طلال سلمان

هوامش

عن عبد الرحمن منيف… قبل أن يكتب!

في البدء كانت المصادفة: بداية الستينيات، كنت أتردد بكثير من التهيب على الدكتور الشيخ عبد الله الطريقي، الذي كان وزيرا للنفط في السعودية، ثم استقال بل اقيل بسبب ما اعتبر تطرفا في شعاره، نفط العرب للعرب، وفي مناداته بضرورة تأميم شركات النفط وتولي الاقطار العربية المعنية (والسعودية ابرزها) ادارة كل ما يتصل بنفطها استخراجا وانتاجا وتصديرا وتصنيعا لمشتقاته.
كان الطريقي قد ابتعد عن العمل الرسمي وقرر متابعة الدعوة لقضيته فأصدر من بيروت مجلة »النفط والغاز«، وكان معه فيها خبير اقتصادي هو الدكتور نقولا سركيس (الذي شردته الحرب الاهلية الى فرنسا فأخذ المجلة معه بعدما ابتعد عنها الطريقي لاسباب كثيرة).
في مكتب تلك المجلة التي كنت احب صاحبها وشعارها ولا افهم معظم المنشور فيها من ابحاث وأرقام ودراسات متخصصة، التقيت ذات يوم بباحث آخر، اصغر عمرا وان بدا اكثر حماسة، سعودي الاصل هو الآخر اسمه عبد الرحمن منيف.
بعد سنتين من اول لقاء، اكتشفت ان لنا، عبد الرحمن وأنا، أصدقاء مشتركين في مصر بينهم الشاعر الكبير احمد عبد المعطي حجازي والدكتور (الذي رحل مبكراً) علي مختار، وعاشق اللغة العربية وشاعر جمالياتها فاروق شوشة، وقد »اكتشفت«، في ما بعد، انهم كانوا »خلية بعثية«، وان عبد الرحمن كان صلة الوصل (او ما يشبه ذلك) مع المركز في دمشق..
ولسوف تمر سنوات من العلاقات المتقطعة قبل ان نلتقي لتأسيس صداقة امتدت لربع قرن او يزيد، ولعل »السفير« التي اصدرتها في العام 1974 كانت الناظم الفعلي لهذه الصداقة التي اكتسبت طابعا »نضاليا« ونحن نسعى معا لمقاومة رياح الهزيمة بالمعاندة والامساك بجمر عروبتنا.
في اواخر السبعينيات كان عبد الرحمن منيف قد استقر في باريس، بعد جولة نضالية واسعة حملته من دمشق الى القاهرة الى بغداد، مرورا ببيروت دائما… وكان قد ترك العمل في مجال تخصصه الاصلي لينصرف الى الكتابة.
وبين ما يعمر صدري اعتزازا انني كنت بين اوائل من قرأوا مسودة الجزء الاول من خماسية »مدن الملح«، التي كدنا نباشر نشرها مسلسلة في حلقات قبل ان يقرر منيف ان ذلك لن ينفع »السفير« وقد يؤذي روايته النهر.
ولقد كنا نلتقي على تقطع، في مقهى هادئ وبعيد عن الاماكن المعروفة، كان عبد الرحمن قد اختاره ليسرح فيه مع افكاره واخيلة الشخصيات التي ستخرج الى الحياة عبر ابداعاته.
غالبا ما كانت لقاءاتنا ثلاثية ونجمها رفيق العمر الذي غادرنا مبكرا الباهي محمد، واحيانا تغدو رباعية مع انضمام احمد عبد المعطي حجازي الذي استقر لفترة في باريس حيث كانت زوجته تنجز اطروحتها في الموسيقى العربية.
كان عبد الرحمن منيف »العربي« بالمعنى المطلق للكلمة: وُلد لأب سعودي وام عراقية، وعاش طفولته في عمان، وشبابه في سوريا التي منها اختار شريكة حياته، سعاد، وبعض كهولته، في بغداد، مع اقامة متقطعة في القاهرة، وزيارات طويلة لبيروت، وجولات في اقطار المغرب، بغير ان ننسى اقامته لسنوات في باريس العربية…
اما سيرته الادبية، التي تأثرت بالتأكيد، بهذا التجوال المتحرر من القيود السياسية للمكان، فأتركها لغيري من البحاثة والنقاد.
لقد عرفت عبد الرحمن منيف الانسان الذي عاش مراحل التحول في النفس العربية، بين البداوة والتمدن، وشهد على صدمة المفاجأة باكتشاف الهوة الفاصلة بين بيئاتنا المتخلفة والعالم المتقدم، كما عانى العسف وقسوة في السلطة في تعاملها مع الأفكار والآراء التي تحاول مناقشتها.
كذلك فلقد تعلمت كثيرا من »ثمار« التجربة الحزبية العريضة التي عاشها عبد الرحمن حنيف، والتي اثقلت كتفيه بالمزيد من المرارات، وكان رد فعله ان كرس قلمه للتبشير بغد افضل، ممسكا بجمر عروبته وان كان قد اعاد صياغتها بعقله مبتعدا بها عن العاطفة التي صورتها في لحظة طوباوية والتي اخذتها مع تجربة السلطة الى الدكتاتورية المصفحة بالشوفينية كي تمنع التفكير والأفكار والمفكرين وضوء الشمس.
في الذكرى الثانية لغيابه، ما زلنا نقرأ ما ابدعه قلم عبد الرحمن منيف، لانه مثل عدد من المبشرين بالغد، بينهم رفيقه في سنوات التألق وشريكه فيها، سعد الله ونوس، لا يغادرون حياتنا لان مقرهم في الوجدان وعلى سن القلم بما سطروا وبما سوف يبدع الآتون ممن تتلمذوا عليهم ويسطرون.

من يكمل كلام هشام شرابي؟

… اما هشام شرابي الذي انتمى الى بيئة فكرية مختلفة، بل مناهضة للتي انتمى اليها عبد الرحمن منيف (سوري قومي في مواجهة بعثي) فقد انكب بعلمه دارساً مجتمعه، بتشريح العلاقات البطريركية التي تتحكم في اجياله.
على ان »فلسطينية« هشام شرابي ظلت تشده الى ارضه المحتلة، والى دراسة الحركة الصهيونية واسباب انتظامها وانتصارها، في مقابل التراجع الفاضح للحركة الوطنية القومية داخل فلسطين ومن حولها في الارض العربية.
فرض هشام شرابي على نفسه ان يخوض الصراع بالمواجهة فكريا مع بعض دعاة الصهيونية وبعض من انتجتهم من دارسين وبحاثة. لم يهرب من العدو بل واجهه في عينيه، وقارعه فكريا بقوة المنطق والتاريخ والحق معا… مع وعيه بان تلك المواجهة عبثية في ظل المناخ العنصري السائد معززا بالانتصار العسكري الباهر وبالهزيمة العربية الشاملة سياسياً واقتصادياً وعلمياً.
ولقد عزز من منطقه في المواجهة انه، وهو الدارس ثم المدرس والاستاذ في بعض الجامعات الاميركية المهمة، قد وعى تلك الصلة العضوية بين الصهيونية كعقيدة غربية المنبت فكريا وبين النزعة الاستعمارية الغربية التي ما زالت تحمل بذور الصليبية في منطلقاتها كما في تعبيراتها السياسية المباشرة.
لم يكن هشام شرابي داعية، ولم يكن مبشراً. كان مقاتلاً بالعلم، بالمنطق، بالفكر، ولم يكن ذلك كله ليعوض الهزيمة على الارض… ذلك ان بذور الهزيمة كامنة في التخلف الذي أخذ النظام العربي الى الدكتاتورية، واخذ الشعوب العربية الى الانسحاق تحت وطأة الخوف من حاكمهم الذي دجنهم باسم المعركة وضروراتها، فلما انتبهوا الى ان معركته الحقيقية انما كانت معهم كان الوقت قد فات وكانت دولة الصهاينة قد ثبتت في الارض تنتظر اجيالاً جديدة اكثر اهلية واعظم منعة وأقدر على مواجهتها والانتصار عليها.
في الذكرى السنوية الاولى لرحيله نستذكر هشام شرابي الانسان المرهف، خافت النبرة قوي الفكرة، الثابت على رأيه، الباحث دائما عما يعزز هذا الرأي بالمنطق العلمي…
لقد رحل هشام شرابي قبل ان يكمل كلامه. تعاون عليه السرطان مع الهزيمة العربية التي جاءت اشمل واعنف مما توقع، والنصر الصهيوني الذي اعطى اسرائيل فوق ما تستحقه، برغم جبروتها.
لقد تجرع في سنواته الأخيرة مسلسلاً من الخيبات: في الانظمة والمنظمات وفي »خصوم« هذه الانظمة والمنظمات الذين سرعان ما تبين انهم يشبهون »خصومهم« المفترضين الى حد التطابق معهم في نهاية المطاف.
وكان الدرس الأخير الذي تعلمناه منه: لا بد من بداية جديدة. ولسوف يكون هشام شرابي بين عناوين هذه البداية التي لا بد ستجيء… ولو بعد حين.
ة
راجح خوري ينظم يأسه: أواه يا ليل الجنوب!

مفاجأة سارة في قلب زمن الاحزان والخيبات والفواجع: ديوان شعر للزميل الكاتب والمعلق الصحافي البارز راجح خوري.
أين كنت تخفي هذه الموهبة المتشحة بتشنجات ما قبل الاختناق، ايها الجنوبي الذي جئت الى الصحافة باعتبارها بداية الأمل بنصر قريب، فسحبتنا يومياتها التي تستهلكنا بوقائعها المحبطة الى بوابة اليأس، وان بقينا على اصرارنا وايماننا بأننا نستحق غدا أفضل، وبأنه عار علينا ان نترك لابنائنا كل هذا العالم من الدمار الشامل في العقائد واليقين والاحلام التي حاولنا ان نجعلها آمالاً فتحولت على ايادينا الى كوابيس؟!
أين كان يختبئ هذا الفلاح الحقيقي الذي يحمل الارض في قلبه، والذي ينضح قلمه برائحتها واسمائها الحسنى: الشمل العصى، الوعر القصي، القنافذ، الزركيك، الوروار، نجم المجوس ودرب التبانة، النورس، »اواه يا ليل الجنوب«…
كيف استطعت ان تحفظ قلمك أخضر، برغم مناخ اليأس والحرب الاهلية، وبرغم الدم المسفوح الذي يغطي يوميا صفحات الصحف التي نستقطع حيزاً فيها لاختراع الأمل؟
وما دام قلمك أخضر فلماذا كل هذا الحزن يخيم على »ديوانك« بدءا بالاهداء: »الى الذين ارتحلوا اشرعة /في سراب/ الى الذين وصلوا مطرا في يباب«.
لقد ارهقتني جملك العصبية المغرقة في سوداويتها: التعاسة المطلقة، الالم المتوحش، الجليد المفعم بالسواد المطلق، تذكير الطيور الراقصة بانها ذبيحة الم قدري، وفي النهاية المرتحلون الى العدم هم السعداء! وفي النهاية الكلية الموت وحده الحقيقة اما الحياة فمجرد خطى في الطريق الى رأفته؟!
ما ان تأخذنا فيطرون العروس العاشقة الى شيء من البهجة، عبر وصفك الانيق لضبابها حتى تجرنا حضرتك الى حضرة السياق الذي »يتبعك مثل الظل، ولعنقك يوم يقطع صراخ، ولرأسك يوم يتدحرج جلبة عظيمة. يطل الموت. تحمله معك كجلدك«.
على ان الحزن سرعان ما يصير نبيلاً:
»في ذلك البلد البعيد، في مثل هذا الليل، مات ابي الرجل الحديد.
ذهب مع الزيتون. طق كما وريد الغصن في ليل كانون.
.. ويصرخ الدمع بوالدي: الا يحيد النصل يوما عن الوريد.. لماذا لا يحيد؟!«.
ومع الاب، تطل ذكرى الجدة خيتوم، والجد جبور، ويحاول راجح استعادتهما ليتدفأ بذكرياته الطفولية في »جحور الطين في متاهات الجنوب. اواه يا ليل الجنوب«.
انه مناخ الحرب الاهلية. انه مناخ الانقسام والتقسيم. انها الطائفية التي تنثر سمومها فتفسد علينا الجو والارض يا راجح.
لكن علينا، كما قال عظيم من بلادي ان نخترع الأمل… فلا تتأخر عن هذه المهمة ايها الذي اخذه الحزن في النثر الى الموت في الشعر. لنعمل لتكون لابنائنا الحياة يا أبا العريس.

من أقوال نسمة
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة الا الحب:
بات لرنين هاتفي صوت حبيبي. لو كلمني في الساعة الف شخص، سيظل الرنين يطربني كأنه اسم حبيبي واغنيته المفضلة.
ويزعجني الهاتف الخلوي، لانه يفضح رقم حبيبي قبل ان انتشي برنينه الذي اسمعه يردد اسمه فاطرب ولا أريد له ان تتوقف هذه الترنيمة التي اسمعها كصلاة.

Exit mobile version