طلال سلمان

هوامش

سمية بعلبكي: حكاية فنانة أصيلة تقاوم الانحطاط..

وقبل أن ينتصف الليل، انبثقت المفاجأة جدولاً من النشوة تدفق رقراقاً، فانتبهت المجموعة التي كانت مدعوّة إلى عشاء التحليل السياسي والتعليقات والتوقعات حول احتمالات الفتنة إلى أن أحاديثها الرصينة جميعاً باتت خارج الموضوع.
ساد الصمت، بينما انطلق الصوت الملائكي حيياً، بادئ الأمر، ثم أخذ يرقى »المقامات« تدريجياً، في مختارات عشوائية من محفوظات الذاكرة.
لم تكن سهرة طرب، فلا عازف ولا آلة موسيقية، ولا حتى مسجلة وأشرطة تشيع مناخاً مساعداً. كان ثمة حشد من دكاترة الثقافة الذين يهتمون بالأفكار ومناقشتها تأييداً وتسفيهاً، وبعض »الخوارج« ممن يملكون ذائقة فنية ووجداناً متنبهاً يعبّر عن نفسه بالآهات يسترجع بها بعض لحظات الزمن الجميل.
إنها سمية بعلبكي متألقة بشبابها وحضورها البهي وابتسامتها التي تشع ثقة بالنفس وإيماناً بأن الأصالة تبقى وأما الزبد فيذهب جفاء.
سمية بعلبكي… ما تزال ثوابتها هي هي، لم يجرفها إغراء الشهرة، ولم تقبل المساومة لكي تدخل »السوق« فتجيئها الثروة بلا مجهود، وتنهال عليها العروض مفتوحة للمشاركة في المهرجانات الموسمية التي يفتتحها الملوك ويديرها الوزراء ويستثمرها الأمراء ويسوّق لها السماسرة و»أصدقاء المخدة«.
منذ ألف عام، ربما أكثر قليلاً، عرفت هذه الفتاة التي وُلدت نجمة.
وكنت قريباً من مدى صوتها وهي تتدرب فلا تتعب، وتعيد حتى تجيد، وتقرأ كثيراً، وتجتهد في زيادة ثقافتها الموسيقية.
كانت تدرك بإحساسها، ثم بتجاوب الناس، أنها موهوبة، ولكنها كانت تعرف، بذكائها، أن الموهبة وحدها لا تكفي، وأنه لا بد من تثقيف الموهبة لتعطي فناً متميزاً يشق لنفسه طريقاً في الوجدان.

تجربة رائدة: فرقة الموسيقى العربية

منذ ألف عام، بل أكثر قليلاً، جمعت المصادفات الطيبة بعض الأُصلاء في هواياتهم المرشحة لأن تتكشف عن مواهب حقيقية: الثنائي الخطيب الذي سيصير ثلاثياً: أبو علي حسين الخطيب ونبيه ثم الفتى علي، ومن ثم بعض الشبان والشابات الذين ولدت أصواتهم الجميلة معهم، ولكنها كانت تحتاج إلى من يصقلها بالثقافة وبمعرفة أصول الموسيقى والغناء لكي تحتل ما تستحق من المدى. وكانت سمية بعلبكي الأبرز والأكثر اجتهاداً بين الفتيات، وكان صبحي توفيق وعصام ناصر الدين بين متصدري صفوف الشباب.
وبكثير من الجهد، والقليل من القروش، صارت المجموعة فرقة مهمتها أن تعيد الاعتبار إلى التراث الموسيقي والغناء، متخذة مثلها من فرقة الموسيقى العربية في القاهرة.
بات لزاماً على نبيه الخطيب، الذي كثيراً ما تفترض أنه وُلد محتضناً العود، أن يقود الفرقة الجديدة. وكان معنى ذلك أن يعود إلى »المدرسة«، وأن يجتهد ليعرف كيف يتحول من عازف مجيد يغني لنفسه أو يرافق أخاه »أبا علي« على عوده، إلى »قائد« لفرقة من الهواة المثقلين بهموم حياتهم، والذين يقتطعون من أوقات راحتهم ونومهم الساعات الطويلة المفروضة عليهم للتدريب والإعادة ثم الإعادة والإعادة حتى ملامسة حدود »الآه«.
… وكان الزمن أرض حرب. وكان الخوف أعلى صوتاً من الموسيقى.
لكن الإرادة استطاعت أن تحمي الفرقة ردحاً من الزمن، ثم أصابها ما أصاب لبنان كله من الهنّات الهيّنات التي أنهكت بنيانه وكادت تقضي على غده.
وقد أمكن للفرقة الوليدة أن تقدم عدداً من الحفلات في لبنان، وأن تسافر إلى القاهرة فتقدم أكثر من حفلة على مسرح الأوبرا… قبل أن تفرقها الحاجة أيدي سبأ، وينصرف كل من أعضائها في طريق.
وذلك، في أي حال، حديث آخر، فلنعد إلى »ليلة الأنس« التي استعدنا فيها سمية بعلبكي بعد غياب طال حتى كدنا نيأس من التلاقي مجدداً.

شركات تشويه الذوق العام .. باسم الفن!

بين مقطع من أغنية آهة إلى مقطع آخر من آهة أخرى، كانت تتدفق الأسئلة والتساؤلات: لماذا يحتجب مثل هذا الصوت الساحر، فيندر أن نسمعه بينما نكاد نغرق في بحر من نحنحات الأعناق وتأوهات الخصور وما حولها وما دونها، وطقطقات الأورغ ودوي الطبول وهي تقدم لنا مطربات الأجساد ومطربي الأزياء الشبابية؟!
هل اندثرت الذائقة لدى الجمهور أو أنها تشوهت بحيث لم تعد تقبل اللحن الأصيل والغناء الأصيل؟
هل انعدم وجود الملحنين الذين يتحدرون من صلب أولئك الكبار الذين عبّروا عن وجداننا وأخذونا في رحلات من النشوة المصفاة مع ذائقتهم التي أضافت إلى الشعر فجعلت الأغنية ملاذاً نلجأ إليه لنستعيد صفاء الروح، أو مرتعاً لفرحنا بنعمة الحياة؟
لماذا تضيق الإذاعات وشاشات التلفزة، أرضية وفضائية، والمسارح والمهرجانات، بكل ما هو أصيل وجميل، بينما تتسع لكل فنون الإغراء والغواية باسم الغناء، وهي تقع بمجملها خارجه؟!
لماذا تقفل شركات الإنتاج أبوابها في وجه الأصوات الساحرة ولا تنفتح إلا أمام من يغنين بأجسادهن: العيون والأعناق والصدور المفتوحة والأقفية والسيقان المكشوفة؟!
ومع عدم الرغبة في اللجوء إلى اتهامات عشوائية، فلا يمكن الافتراض أن كل هذه الحرب الضروس على ما هو أصيل يتم عفواً ونتيجة مصادفات قدرية.
إن تشويه الذوق العام لا تقتصر أضراره فقط على المجال الفني، بل هي تمتد لتشمل السياسة والأخلاق والقيم.
إن تشويه الذوق العام إنما يضرب الوطنية في الصميم. إنه يجعل الهوية موضع جدل. إنه يلغي الإحساس بالذات عن طريق تشويه مكوناتها الأصلية، إنه يهجّن الناس ويسقط عنهم ما يميزهم كشعب له تاريخه الخاص، له قضاياه المقدسة، له ذائقته الفنية، له تراثه الغني والحميم. إنه يدمر ملامحه الخاصة.

الفن والثورة والثقافة..

سمية بعلبكي، وأمثالها من الذين صمموا على إيمانهم بأوطانهم وتاريخهم وصدقهم في التعبير عن وجدانهم، »قضية« وليست »مغنية«.
ليس أسهل من الابتذال. وليس أسهل من تحقيق الشهرة بأي ثمن. إن قليلاً من التنازل عن المبادئ يكفي لكي تنفتح الأبواب المغلقة على مصاريعها.
إن كل فنان جدي وصادق، أطعم سنوات من عمره للدراسة وتثقيف الذات وتعلم الأصول، ثم في التدريب الصارم، طلباً للإجادة، ومن ثم الاندفاع في الاجتهاد مرتكزاً إلى أساس مكين… إن كل هؤلاء مهددون بالأفول قبل أن يعطوا ما نحن بحاجة إليه من فن أصيل لكي نحمي ذائقة أبنائنا من التشوه، ولكي نحمي أجيالنا الآتية من الهجانة.
لقد كان بين مقومات النهضة أن الفن قد لعب دوراً أساسياً في إعادة الوعي بالذات، وفي زرع الإيمان بالقدرة على مواجهة الاحتلال والتخلف والدكتاتورية في صدور المواطنين.
أليس سيد درويش مؤذن ثورة 1919 وحاديها؟
أوليس رياض السنباطي وزكريا أحمد ومحمد القصبجي وأم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وأسمهان وليلى مراد ونور الهدى بين مكوّنات وجدان جيل أو جيلين من أولئك الذين حاولوا أن يغيّروا الواقع البائس ليكون لنا غد أفضل؟ مثلهم مثل جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وطه حسين والعقاد ومحمد حسين هيكل وأمين الريحاني إلخ؟!
الشعوب بوجدانها. ومن سبقنا في التقدم من شعوب الأرض لم يبصق على ماضيه. لم يقتل مبدعيه وفنانيه الكبار ولم يهمل أعمالهم الخالدة.
إن الشعوب الأكثر تقدماً لم تهمل تراثها الأدبي أو الفني. إن السيمفونيات تعيش في وجدانها حتى وإن رقص شبابها على إيقاعات موسيقى البوب. وإن روائع الأدب التي أنتجها مبدعو الماضي تدرّس لهم لكي يفهموا الأدب الحديث، فالتطور لا يلغي الماضي بل هو يضيف إلى التراث إبداعات المعاصرين.
الأمة بوجدانها، ومن ضرب وجدان الأمة كان كمن ينتحر بإخراج نفسه من التاريخ والجغرافيا إلى التيه في صحراء الهجانة.
سمية بعلبكي: تحية إلى صمودك في أصالتك وفي حماية صوتك الساحر وكبرياء انتمائك إلى أمة قد تتعب، وقد تهدّها الركاكة في السياسة وفي الأدب وفي الفن، في زمن ما، ولكنها كانت دائماً تستعيد وعيها بذاتها فتعود إلى دورها وهي أكثر ثقة بنفسها وبحقها في الحياة.

الحب بالمفرد

ظلت تتحدث عن ذاتها حتى نام.
قالت: هل أنا مضجرة؟ هل حديثي أنا ثقيل على سمعك الى هذا الحد؟ أنا لا اتحدث كثيراً عن نفسي. كنت احدثك عن اصدقاء لي، وعن اعزاء احبوني، وعن ناس يتصلون بي ولو كنت في اقصى الأرض. ماذا افعل ان كان الجميع يعشقونني. صدّقني أنا لا احب أحداً غيرك. أنا اعرف كثيراً من الناس، وكلهم يحبونني. انني اغرق في بحار من الحب. الحب مطر يبللني حيثما ذهبت. ليس اعظم من ان تكون محبوباً. الحب نعمة من عند الله. الحب منحة الهية. لماذا تغار اذا احبني الآخرون. وماذا لو احبني الجميع واحببتك أنت. الا تحب ان أكون محبوبة يا حبيبي. اريدك ان تغار فحسب. ما هم ان احبني ألف شخص.. ان غيرتك في هذه الحالة ستكون عبثاً. مع ذلك فأنا اوفر لك الانتصار عليهم جميعاً لانني أنا اقرر من أحب. الا تسمعني يا حبيبي أنا؟! ألست أنا حبك ايها الأناني الذي تتركني احدث نفسي عن نفسي ولا تسمعني فاضطر الى تكرار القول حتى اقنع ذاتي بأنني مولودة لكي اكون الحب كله. إذا احببت نفسي فهذا معناه انني احبك.
… وقام يبحث عمّن يمكنه ان يتبادل معه الاعتراف بالحب.

من أقوال نسمة

قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
الحب لا يؤخذ اغتصاباً. إنه يسافر بك إلى أقصى الأرض على آثار أنفاس حبيبك، لكنك لا تستطيع أن تقرّر شخص حبيبك في غيابه ثم تطالبه بأن يستجيب لقرار من لا يعرف ومن لا يملك أن يقرر في شؤون قلبه في غيابه.

Exit mobile version