طلال سلمان

هوامش

عن سعيد فريحة وصياده وشبكته وجورج إبراهيم الخوري

لسنوات طويلة تقاسمت وجورج ابراهيم الخوري قاعة واحدة في الطابق الرابع من المبنى القديم لدار الصياد في الحازمية، تحت حراسة مشددة من سعيد فريحة الذي كان مكتبه اشبه بمخفر أمامي يرى الآتين الينا ولا نرى زواره، الا اذا احتاج الينا »الاستاذ« لمهمة. وكانت من نصيبي المهمات الشاقة مع سياسيين لم أكن قد تعودت على قبولهم فكيف بحبهم؟ أما جورج فكانت له المهمات المعطرة مع الفنانات والفنانين، مطربات ومطربين، ممثلات وممثلين وطامحين الى الشهرة وتسلق سلم »الشبكة« اليها.
كنت مبتلَى بالتحرير في مجلة »الصياد« رئاسة وادارة واخراجا وكتابة في السياسة والاقتصاد والثقافة والفن والاجتماعيات و»مناقشة« الافكار التي نلقنها لرسام الكاريكاتور المتلقي خليل أشقر، رحمة الله عليه وعلى زوجته الصابرة التي تقلبث لساعات منتظرة في السيارة، بينما هو يغفو في القاعة في انتظار ان يهتف سعيد فريحة ونهتف معه »وجدتها، وجدتها«.. فيستفيق خليل، ونتنفس الصعداء نحن الذين نشارك بالأمر وتُرفض محاولاتنا ابتداعَ النكات، ثم يكون علينا ان نضحك طلبا للافراج وليس بالضرورة استمتاعا بالنكتة التي سيكون على خليل ان يحولها الى رسم من دون ان يعرف الغرض منها.
اما جورج ابراهيم الخوري الذي كان يحضر دائما وقد ارتدى ملابس رسمية، كمن يتوقع ما سوف يكون، فقد كان من حظه الاستمتاع بزيارات اهل الفن، مصريين وسوريين ولبنانيين، سرعان ما انضم الى اهل الطرب والتمثيل منهم، مدربو الرقص والراقصون والراقصات بعدما انشأ سعيد فريحة »فرقة الانوار« للرقص الشعبي وأوصلها الى مهرجانات بعلبك الدولية.
كنت اغرق في الشقاء اليومي لانتاج مجلة سياسية ذات تاريخ ولها نكهتها المميزة، بامكانات ضئيلة وبعدد قليل جداً ومتواضع الكفاءة من الزملاء الذين يحبون الليل بمتعه الوفيرة ويتبرمون بالنهار ومسؤولياتهم »الثقيلة« فيه.
اما جورج فكان نهاره لأهل الفن، وليله لسعيد فريحة، نديماً ورفيق سهر وسمر، يختار من النوادي والملاهي والكازينوهات وعلب الليل امتعها برامج واغناها عروضا وأبرعها في اختيار الفنانات، او استقدامهن من الخارج، مغنيات وراقصات وممثلات، ومطربين وفنانين ولو بصيغة »ضيوف شرف«.
كانت مجلة »الشبكة« خفيفة، لطيفة، ظريفة، تزينها الصور الملونة للنجوم، وبالتالي فقد حققت رقما قياسياً في الانتشار، وكان توزيعها في الستينيات يعادل توزيع جميع الصحف السياسية مضروبا بخمسة أضعاف.
وكان جورج ابراهيم الخوري، الذي حل في رئاسة التحرير مكان سليم نصار الذي جاء بديلاً من ياسر هواري، يعرف ان »الشبكة« هي مصدر الانس والمتعة والسمر لسعيد فريحة بينما »الصياد« ميدان نضاله النهاري.. وكان بالتالي في »موقع قوة« بالمقارنة مع الكادحين في »الضرة« المفروضة عليها منافسة غير عادلة.
كذلك فقد كانت لجورج مواهب أخرى: فهو لطيف الصوت، يهوى الطرب ويحفظ الكثير من القصائد والاغاني ممن اطربوا اجيالا، وقد أتاحت له اريحية سعيد فريحة ان يسافر معه احيانا او يستقبل معه دائما كبار أهل الفن وعظماء الطرب: ام كلثوم وعبد الوهاب وفريد الأطرش وعبد الحليم حافظ ونجاة الصغيرة وفايزة أحمد، مع حفظ مكانة خاصة للصبوحة وفيلمون وهبي وزكي ناصيف ووديع الصافي ونصري شمس الدين… الخ.
والى جانب الطرب كان جورج ابراهيم الخوري غاويا للعزف على العود، ومن ثم كان يتصدى لتقريظ الملحنين او تأنيبهم اذا ما استخدموا »العُرَب« في غير مكانها، فمالوا الى »النهوند«، مثلا، بينما كان عليهم ان يلجأوا الى »الصبا«.
ثم انه كان مبتكراً في احتلال المساحات، وهكذا احال على تلامذته الاغرار المقابلات (الا مع العظماء) واحتل الافتتاحية ثم »ورد وشوك« التي كان يعبر فيها عن آرائه وتقييمه لأهل الفن، ومن بعد دخل الى بريد القراء بشخصية »حميدو« التي يجيب فيها على السجية، عن الرسائل الواردة الى المجلة من المتلهفين الى شرائها والمعجبين بشخصية منتجها.
لم يكن ثمة مجال للمنافسة، اذاً، بين جورج ابراهيم الخوري وبيني، فالنهار شقاء والليل متعة بأنماط وأنواع متنوعة في اطايبها ولذائذها.
وعن طريق جيرتي في المكان عرفت كثيرا من الزوار والزائرات المعطرات الذين كان يحيلهم او يحيلهن على جورج، فأرى ولا أسمع، او أسمع الصدى متسللا من مكتب سعيد فريحة من دون ان ارى صاحب الصوت، بينما كان جورج يرى ويسمع ويلمس ويشم ويتذوق… حتى الشبع!
***
باعدت بيننا الأيام، بعد عِشرة طويلة ولو على بعد يتمثل في طول القاعة.. لكنني ظللت أتابع اخبار جورج ابراهيم الخوري و»الشبكة« (كما سائر مطبوعات دار الصياد التي اعطيتها عشر سنوات من عمري واعطتني عبر سعيد فريحة كثيرا من »المجد« والخبرة المهنية وكل اسباب المتعة ما عدا… العملة الصعبة).
كنت أخاف عليه من »عدوى« سعيد فريحة في الضعف امام الأطايب، مأكلاً ومشروبا وليلاً حافلاً بما يذهب بتعب النهارات وبؤس الاحوال السياسية… ولكنه كان يطمئنني دائماً الى انه يعرف »الحدود« فيستمر في التظاهر من دون فعل.
وعندما ترك »الشبكة« خفت عليها. لقد ارتبطت باسمه حتى كاد الاثنان يصيران واحداً، ثم خفت عليه لأنني اعرف ان »الشبكة« هي حياته، لا سيما بعد ان غيب الموت استاذنا سعيد فريحة.
قبل أيام جاء الحزن في موكب جليل: لقد رحل »حميدو«، وسقط حارس »الشبكة« الذي عود نفسه على التعويض عن الكبار بالصغار الذين سوف يكبرون من اهل الفن الذي بات غير ما عرف فألف وأحب.
لقد رحل صانع الفنانين: جورج ابراهيم الخوري.

تهويمات/ربابة الليل تستولد قمراً

… وعندما سقط الليل في جب الصمت، فقد ملاذه الأخير. كان قد ألف تعبه فاستوطنه، وتعود ان يستولد لنفسه ما يؤنسه في وحشة الوحدة، منتظراً ان يأتيه صوت الليل عاصفاً مثل غارة موسيقية، فينصرف الى ترويضه حتى تعود اليه رقته فتأخذه الى الخدر.
امس، بدت له السماء التي لا ينتبه الى وجودها الا وقد ارتدت ثياب النوم، كأنها لوح من صفيح أغبر اللون، تطل من شبابيكه الضيقة قطط بعيون من زجاج.
وانتبه الى ان القمر لم يعد ارجوحة يرقى اليها ليسمر مع اطياف الذين سبقوه فأعدوا واستعدوا بلهفة الأطفال الى العيد.
لم يعد الليل مدينته. صار صحراء تتبدى في اطرافها خيام قافلة تائهة، تبرك أمامها جمال متعبة، تتلفت متتبعة الصدى الآتي من البعيد لانين ربابة يحز عليها ملتاع أشواقه التي سيطويها في صدرها مع اول ضوء، فيذوب الصوت وهو يعيد الى النجوم اشراقاتها فتستعيد وعيها وتغمز للمسافرين تدلهم على الطريق.
يدنو الفجر متمهلاً، يلامس جفون الذين نسيهم النوم، يرش على وجوههم من نداه فينهضون كي يكملوا روايات العشاق الذين اصطنعوا لهم أحلامهم وأخذوهم اليها فاسكنوهم فيها، ثم عادوا يتابعون خلودهم في غنة الربابة التي تنتظر دائماً من يأخذ بعنقها فيستبكيها ليبكي… وعندها يجيء الفرح فوق غيمة تستبطن قمر الليل الذي تعلم من صمته فن الغناء.

الحب بالمفرد

ظلت تتحدث عن ذاتها حتى نام.
قالت: هل أنا مضجرة؟ هل حديثي أنا ثقيل على سمعك الى هذا الحد؟ أنا لا اتحدث كثيراً عن نفسي. كنت احدثك عن اصدقاء لي، وعن اعزاء احبوني، وعن ناس يتصلون بي ولو كنت في اقصى الأرض. ماذا افعل ان كان الجميع يعشقونني. صدّقني أنا لا احب أحداً غيرك. أنا اعرف كثيراً من الناس، وكلهم يحبونني. انني اغرق في بحار من الحب. الحب مطر يبللني حيثما ذهبت. ليس اعظم من ان تكون محبوباً. الحب نعمة من عند الله. الحب منحة الهية. لماذا تغار اذا احبني الآخرون. وماذا لو احبني الجميع واحببتك أنت. الا تحب ان أكون محبوبة يا حبيبي. اريدك ان تغار فحسب. ما هم ان احبني ألف شخص.. ان غيرتك في هذه الحالة ستكون عبثاً. مع ذلك فأنا اوفر لك الانتصار عليهم جميعاً لانني أنا اقرر من أحب. الا تسمعني يا حبيبي أنا؟! ألست أنا حبك ايها الأناني الذي تتركني احدث نفسي عن نفسي ولا تسمعني فاضطر الى تكرار القول حتى اقنع ذاتي بأنني مولودة لكي اكون الحب كله. إذا احببت نفسي فهذا معناه انني احبك.
… وقام يبحث عمّن يمكنه ان يتبادل معه الاعتراف بالحب.

من أقوال نسمة

قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
للحب جذور تضرب عميقاً فلا يقوى عليها الزمن.
جاءني صديقي أمس طائراً على جناح حبه الذي نروي حكايته العتيقة باعتباره صفحة من الماضي الجميل. قال: لقد عادت الي.
لقد عدت الى الحياة. ماذا يعني غياب عشرين عاماً؟ سيمنحنا عمرا جديداً لا يقاس بالسنين!

Exit mobile version