طلال سلمان

هوامش

في وداع الضد محمد الماغوط و الأموي عبد السلام العجيلي?

يُشعرك رحيل الأصدقاء، قبل الحزن وبعده، بشيء من الغربة عن محيطك: تتلفت حولك مستقرئاً الوجوه لتطمئن الى انك لم تطل البقاء، وان الذين استعجلوا الغياب قد خانوك بمعنى ما، وتركوك مع برد البحث في احتمال التأسيس لصداقات جديدة، صارت شروطها لديك أصعب وربما كانت شروطهم عليها مستحيلة.
والأدباء، عموماً، شعراء وروائيين ومسرحيين، هم اصدقاء مفترضون: يشدك إليهم الاعجاب بأكثر مما تأخذك إليهم الألفة.. فعلاقتك مع نصوصهم مبرأة من شبهة المحاباة، حتى ولو وصلت الى حد التحزب وتفضيل بعضهم على البعض الآخر. ان وجدانك هو الحكم.
هذا الاسبوع خسرنا قلمين مشرقين فرقت بينهما السياسة الى حد الخصومة الفكرية، لكن ما استبقاهما في وجدان الناس، معا، هو إبداع كل منهما في المجال الذي ساقته إليه موهبته: الاول هو المتفجر شعراً محمد الماغوط، والثاني هو الطبيب الذي مشى على صفحة الفرات الى الرواية وأدب الرحلات، الدكتور عبد السلام العجيلي.
كلاهما من الداخل السوري ، لكنهما من بيئتين سياسيتين وثقافتين مختلفتين تماماً: محمد الماغوط هو الضد بالمطلق للنظام (في السياسة كما في الشعر) وأهله وأحكامه وطوارئه وممارساته في الداخل والخارج، وفي الشعر ضد القافية والوزن والمدارس المختلفة… اما العجيلي الذي بدأ حياته السياسية نائباً، وهو في مقتبل العمر، والذي تطوع فذهب مقاتلاً الى فلسطين مع جيش الانقاذ بصحبة اكرم الحوراني وتحت قيادة أديب الشيشكلي في الجبهة، فقد استنقذ نفسه بعد تجربة بائسة اوصلته الى مقعد الوزارة (في عهد الانفصال) فكاد يخسر الطب والأدب والرصيد المعنوي للمقاتل من أجل التحرير كطريق الى حلم الوحدة.
???
قبل سنتين إلا قليلاً التقيت عبد السلام العجيلي على أرضه ، في الرقة، حيث يعود بدويا وان تحدث بألسن اعجمية عدة، بينها الفرنسية والانكليزية والاسبانية… وكيف للأموي الأخير ان ينسى الأندلس، وان لا يجعل زيارتها طقساً، فيجعلها محطة في الطريق الى باريس ومنها، بل في الطريق الى كل العواصم ومنها.
استذكرنا، او انه استذكر هو الذي يملك ذاكرة فيل، لقاءنا الاول قبل اكثر من اربعين عاماً في مجلة الاحد لصاحبها المرحوم رياض طه. واستعاد التفاصيل الغائرة في ذاكرتي: كنتَ فتى مجتهدا بعدُ، تتولى مسؤولية مجلة ذات تاريخ، وقد نشرت لي عدداً من قصصي الكثيرة، ورواية لي مسلسلة.
بعد الغداء الذي جمعنا الى أسرته وشقيقه المهندس عبد العظيم العجيلي، جاء بعض البحاثة الاجانب الذين كان يأخذ بعضهم عن البعض الآخر اعتماد عبد السلام العجيلي كنسابة لعشائر هذه المنطقة (التي تتاخم من جهة تركيا، وتتداخل أطرافها، من جهة اخرى، مع العراق، ويعبرها الفرات متجاهلاً حدود السياسة، مواصلا سيره الى مصبه، في جنوب الجنوب، بعدما يتلاقى فيتكامل مع دجلة عند القرنة ليشكلا معاً شط العرب).
وكما النهر، فإن عشائر هذه المنطقة لا تترك للحدود السياسية ان تقطع صلة النسب ووشائج القربى، فامتدادها هو الاصل، ولا يؤثر فيها ان يكون بعضها قد غدا عراقياً والآخر سورياً، فالنسب اهم من السياسة وأبقى. أما الأرض فهي أرض الله ودار الاسلام!
يقتحم علينا الدارة التي تحمل وشماً من كل بلد زاره عبد السلام العجيلي، مريض، فيقوم الطبيب ليناوله الدواء الذي اعده له، بينما هو يكمل حديثه معنا: عيادتي قائمة، وأنا استقبل مرضاي كل يوم، لا تقفل أبوابها إلا خلال سفري.
أما حين نسأل عن سكان الرقة وأصل التسمية فيتبدى عبد السلام العجيلي عارفة وخبيرا بالآثار وبمجرى الفرات ومواسم فيضانه، وحكايات المدن والقرى المحيطة ودلالات اسمائها، سواء في التاريخ القديم او في عهد هارون الرشيد الذي يقال انه انشأ الرقة واعطاها اسمها في احدى جولاته في ارجاء خلافته الواسعة.
عندما حانت ساعة الوداع قال عبد السلام العجيلي: يمكنكم ان تبلغوا دمشق بأحد طريقين، إما عن طريق محمد الماغوط وقبيلة المبدعين من آل الجندي، سامي وعلي وعاصم، اي السلمية؛ وإما عن طريق سيف الدولة والمتنبي، اي حلب الشهباء. وما دام عصام الزعيم هو قائد حملتكم فلسوف يأخذكم بطريق القدود الى حلب، ولن تستمتعوا بهبات غضب الماغوط على الكون والنظام وكلاسيكيات الأدب والحياة.
???
… فأما محمد الماغوط، فلقد كان اللقاء الاخير مع صوته وصورته ، من دون شخصه، وفي مناسبة هي الاخرى حزينة: في وداع ممدوح عدوان.
يومها، تعذّر على محمد الماغوط، الذي كان يمضغ في وحدته موته، ان يجيء الى دار الاوبرا، فذهب إليه محمد ملص مع كاميرته، وسجل له رثاءه لممدوح الذي خذله فمات قبله.. وكانت كلماته الموجعة رثاء للذات وللشعر والابداع جميعاً.
أما الوطن فقد كان رثاه من قبل مع دريد لحام في كاسك يا وطن ! كان الماغوط، الذي اقفل بابه على نفسه، وامتنع عن استقبال اصدقائه ومن يصحبهم من الفضوليين او المعجبين، يبدو كأنه يعاني الضجر وهو ينتظر الموت الذي لا يجيء بالسرعة التي يطلبها ويبذل من أجلها كل ما في وسعه: التدخين، الشرب، الامتناع عن العلاج، ثم الغرق في الوحدة.
.. وإذا كانت المقادير قد اعفت عبد السلام العجيلي من موكب التشييع الرسمي، فإن محمد الماغوط الذي امضى عمره في خوف من الدولة ولو بشخص شرطي البلدية، قد تكأكأت عليه الدولة بكلكلها وهي تشيعه الى مثواه الأخير.
…وهكذا عاد المتمرد الأبدي على المألوف والبديهي والحديث معاً، طامحاً الى تكسير القيود جميعا، الى السلمية في موكب مزين بالنياشين والمراثي، بينما نجح عبد السلام العجيلي الذي احتضن الرقة حتى حينما كان يغيب عنها، في ان يغوص عميقاً في أرضها التي انبتته، على سرير الفرات، وقد جاب في الدنيا اكثر مما جاب هارون الرشيد، متتبعاً تلك الغيوم التي أشار إليها الخليفة المذهب قائلا: أمطري حيث شئت فإن خراجك سيعود إليّ.
يمكن القول عن الماغوط والعجيلي، الآن: ان نتاجهما باق لنا ولاجيالنا الآتية، بأكثر مما كان يعود به الخراج على رعايا الخليفة الأكثر توهجاً في التاريخ الاسلامي.

الوفد : إعلان وفاة الحركة الشعبية العربية!
اندثر العمل السياسي في المنطقة العربية بمشرقها ومغربها: لا احزاب، لا نقابات، لا اطر لأي عمل جماعي، لا على مستوى الإقليم ، ولا على مستوى القطر .
في تزامن لافت، توالى تهاوي الاحزاب ذات التاريخ العريق، ومعها طوت الحركة النقابية أعلامها على ماضيها وغادرت ساحة النضال.
لعل النعي المدوي للحركة الحزبية هو ذلك الذي شهده العالم، بالصوت والصورة، قبل أيام في القاهرة، حين اقدم الرئيس المخلوع لحزب الوفد على مهاجمة مقر الحزب، بالسلاح، و احتلاله قبل ان تأتي الشرطة فتخرجه منه مخفوراً بأمر من النيابة العامة!
في طول الأرض العربية وعرضها لا وجود الآن لأي حزب سياسي جدي: لا في المغرب حيث كان حزب الاستقلال العريق شريكا للملك في شرعيته، ثم حزب الاتحاد الاشتراكي الذي ارتكز جماهيريا على الاتحاد المغاربي للشغل، وورث حزب الاستقلال وقاسم العرش بتاريخه الطويل والأسرة المالكة التي كان لها شيء من القداسة النفوذ، بل السلطة وولاء الجماهير.
وفي الجزائر تفككت جبهة التحرير، فخرجت من صلبها احزاب وحركات وجماعات متطرفة قاتلت المسلمين وقتلتهم تحت راية اسلام مبتدع انبتته الجهالة والدكتاتورية والترسبات الاستعمارية.
أما في تونس فقد صادرت السلطة الحزب نهائياً وجعلته ادارة حكومية، في خدمة السيد الرئيس ، في حين طاردت احزاب المعارضة، ولو محدودة الوجود والنفوذ.. وبعد اكتشاف السلاح السري، اي الإرهاب ، بات استئصال الخصوم لا يكلف جهداً ولا يستدر عداء المجتمع الدولي وأهل التحضر في الغرب، بل ان الادارة الاميركية تكافئ المستأصِلين ورواد تصفية الإرهابيين .
وها هي مصر التي عجز النظام فيها، حتى في ظل وهج القيادة التاريخية لجمال عبد الناصر، عن استيلاد حزب حقيقي، ولو عبر تنظيمات سرية مثل التنظيم الطليعي ، تخسر آخر ما تبقى من رصيد الحركة الديموقراطية التي عرفت عبر ثورة 1919 ازهى حالاتها بتحول الوفد الذي ذهب الى بريطانيا برئاسة سعد زغلول لمفاوضة الاحتلال على الجلاء، الى قيادة للحركة الشعبية التي اعطت مصر دستورها وحزبها القائد الذي سرعان ما استنزفه الحكم حتى إذا قامت ثورة 1952 كان قد غدا شلوا؟؟ ومع ذلك استمر في وجدان المصريين حياً، بوصفه اداة التعبير عن قدرتهم على التغيير، الى ان قضى عليه الافلاس السياسي في مواجهة المهمات المطروحة، فصار من عطايا السلطة بدلا من ان يكون في برنامجها نقيضها.
أما في لبنان، فقد قضت الحرب الاهلية على احزابه العلمانية، ولا سيما انها تزامنت بدهرها الطويل مع تراجع الاتحاد السوفياتي والحركة الشيوعية الدولية ومعها الحركة القومية حتى انهيارها وسقوطها جميعا وبالكامل امام المنافسة الاميركية والرأسمالية بصيغتها الليبرالية المجددة.
هكذا اختفت عن مسرح الفعل، دفعة واحدة، معظم الاحزاب العلمانية (البعث، بشقيه، القومي السوري، التقدمي الاشتراكي، الشيوعي فضلاً عن حركة القوميين العرب التي كانت تلبننت قبل ذلك باسم منظمة العمل الشيوعي… الخ).
في العراق، اسقطت سلطة الطغيان حزب البعث العربي الاشتراكي، الذي كان قد فقد اهليته كتنظيم جدي، وتحول الى مجرد قناع للديكتاتورية، حتى اذا جاء الاحتلال الاميركي تهاوت ملايينه فلم تصمد منه إلا قلة مقاومة تغالب لاثبات وجودها ضمن تلك المجاميع المجهولة التي ترفع الشعار الاسلامي وهي تمضي في طريقها الى اثارة الفتن بين المسلمين، مؤدية المهمة التي يعجز عن إنجازها الاحتلال الاميركي بكل جبروته.
وأما في سوريا، فإن الحزب قد اخلى موقعه للسلطة، تاركاً لها القرار… وبما ان السلطة هي الأقوى والأغنى والأقدر، فإن الحزب يتحول الى تابع، بغض النظر عن الألقاب والتسميات وشكليات المواقع القيادية .
النهاية المفجعة لحزب الوفد تكاد تلخص مآسي الاحزاب التي اوكلت امرها الى الحزب الحاكم، فباتت من مستولداته المهجنة: فقدت هويتها وقرارها وصارت مجرد واجهات لتكايا من الزمن القديم، او واقي احزاب ، على حد تعبير محمد حسنين هيكل: لا هي مؤهلة للفعل في عصرنا، ولا هي تعلن موتها فتريح وترتاح.
لقد انتهى العمل السياسي في الأرض العربية… في حين لا مؤسسات تعوض غيابه.
وفي انتظار ان يتمكن الاسلاميون من النجاح في وراثة قيادة الحركة الشعبية، عبر صياغة برنامج عصري يستجيب لمتطلبات هذه الملايين التائهة عن طريقها الى مستقبلها، ستبقى القرارات المصيرية رهناً بحكام المصادفات من العسكريين، او بورثة العروش، وكلهم يناضل ضد التغيير… وهذا يعطي فسحة واسعة للتدخل الاجنبي الذي يتدرج من الحماية الى الوصاية الى الاحتلال، سواء تحت العلم الاميركي او الاسرائيلي، او تحت العلمين معاً.

من أقوال نسمة
قال لي نسمة الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
ليس صحيحاً ان الحب أمر يمتاز به الشبان على الشيوخ..
أعرف عجوزاً، يجيئني بين الحين والآخر وقد عدل في هندامه، ليخبرني انه يعيش قصة حب جديدة.
مرة، خطر لي ان احاسبه، فقال: ان توقفت عن الحب انتهيت. لماذا تستكثر عليّ نعمة الحياة. مع آخر نفس سأقول لآخر امرأة تكون معي: أحييني بحبك فتحييني!

Exit mobile version