طلال سلمان

هوامش

محاولة للحوار مع المؤهلين لمحاسبة آبائهم
القاعة غابة من العيون، وعلى الوجوه الفتية مزيج من الفضول والحماسة والإذعان: أرادت الإدارة أن تحشدنا لسماع هذا المحاضر الجديد، لا بأس! لعله يقول جديداً! لعله مختلف! لعلنا نتسلى! وفي كل الحالات لا بد مما ليس منه بدّ!
القاعة مخيفة، فحشد الصبايا واليافعات والفتية المتطاولين لكي يبدوا رجالاً، يشبه لجنة فاحصة التأمت على عجل لكي تمتحن هذا الكهل الآتي من البعيد، من أغوار الكلمات ذات الرنين، والمعاني التي ابتعدت عن الواقع فلم يعد لها الوقع العذب المنعش الذي طالما أقحم الناس في معارك قاسية ولكن مشرّفة من أجل الكرامة والحرية والعدالة والخبز… من أجل الحق في الحياة.
استمع الحشد إلى النص المكتوب بانتباه مشوب بشيء من الضيق ربما لرداءة ناقل الصوت، أو لرداءة الصوت نفسه، أو ربما لأن الوقت كان ظهراً، وهو ثقيل الوطأة والمطالب!
وقفت الفتاة الأولى على شكل علامة تعجب: لماذا تأخذون على جيلنا التقاعس والإهمال؟! انتظروا علينا لنباشر ممارساتنا فحاكموها واحكموا لنا أو علينا!
وقفت الفتاة الثانية كإصبع اتهام: تتحدثون عن تشوّهات أصابت القضية، ألستم مسؤولين عن ذلك التشوّه؟ هل نحن مطالَبون بإصلاح أخطائكم؟!
أما الفتى الذي انتصب كرمح فقد طرح »المعضلة«: تحدثوننا عن انتصارات لم نلمس لها أثراً، عن أبطال لا نعرف عنهم إلا ما تروونه عنهم، في حين الواقع يكاد يشهد عليهم وليس لهم… أين الحقيقة، في ذكرياتكم أم في الواقع؟! ولماذا هذه الغربة بين ما كنتم عليه وما نحن فيه؟!
توالت الأسئلة مطراً من الاتهامات ومطالعات الدفاع ومحاولات التبرير حتى كاد ينتظم الحوار بين التهِمين بأنهم لا يسكتون وأولئك المتهَمين بأنهم لا يسمعون.
هنا بعض ما كان في النص المكتوب، وقد أسقطت العيون المثقلة بالأسئلة البعض الآخر:
كان التهيب متبادلاً مع الفتية المفتوحة عيونهم بأسئلة القلق على المستقبل، والذين تجتاحهم الحيرة وهم يبحثون في الحاضر عن يقين،
نحس أننا إنما نجيء إلى محاسبة، كلما وفّرت لنا الظروف فرصة اللقاء والحوار المفتوح، ونلجأ غريزياً إلى أسلحة الدفاع، تبريراً واعتذاراً، أو مكابرة واستغلالاً لموقع الأبوة، لمنع المحاكمة من أن تكون حواراً صحياً بين جيلين، يمهّد لتسليم الرايات، ولو منكّسة بالقهر أحياناً، واستمرار المسيرة، ولو متعثرة بسبب الانحرافات أو الضعف أو التعب أو استهوال طول الطريق أحياناً أخرى.
وأعترف أننا كنا، مع آبائنا، أسعد حظاً منكم.
كانوا قد افترضوا أنهم نجحوا في مباشرة التغيير، بالثورة حيناً، وبالمقاومة غالباً، وبالصمود وراء أهدافهم المقدسة، في التحرر والاستقلال الوطني، تمهيداً لما هو أبهى وأعظم من الأحلام القومية.
وكنا، أبناء جيلنا، نفترض أن المهمة سهلة جداً، لا تحتاج إلى عظيم جهد، فالاستعمار يلعق جراح هزيمته، وكيان شذاذ الآفاق يرتعش ولسوف تعصف به رياح التحرير بقوة السلاح، سلاح الجيوش كما سلاح المقاومة الشعبية.
لم تكن تلك كلها أوهاماً.
فلقد كانت الأمة عظيمة الحضور، تتدفق في شوارع المدن والقصبات، ويتدافع الشباب بالآلاف وعشرات الآلاف إلى مراكز التطوع للتحرير، تحرير أية بقعة من أقصى الجزيرة والخليج الثائر إلى أقصى المحيط الأطلسي الهادر.
وليست مبالغة أن يقول أبناء جيلي أنهم أمضوا أروع أيام شبابهم في الشارع، يبحثون لأنفسهم عن دور وعن ساحة مواجهة، يهزون قبضاتهم في وجه العدو الذي يتخيّلونه مزيجاً من الوحش والمرابي والجلاد.
على أن الصدق يفرض عليناً أن نعترف أننا ما كنا لنعرف ما يكفي لا عن أنفسنا ولا عن منطقتنا ولا عن حلفائنا المحتملين ولا عن أعدائنا الفعليين، ولا عن شبكة المصالح العظمى التي كانت تتحكّم بحركة الأحداث في المنطقة، وبمواقف الأطراف جميعاً، عربية وأجنبية، فتأخذ منا بعض أهلنا إلى الخندق المضاد، وتزرع معنا في خندقنا بعض الخصوم الشرسين لطموحاتنا وشعاراتنا التي كانت تستولدها الأحلام فتظل أبعد من أن تطالها أيدينا أو تحددها عقولنا أو تعقلنها ثقافتنا القاصرة آنذاك.
كانت الحماسة خبزنا اليومي.
وكان وعينا السياسي خطابياً، يأتي من الخطاب، وليس من الكتاب، ويذهب إليه، وليس إلى التحليل الرصين والهادئ.
وكانت آمالنا معلقة بالبطل المنقذ، الذي تمتزج في صورته ملامح الأنبياء والقديسين والشهداء وفرسان التحرير، ففيه من إيمان السيد المسيح ومن عبقرية النبي محمد ومن عدالة عمر بن الخطاب ومن مبدئية الإمام علي ابن أبي طالب ومن الثبات على المبدأ إلى حد الاستشهاد كما الإمام الحسين في كربلاء، وفيه أيضاً من دهاء معاوية ومن صلابة العقيدة التي لا تهزها المناصب كما تشهد سيرة خالد بن الوليد، وفيه كذلك شيء من عفة عمر بن عبد العزيز والكثير من كفاءة القائد نور الدين محمود ومكمل رسالته في حطين صلاح الدين الأيوبي إلخ…
كنا نسمع أكثر مما نقرأ، وننفعل بما نسمع ثم لا نعرف ماذا نفعل بحماستنا، ويخرجنا الغضب إلى التظاهر فنملأ الجو بهتافاتنا، ثم يضيع الزخم مع تبدد صدى الأصوات المعبّرة عن إرادة صادقة ولكنها لا تجد طريقها إلى التبلور في قرار أو في عمل ينفع الناس.
ولعل الانتكاسات وخيبات الأمل ثم الهزيمة هي التي أعادتنا إلى دائرة العقل وإلى الوعي وإلى الرجوع إلى الذات نحاول التعرّف إليها، وإلى الضرورة في معرفة العدو بواقعه ومكامن قوته وشبكة تحالفاته الدولية الواسعة، وموقعنا على خريطة مصالح الآخرين من الأقوياء.
لعلكم ترون فينا جيلاً مهزوماً.
ولعلكم تتوجهون إلينا برجاء أن نترك لكم ما تخسرونه.
ولعلكم تحكمون، في ضوء النتائج، أننا أثقلنا جيلكم بالهزائم في الميادين كافة بحيث لا تعرفون من أين تكون البداية الجديدة.
لعلكم تقولون إننا حطمنا القضايا المقدسة جميعاً، أو أننا شوهناها أو قزمناها، فحرمناكم أحلاماً سنية كالتي كانت لنا.
لعلكم تحاسبوننا على كل ما أنتم عليه من انفضاض عن السياسة، وانصراف عن الاهتمام بالشأن العام.
لعلكم تقولون إنكم لا تجدون ما يستحق أن تقرأوه، خصوصاً وأن الكتابات إما اعتذارية عن تقصير في الماضي، أو ترجمة لما يقوله عنا الآخرون، وهو غير دقيق وغير أمين غالباً، ثم إنه يصدر عن خصم، وفي أبأس حال فمن الأفضل أخذه عن مصدره بدلاً من اعتماده مشوهاً بالتهالك أو بالتعصب الذي يرفض الموضوعية.
لكن الحقيقة أمامكم، وبمعزل عن الصح والخطأ في التجربة فإنها غنية وكاشفة للجميع.
ربما لم نترك لكم الكثير من اليقين، لكننا لم نخلف وراءنا الكثير من الأوهام.
لعلنا لم ننتصر دائماً، لكننا حددنا بدمائنا أرض الصراع وطبيعة العدو، وأكدنا بمجد الصمود القدرة على المواجهة، وهذه الكوكبة من فتيتنا الميامين الذين يكتبون تاريخنا الجديد بشرف المقاومة هم أبناؤنا أيضاً، حتى لو سجلوا علينا التقصير أو الضياع عن الهدف والانشغال بالتفاصيل عن الجوهر.
(*) من لقاء مع الطالبات والطلاب
في مركز عمر المختار البقاع

سعادة السفير .. زميلاً!
بأناقة أهل البلاط، لباساً ولغة، وبتهذيب أهل التقى والورع، لفظاً ومعنىً أطل علينا ابن القماطية »سعادة السفير« فوزي صلوخ كاتباً وصاحب رأي.
جاء معتذراً في البداية بأنه إنما يحاول أن يقدم للناس خلاصة تجربته الطويلة في العمل الدبلوماسي، وتجواله حول العالم بحكم موقعه.
كان في صوته نبرة يأس من أن »المسؤولين لا يقرأون«، وأن الكتابة مجرد محاولة للتنفيس عن كربته، لعلها تفيد بعض الناس ممن يهتمون ويريدون أن يعرفوا.
مع المقالة الأولى تكشّف فوزي صلوخ عن كاتب صاحب أسلوب، وأكثر من ذلك عن »صحافي« مختبئ في طيات الدبلوماسي وموجبات التحفظ والإيحاء بدلاً من التصريح ، والإيماء بدلاً من كشف الأسماء التي تفرض الأصول أن تبقى طي الكتمان… أقله لخمس وعشرين سنة أو يزيد!
في البداية كتب لأنه لم يجد من يسمع.
فلما وجد القراء اكتشف في نفسه الأسلوب الذي يجمع بين الرصانة وبين الطرافة، مستفيداً من رصيد »مذكراته« وذكرياته، ومن قدرته على المزج بين نوع من أدب الرحلات في وصف البلدان والأحوال والعادات والتقاليد، وبين قدرة على استخلاص الدلالات السياسية عبر المحاورات والمحادثات المعززة بالقراءات والمتابعة.
ولطالما نبّهنا فوزي صلوخ إلى أهمية حدث ما في بلد لا نعرفه تماماً أو لا نعرف عنه ما يكفي، فإذا لمس تقاعساً أو تردداً اندفع يحلّل الحدث مستعيداً ما عرفه أو بالأحرى ما عاشه فعلاً وما سمعه من أصحاب الشأن مباشرة من خلال عمله، خصوصاً وأنه لا ينقطع عن المتابعة ويرفض أن يصير مجرد متقاعد يتلذذ بإعادة الرواية المعادة لجمهور من العاطلين عن العمل الذين يعيشون في الماضي يائسين من أن يتمكّنوا من الوصول إلى الغد.
على أن الأحداث في لبنان قد شدّت إليها فوزي صلوخ فكتب فيها معلقاً، ناصحاً حيناً، غاضباً معظم الأحيان، منبهاً حيناً، لائماً أو موجع القلب غالب الأحيان.
وكان ان اجتمعت، من تلك المقالات و»المذكرات« والصيحات والتنبيهات صفحات كتابه المتميز»الواقع اللبناني قضايا وآراء«. مبروك المولود الأول، وفي انتظار مواليد جدد، أيها »الزميل« الآتي إلينا من الغموض الدبلوماسي بوضوح الموقف واللغة والقصد.
ولتنطلق المنافسة الآن بينك وبين »غريمك« مصطفى الزين!

تهويمات
} لا تغفر المرأة أن تفاضل بينها وبين أخرى.
إنها تريدك أن تشعرها وأن تتصرف فعلا وكأنها كل النساء، في حين تخضعك لامتحان مفتوح ازاء كل رجل تلتقيه أو تقرأ أو تسمع عنه.
} قالت لمرآتها: علينا أن نفترق، لم أعد أطيق الفضيحة التي أرى نفسي عليها فيك.
قالت المرآة: لو كان لي ذاكرة لاستخرجتك منها، لكن شرط وجودي ألا يكون لي ذاكرة.
قالت لمرآتها: ولكنني أهرب من ذاكرتي التي تستحضرينها ببلادتك وخلو مخك من الذاكرة.
قالت المرآة: ليست إلا قطعة من زجاج مطلي بالزئبق، فارحميني.
قالت لنفسها: ذهب الزئبق ولم يبق مني إلا الزجاج وموعد الانحطام.
ثم التفتت الى مرآتها بغضب: أيها الشاهد الأبكم، الأعمى، البلا حس، سأحرر نفسي منك الآن…
أدارت المرآة الى الحائط فسمعت حشرجة نحيب ثم أفاقت على دموعها وهي تكرج على خديها وتنساب عبر العنق لتطفئ لهيب الذاكرة.
} قالت بنت السبعين: إهدأ أيها الشاب، حياتك أمامك فلا تهدرها بالتعجل، اشربها بعينيك، لا نعرف قيمتها إلا قرب النهاية.
قال: لماذا تتحدثين كعجوز؟!
قالت وهي تسوي شعرها: ليس كعجوز يا أحمق بل كصاحبة تجربة عريضة.
} قالت لصديقتها: نسيت نظاراتي، هلا أعرتني نظارتيك لا تأمل صورته الجميلة؟
قالت صديقتها: تتفرج الصورة على الصورة من أين يجيء وضوح الرؤية؟! من أين سيعبر الفعل؟!
} كتبت إليه تقول: أخيرا توصلت الى قرار.. لقد استقلت منك. كان عليَّ أن اختار بينك وبيني. سقط الوهم واكتشفت انني خارجك فباشرت التعرف الى ذاتي. تعبت منك. كنت أنظرك فإذا عيناك من زجاج، ولم أرَ نفسي مرة فيهما. اليوم أعرف انك لست الحب.. وها أنا ذاهبة إلى شبابي.
وجاءها الرد بسيطا: قبلت الاستقالة!
أما التوقيع فكلمة واحدة »الحب«.

من أقوال نسمة
قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
مع الحب صارت حبيبتي النساء جميعاً. أراها في كل امرأة جميلة. في هذه أرى شيئاً من جمال عينيها. في تلك بعضاً من براءتها، وفي الثالثة قبساً من إشراقتها، لكنني حين أريد كل النساء أعود إلى حبيبتي وحدها حيث يجتمع الجمال والفتنة والغواية … البريئة!

Exit mobile version