيات الهاجعة في صدور المفجوعين بامتداد ليل الهزيمة ساجياً فوق أشتات هذه الأمة الممزقة ديارها، المشتتة قواها، المتهالكة قياداتها على عتبة أبواب الاستسلام.
لم تكن مصادفة ان ترتفع صور جمال عبد الناصر مع صور السيد حسن نصر الله في مواكب المحتفين بالصمود الذي يأخذ الى النصر، في صحن الجامع الأزهر في قاهرة المعز بداية، ثم تنتشر الصورتان متلازمتين متكاملتين في معظم ارجاء الوطن الكبير، الذي استعاد قضيته فلسطين، واستعاد هويته، العربية، في لحظة المواجهة مع العدو الذي أذل الأمة نتيجة تهالك قياداتها ذات العروش وهرولتهم الى الهزيمة يطلبونها قبل ان يحاربوا، ويوقعون على شروطها قبل ان تكتب بدماء شعوبهم، وبالذات دماء شعب فلسطين وقضيتها التي كانت، ذات يوم، مقدسة.
كأن الجمهور الذي رفض ان يقبل من جمال عبد الناصر وله الهزيمة، وقد كان الوعد بالنصر، ما زال يحتفظ له بدور ما في اي نصر، وتحديداً في اي معركة ضد العدو الاسرائيلي.
لكأن هذا الجمهور الذي يرى في ما جرى في 5 حزيران 1967 هزيمة لم يكن يستحقها، وانها وقعت له بسبب تغييبه عن الحرب وحصرها بالعسكر الذي كان قائده الفاسد مصدراً لهزائم متكررة قبل حرب الأيام الستة وأُبقي في موقع القرار، وبالتالي فهو قد أصرّ على بقاء عبد الناصر في موقعه ليكفر عن اخطاء نظامه وليثبت صحة ظن الناس بأنه رهينته أكثر مما هو صاحبه… بل لعله قد استبقاه ليقتل به نظامه الرديء الذي كان يستقوي على شعبه في حين يسقط في مواجهة العدو مع الطلقة الأولى.
او كأن هذا الجمهور ما زال يؤمن بأن جيش عبد الناصر هو الذي كان في طريقه الى النصر في حرب 1973 في حين ان بقايا نظامه (ممّن عجز عن استئصالهم او استبقاهم بوصفهم هامشيين…) هي التي تسببت في وأد هذا النصر قبل اكتماله،
لا ينسب النصر إلا الى القادر عليه، اي الشعب متى توفرت له القيادة المؤهلة، وضحايا الهزيمة دائماً يفوقون قرابين النصر بما لا يُقاس. والشعب جاهز دائماً لدفع ضريبة الدم من اجل تحرير الأرض كما من اجل تحرير الارادة، ولطالما دفع من دمه كلفة باهظة لهزائم كان يمكن تفاديها.
وللنصر، عربياً، ميدان واحد: مواجهة اسرائيل كعدو… وفلسطين هي الهدف الأسمى حتى لو لم تذكر في البيانات الرسمية، او في البلاغات العسكرية عن سير المعارك. واية مواجهة ناجحة مع اسرائيل تعني الاقتراب من تحرير فلسطين الذي كان هدفاً في مدى القدرة، ثم صار أمنية، قبل ان يعود ليستقر في مهجع الأحلام.
والإنجاز الاخطر للمقاومة في لبنان انها اعادت فلسطين الى دائرة القرار، فأحرجت من يحاول ان يطويها فيقزمها في سلطة رهينة للاحتلال وشعب يقسمه اليأس على نفسه فينشغل بصراعات عبثية عنها، بينما عدوه يثبت احتلاله بتذويب الأرض بتجريفها وبناء المستوطنات واستكمال جدار الفصل العنصري الأول في شمال الضفة بجدار فصل ثانٍ يصادر به غور الاردن.
الربط واضح، والتسلسل منطقي: تقاتل الاحتلال الاسرائيلي فتنبثق في الوجدان صورة البطل الذي سقط في ميدان تحرير فلسطين، بعدما وجد لزاماً عليه ان يقاتل نظامه البوليسي اولاً لكي يعرف الطريق إليها.
…وعلى الطريق الى فلسطين، ولو بالتمني، يرفع الجمهور العربي صورة السيد حسن نصر الله، ومعها صورة جمال عبد الناصر، اذ يرى انه قد مات دونها.
كان لبنان، بجنوبه أساساً، أرض المعركة التي مدها العدو الاسرائيلي الى مختلف انحاء لبنان بغارات التدمير التي استهدفت فيه الإنسان وأسباب العمران…
لكن الناس رأوا فيها خطوة في اتجاه فلسطين…
وأكثر من فهم المعنى والدلالة هو شعب فلسطين بمجاهديه المطاردين حتى الاغتيال من الجو، ونسائه المترملات قبل نهاية ما يسمى في بلاد الآخرين شهر العسل ، وأطفاله الذين صار اليتم رفيق طفولتهم…
لذلك لم يكن غريباً ذلك المشهد النادر الذي توالى عرضه علينا على امتداد شهر المواجهة المجيدة بين مجاهدي المقاومة وبين كتائب النخبة في الجيش الاسرائيلي: كان الجمهور الفلسطيني المطارد بالقتل في غزة والضفة الغربية يتدفق في الشوارع لتشييع شهدائه الذين تغتالهم الطائرات بقصفهم من الجو وهم في بيوتهم او في سياراتهم او في مخابئهم، وعند العودة من الجبانة كان هذا الجمهور يعود هازجاً بأناشيد المقاومة ملوحاً بأعلامها وصور السيد حسن نصر الله…
فالشهيد بعض الطريق الى فلسطين وأعلام المقاومة في لبنان وقائدها ذو العمامة السوداء الدالة على نسبه الحسيني هي القدوة ولو تعذر عليها ان تكون القيادة .
أما صورة جمال عبد الناصر فترفرف فوق مواكب السائرين نحو فلسطين من اية بقعة بدأوا رحلتهم.
تحية له في حضوره الذي لا يبهته مرور السنين والذي يستحضره اي نصر وكل نصر.

أيام وأحلام اعتدال وأحمد شومان

قالت بثقة المرأة التي تصنع قدرها بيديها: أتيت لك بكتاب أحمد شومان الجديد.
لاحظت دهشتي فأكملت اعتدال وقد غطت وجهها ابتسامة: لم يمهله الزمن. وضحكت ثم اضافت: بل امهله لكنه كان من المرجئة ! يهم بجمع ما كتب، وهو كثير كثير، ويباشر الاختيار، ثم يقرأ في بعض ما كتب ما لا يستحسن اعادة نشره، فيعيد فرز ما اختار، ويحذف منه، لكنه يجد ان ذلك قد يمس بالامانة، فما كتب قد كتب، ويتردد، وتأخذه الحيرة فيتوقف عن إتمام المهمة.
قلت بشيء من التردد: ولكن قلم احمد كان مرّ السخرية، وهو كان صريحاً بأكثر مما يحتمل كبار القوم ، وأحياناً كان جارحاً في سخريته..
ضحكت اعتدال وقالت ما معناه: صار اليوم بعيداً لا يستطيع الوصول اليه من يريد معاتبته او لومه!
قلت أشاركها السخرية السوداء: ومعظم من لهم الحق في الاعتراض قد سبقوه…
فليعاتبوه هناك، اذن..
قالت اعتدال وهي تمد يدها بالكتاب: ليس لي اي فضل غير السهر على إصداره.
قلت: ولكن لك الفضل في انك اعطيت احمد شومان عمرا جديدا.
عادت الابتسامة تغطي وجه المرأة التي وصفها احمد حين قررت ان تتزوّجه بأنها فدائية : لقد اعطاني اكثر!
واستذكرت معها بدايات التعارف في أواخر الخمسينيات، في مجلة الحوادث مع احمد شومان، ولقاءات الوداع قبيل وفاته. لم يكتب قلم احمد شومان الا ما يعتقد صاحبه بصحته. ربما اكتشف من بعد انه قد أخطأ، لكنه حين كتب كان يفترض انه يعبر عن الواقع كشاهد عليه. وكان الساسة ونجوم المجتمع يتحاشون ان يغضبوه، بل لعلهم كانوا يتحاشونه كلياً، ليكتشفوا من بعد انه هو من كان يتحاشاهم، فهو كان صارماً في اختيار اصدقائه، وقاسياً عليهم في امتحان القبول ، الذي يظل مفتوحاً باستمرار. لم يكن يطلب شيئاً من أحد، وكان ودوداً مع من يعتبرهم اصدقاء.. لكنه ينقلب الى نمر شرس اذا أغضب، فيلجأ الى قلمه يجعله رشاشاً، سيفاً، مدفعاً، بل قنبلة ذرية تبيد المستهدفين ممن استشعر إساءة منهم او استهانة، والعياذ بالله.
اعتدال اختارت قدرها، وهي راضية به… واذا كان قدرها قد خذلها فغاب احمد بأسرع مما قدرت وتحسبت، فإنها تواجهه بشجاعة، وتستحضر احمد فتستبقيه معها كل الوقت، ليس بالذكريات فحسب بل بكتاباته التي فيها الكثير من الطرافة وفيها توصيف دقيق للشخصيات، سياسية وثقافية وفنية، وقد كتب عنها احمد ما يضحك الناس… ولكنه احياناً يكون ضحك كالبكا نظراً لموقع هؤلاء في الحياة العامة، وقد كانوا في العالي فأنزلهم احمد شومان بريشته التي كالسكين الى اسفل سافلين.
اعتدال صادق شومان تواجه القدر بحبها وعنادها، وها هو الرجل الذي اختارته زوجا بعملية فدائية يتصدر المكتبات في الكتاب الذي يستحضره ايام وأحلام .
ولعل العنوان، وهي قد اختارته بالتأكيد، يلخص حكاية اعتدال واحمد، اكثر مما يلخص الكتاب.

جميل أن يقولنا الكلام
ظل اللقاء جملاً مقطعة ومعلقة في الهواء، لا هو انتهى بموعد، ولا هو كان مصادفة ينهيها الوداع الفاتر، على ان العينين قد غمزتا بكثير من الوعود.
على غير اتفاق، وفي آخر الدنيا، سمع نداء ملهوفاً فالتفت ونظرها متردداً، لكنها اقتحمته: هل تتبعني ام أنا من يقتفي أثرك؟
وضاق الوقت على الاعتراف. كان ينتظر ان تبادر، وكانت تتوقع ان يكون اكثر شجاعة منها… وافترقا في قلب التردد، وفي الحلق بقية من كلام.
أما في اللقاء الثالث الذي جاء متأخراً جداً عن لحظة الاشتعال، فقد طاب الكلام، لكن اللهفة كانت الى الخلف، تلهث كي تستحضر نفسها فتبعدها المسافة وتحولها الى تنهدات متقطعة.
باتت الرغبة مكشوفة تبحث عن غرفة تؤويها.
ولم تكن تقبل على أنوثتها ان تكون هي المبادرة.
ولم يكن شجاعاً في رجولته ليتقدمها.
تكررت اللقاءات، واحتشد الكلام صفوفاً متراصة من الجمل المتقاطعة التي تبعد عن الموضوع لتشير إليه… واستهلك الكلام الوعد والموعد والرغبة.
صارا صديقين قديمين، متشابهين بعدما سقطت الحدود بين الذكر والأنثى، يشتركان في كم من الذكريات المنسية البدايات المجهولة النهايات، يعجزان عن استكمالها كما عن تركها تسقط في بئر الزمن الذي ضاع منهما وضاعا فيه فظلت الحكاية تنتهي مع جملتها الاولى: كنا في شرخ الشباب حين التقينا اول مرة… ولكن ترى ماذا كانت المناسبة، وأين وقع اللقاء… لا اتذكر تماماً. اما اللقاء الاخير فأذكره بتفاصيله، ولكنني لا اتذكر ما قلناه فيه. في اي حال، جميل ان نلتقي. جميل ان يقولنا الكلام الذي لا نقوله.

من أقوال نسمة

قال لي نسمة الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
تغار المرأة من ظلها، فلا تجادل امرأة في غيرتها. لا دواء يشفي من الغيرة إلا طوفان من الحب… وعليك أن تملك مفاتيح هذا الطوفان حتى يجرف معه الحب أيضاً.

Exit mobile version