طلال سلمان

هوامش

توفيق الباشا: لو لحّن لنجمات الإغراء لما مات!

في اسبوع واحد فقدت الثقافة العربية كوكبين ساطعين في سماء الابداع: اولهما الكاتب المسرحي المتميز ألفريد فرج، وثانيهما الموسيقار المخلص لرسالته توفيق الباشا.
والكتابة عنهما معاً تتجاوز اطار الصداقة الشخصية التي جمعتني بكل منهما، على تقطع في مواعيد التلاقي، لتؤكد على ما يجمع بينهما، إذ اسهما، كل في مجاله، في اثراء وجدان القارئ كما المستمع العربي بالجديد والممتع من تراثه الثقافي الغني، سواء تمثل بفن القص والحكاية ام باللحن الشجي والنغم المطرب عبر الالتزام بقواعد العلم الموسيقي التي أرسى دعائمها عرب الاندلس فباتت مدرسة في التلحين والغناء تزداد اشراقا وامتاعاً على مر السنين.
***
أما توفيق الباشا فقد عرفته انسانا ودودا، دمث الطباع الا اذا استفزه التزوير، منتجاً غزيراً، مؤمنا برسالته في تجديد الموسيقى العربية وفي إثبات اهليتها لأن تتجاوز فنون الغناء المعروفة لتُداني المستوى السيمفوني بحيث لا تستمد »شرعيتها« من الشعر، بل هي تضيف الى الشعر ما يستبقيه في الذاكرة ويخلده (الموشحات الاندلسية، مثلا)… وفي حالات كثيرة صار اللحن الموسيقي العبقري هو الأساس، فتناقلت الاجيال أغاني ركيكة الكلمات، مكسرة اوزانها، لكن اللحن غطى عيوبها وجمّلها وادخلها الوجدان فحفظها ذخيرة لكل من غنى فأطرب، ولكل من اجتهد فطور واضاف مرتكزا على اساس علمي مكين.
وعندما أنشأ زميلنا الكبير الراحل سعيد فريحة »فرقة الانوار للرقص الشعبي« استعان بتوفيق الباشا الذي كان قد شارك الرحابنة (عاصي ومنصور ومعهما فيروز) في تقديم الاطار الموسيقي لبعض ما قُدم على مدرجات القلعة في مهرجانات بعلبك الدولية… ولقد اجتهد لإغناء الاطار الموسيقي للعمل الفني، غير ان هوس المنافسة في الدبكة والالحان السيارة اخلى الصدارة للالحان الشعبية.
وباختصار، فإن التأليف الموسيقي كان الأساس في عمل توفيق الباشا، وهكذا انصرف عن تلحين القصائد والاغاني، الى اعادة تثبيت القواعد العلمية للموسيقى العربية، انطلاقا من الموروث، وبالذات التراث الاندلسي، موشَّحا وألحانا شجية، حتى أنتج مئات من الألحان السيمفونية… الشرقية.
لقد اعطى الموسيقى، كعلم، ازهى سنوات عمره. درسها بعمق، ودرّسها بشغف، حتى بات مدرسة بذاته، تخرّج على يديه العديد من الملحنين والموسيقيين والعازفين، وقلة من المطربين الذين كانوا بعامة يفضلون السهل والرائج من الالحان ويهربون من »السهل الممتنع« الذي يشكل تحديا لقدراتهم الصوتية ولمدى التزامهم اصول الغناء.
ولقد نشأ جيل، بل جيلان، من المغنين والمغنيات، في الاجواء التي ابتدعها توفيق الباشا، ودائما بالاستناد الى التراث مع الاجتهاد في تطويره وتدعيم قواعده العلمية.
لكن مثل هذا الابداع يظل بعيدا عن الذاكرة الشعبية، بعكس الاغاني الشعبية والالحان البسيطة التي تدرج لسهولة لحنها وبساطة كلماتها.
استاذا كان توفيق الباشا، واصيلا أنتج وأعطى فأبدع، لكنه ظل بعيدا عن الغرور، وظل يعتبر نفسه تلميذا مجتهدا لأولئك المبدعين الذين أعطوا ألحانا خلدتهم لأنها نابعة من وجدانهم، كما من علمهم الغزير.
***
تُرى لو غنت »هيفا« او »نانسي« او »أليسا« من الحان توفيق الباشا، هل كان انطوى على حلمه البهي بالصمت الوقور الذي يجلل أهل الاجتهاد في التجديد؟!

ألفريد فرج الداعية إلى التغيير من قلب الثورة
أما ألفريد فرج الذي غرف بدوره من تراث القص والحكاية عند العرب، وانتج بعض ابدع ما قدمه المسرح العربي من اعمال، فقد كان مناضلا بالكلمة من اجل الغد الافضل.
لقد جاء الفريد فرج من الماركسية الى العروبة في السنوات البهية للعصر الناصري، فكان نتاجه المسرحي بعض العلامات الفارقة في مسيرة المسرح في مصر، إذ أعطى الدعوة الى العدالة والى التقدم الاجتماعي والى رفض التبعية، أبعادها السياسية والثقافية الكاملة.
وهو قد ذاق مرارة السجن، كالعديد من رفاقه الماركسيين، لكنه عاد فانتبه الى اختلاف الاحوال في مجتمعه عنها في المجتمعات التي اخذت بالشيوعية ضمن المنظومة الاشتراكية بقيادة الاتحاد السوفياتي، فقرر ان يكتب لقراء بلاده، واهتدى الى كنز الموروث من القص الشعبي (وبالذات »ألف ليلة وليلة«) والى سِيَر الابطال الشعبيين (الزير سالم مثلا) فعمل على اعادة انتاج بعض الحكايات والسِّيَر عبر مسرحيات ممتازة في حبكاتها، مع الحرص على تبسيط اللغة بحيث جاءت في فصيحها أقرب ما تكون الى العامية.
التقيت ألفريد فرج، اول مرة، صحافياً كاتباً في الثقافة في مجلة »روز اليوسف« التي كانت اخطر مجلة سياسية عربية.. لكنني بعد ذلك عرفته حق المعرفة عبر اعماله الابداعية التي قدمها المسرح القومي، اساسا، في القاهرة، وقام بتمثيلها كوكبة من كبار اهل المسرح في مصر: حلاق بغداد، الزير سالم، السندباد، رسائل قاضي اشبيلية، علي جناح التبريزي وتابعه قفة… إلخ.
واذكر اننا حين خرجنا من المسرح بعد انتهاء عرض »سليمان الحلبي« في ربيع 1966، وجدنا أنفسنا في قلب تظاهرة وطنية، بينما انتحى الفريد فرج ركنا قصياً يتابع بعيني قلبه اثر الكلمة المعبرة في نفس الجمهور فيُظهر شيئا من الرضا عن نفسه ويقرر ان يواصل رحلته ملتزما الخط الفني نفسه: أعطِ الجمهور فنا أصيلا يُعْطِك تقديره وحبه.
لم تكن اختيارات الفريد فرج عشوائية من كنوز التراث الثقافي العربي، بل كانت سياسية بالدرجة الاولى، لكن قدراته الفنية وتمكّنه من اعادة قراءة الوقائع بعين معاصرة، مع الاسقاطات السياسية المناسبة، جعلته اقرب الى الداعية منه الى الراوية… وفي كل ما اختاره كان يمكن للقارئ كما للمشاهد ان ينخرطا في سياق المعركة ضد الاستعمار الأجنبي والطغيان الداخلي والاحتكار واستغلال عرق الانسان.
وكان الفريد فرج ظريفاً، وان شابت ظرفه سخرية مُرة.
وكان يمكنك ان تقرأ في ملامح وجهه، كما في عينيه المظللتين بنظارتين سميكتين، هذا الميل الواضح الى التهوين من شأن الجليل من الاخبار اليومية، وتحويله الى نكات وقفشات يضحك لها جمهوره قبل ان يشاركه سخريته التي ظلت تحرص على التمييز بين الجوهري من المسائل الوطنية، ومسلك السلطة الذي كثيرا ما اساء اليها عبر صرامته في الدعوة إليها.
وليس محض خيال ان نفترض ان الفريد فرج قد حاور ملاك الموت، مطلقا ضحكته المجلجلة تلك، قبل ان يمد اليه يديه، كما تعود ان يفعل حين كان يأتيه »زوار الفجر« ليصحبوه الى المعتقل بتهمة تطرفه في الاخلاص للثورة التي آمن بها طريقا الى التغيير نحو ما يليق بكرامة الانسان.
وعلى العكس من »نظيره« السوري المبدع الراحل سعد الله ونوس، الذي دخل مع الموت في تحد مفتوح، فأوقفه على بابه حتى انجز آخر روائع انتاجه المسرحي، فإن الفريد فرح كان يتعامل مع الموت كأنه جملة معترضة لا تقطع السياق ولا يختل بها المعنى.
ذلك ان ألفريد فرج يؤمن، كغالبية المصريين، بأن الحياة كالنيل نهر يجري ابدا، لا يوقف تدفقه مانع، ولا تحجزه عن مصبه أية قوة، وان الموت ليس إلا جملة معترضة لا تخل بالمعنى ولا تبتر السياق المنطقي للحكاية الانسانية المتواصلة بغير انقطاع من جيل الى جيل يليه فيأخذ عنه ويكمل المسيرة.

نبيل الشويري يحاور تجربته مع »حطام المراكب المبعثرة«
هي خيبة الأمل التي تداني حدود الفجيعة ما يفسر هذه القسوة الى حد التجريح الشخصي، التي تنضح بها ذكريات نبيل الشويري التي صاغها زميلنا صقر ابو فخر في حوار طويل اعطاه عنوان »سورية وحطام المراكب المبعثرة«.
الحوار الذي تختلط فيه السيرة الذاتية بالتجربة السياسية للفتى، ابن حي الميدان في دمشق، التي كانت حديقة تشقها الفروع السبعة لنهر بردى، يتجاوز ما هو راهن ليعرض لمواقف نبيل الشويري الفكرية وتحولاته خلال مسيرة حياته التي توزعت أيامها بين ثلاث مدن هي دمشق وبيروت وباريس، والتي انطلقت تحت لواء ابن العائلة الصديقة وابن حي الميدان ميشال عفلق.
الذاكرة حية، وصاحبها قد اغلقها، سياسيا، على تجربته مع حزب البعث، بشخص مؤسسه ميشال عفلق وحَوارييه ومن ابرزهم صلاح الدين البيطار.. اما زعيم نبيل الشويري امس واليوم وغدا فهو اكرم الحوراني: انه النموذج الفذ للقائد الداهية »وصاحب الكلمة« الذي لا يخاف المواجهة حتى مع زعيم الامة ورجلها جمال عبد الناصر.
وعبر تجربته التي كانت واعدة ثم انطفأت آماله بها في وقت مبكر نسبيا، يروي نبيل الشويري كيف خاب ظنه في عفلق فانقلب من صبي معجب بمشروع زعيم الى ناقد مُر لمفكر لا يسمع إلا صوته، ويسمح لانصاره بتأليهه، على حساب المبادئ والأفكار السامية التي كان يقدر لها ان تشق طريق الغد امام الامة التائهة عن غدها لانشغالها بماضيها.
أكرم الحوراني هو »الرجل« في البداية والنهاية. هو »السياسي« وهو »الزعيم«. هو المبادر والمناور، هو الشجاع، الصريح، الواضح، المبتكر، المجدد، الذي يرفض عبادة الشخصية.
وفي خانة الكبار الذين يحفظ لهم نبيل الشويري التقدير ترد اسماء ياسين الحافظ والدكتور جمال الأتاسي وعبد الكريم زهور، الذين يمكن تصنيفهم ايضا بين من خاب ظنهم في حزب البعث كطريق الى مستقبل عربي يليق بكرامة الانسان في هذا العصر، فخرجوا منه بحثا عن افق مفتوح لا يسده شبق العسكر الى الحكم باسم الحزب، ولا الجمود الفكري للقيادة التي حولت نفسها الى صنم مقدس، برغم عجزها الفكري عن تطوير الفكر الحزبي بعدما اصطدم بتجربة السلطة.
الفترة الذهبية في تاريخ سوريا الحديث، حسب ما يراه نبيل الشويري، هي ديموقراطية اواخر الاربعينيات واوائل الخمسينيات وصولا الى اقامة دولة الوحدة بقوة اصرار السوريين على جمال عبد الناصر لقبولها، تحت ضغط خوفهم من ضياع سوريا او ربما ضياع السلطة وسقوط تجربتهم فيها.
فنبيل الشويري قد خلص من تجربته المرة الى اعلان ايمانه المطلق بان الديموقراطية هي الحل، وهو لا يُخفي اعجابه بالتجربة اللبنانية، برغم عيوبها، وان كان قد اعتكف واستقال من السياسة وصار يراقب المجريات من شرفة المتأمل.
مذكرات نبيل الشويري كان يمكن ان تثير جدلاً واسعاً لو ان الحزب كان بعدُ حياً وفاعلاً، وواعداً بتغيير ثوري كما تخيله حينما انضم اليه وهو فتى يغمره احساس بالقدرة على تغيير الكون.
اليوم، نبيل الشويري الذي يعيش وحيدا مع تجربته، لا يفعل غير ان يتأمل ويتألم ويحاول التنبيه الى اضطراب خطى الامة في الطريق الى غدها الذي يكاد يضيع منها.

من أقوال نسمة

قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة الا الحب:
حبيبك ليس تمثالاً من نور. انه بشري مثلك، عنده همومه، والحب ملجأه وجنته الموعودة… فافسح له مكاناً فيها، ولا تطارده فتطرده بإلحاحك عليه أن يثبت لك حبك كل لحظة.
الحب يعطي ولا يطلب. وكلما اعطيت حبيبك أكثر أخذت لنفسك أكثر.

Exit mobile version