طلال سلمان

هوامش

فصل من سيرة فلسطين: أحمد اليماني

من زمان، صارت كلمة »مناضل« ترتبط في ذهني بأحمد اليماني.
تهاوت الأساطير امام الحقيقة البسيطة: المناضل رجل طبيعي من لحم ودم، لكن ايمانه بحقه يطهره، وجهاده من اجل هذا الحق وثباته عليه مهما تعاظمت الصعاب هما اللذان يميزانه ويُدخلانه الذاكرة والقلب، ويصيّرانه »نموذجا« و»قدوة« حتى لو لم يكن »قائداً« ولم يطلب امتيازاً لنفسه، ولم يخرج الى الناس متباهيا بفضله وسَبْقه الى المقاومة وجهاده من اجل شعبه ووطنه وامته.
في كل لقاء كنت ازداد اعجاباً به. لم اسمعه مرة يفخر بما فعل، من قبل، او يستعرض تاريخه بزهو. ولكنه حاضر للمهمات كافة، لا سيما ابسطها. ان حياته فعل نضال متواصل: من المقاومة بالسلاح من اجل حقه في وطنه، الى التظاهرة الجماهيرية، الى الندوة الثقافية، من التعليم في مخيم اللجوء، الى المشاركة في تعزيز الايمان بحق العودة، ومكافحة اليأس بعدما أبعد مرور الزمن فلسطين عن العين والبال، واسكنها الذاكرة الجماعية وخطب السياسيين ومهرجانات المزايدات، بينما واصلت تلك الفئة المؤمنة عملها الجهادي من اجل العودة، وتثبيت فلسطين في القلب وفي الوجدان وفي البرنامج اليومي للحركة.
وعلى امتداد اربعين عاما من الصداقة كان »ابو ماهر« يتبدى لعيني تلخيصا لفلسطين في صورتها الاكثر اشراقا: ان مثل هذا الايمان يزلزل الجبال.
كان »ابو ماهر« يؤدي واجبه ثم يرجع ماشيا الى بيته. يمشي، ويمشي ويمشي الى كل المهمات.
من الجهاد في الداخل، عبر تنظيمات محلية، الى الجهاد في ديار اللجوء، في حركة القوميين العرب ثم في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. لم يشغل باله كثيرا بالنقاشات الفكرية حول القومية والماركسية ما دامت فلسطين هي هدف النضال، والتنظيم مجرد اداة. لم يغرق في فلسفة التحولات. ظل يمشي في اتجاه فلسطين.
يكاد يعرف ابناء المخيمات واحداً واحداً، وهم يعرفونه جميعاً، ويجدونه بينهم دائما في الشمال وفي الجنوب، في بيروت وبرج البراجنة، في دمشق، ومن قبل في عمان، وحيثما وجد الشعب الذي شردته »المؤامرة الصهيونية الامبريالية« عن ارضه.
له ذاكرة ممتلئة حتى آخرها بقافلة الشهداء، سواء منهم من اغتالهم الاحتلال البريطاني لفلسطين، مع وقفة خاصة امام الثلاثي المخلد في الذاكرة الفلسطينية: فؤاد حجازي، محمد جمجوم وعطا الزير، او اولئك الذين سقطوا برصاص العصابات الصهيونية (قبل سقوط فلسطين) ثم بمدافع الدبابات والطائرات الاسرائيلية على امتداد دهر الاحتلال.
كل الشهداء يحتشدون جنبا الى جنب: الأخ الشقيق، والرفيق والصديق، من اخذ عنهم العلم ومن درّسهم في مدارس وكالة الغوث في لبنان، وهو يرى نفسه مسؤولاً عن حماية ذكراهم كطليعة متقدمة وقدوة لاجيال آتية… وهو يغبطهم ويكاد يلوم نفسه لان المصادفات انقذته بل حرمته من شرف الاستشهاد.
أخيراً، قبل هذا الابن البار لشعب فلسطين ان يكتب »تجربته مع الأيام«، وارتضى ان تتولى الجبهة الشعبية اصدار سيرة حياته في كتاب من خمسة اجزاء… وكان بديهياً ان يتولى رفيق العمر الدكتور جورج حبش كتابة المقدمة التي يلتبس المعنى في سطورها، إذ يكاد الكلام عن »ابي ميساء« يبدو كأنه عن »ابي ماهر«.
هنا، أكتفي باقتطاف واقعة واحدة تجسد اللحظة الفاصلة للخروج من فلسطين الى لبنان، كمحطة انتظار من اجل معاودة المشي في رحلة العودة.
يقول احمد حسين احمد محمد علي سليمان الذي ولد في قرية سحماتا، قضاء عكا، بلواء الجليل في 24 ايلول 1924، وجاءه لقب »اليماني« من جده »احمد« الذي خدم في الجيش التركي وامضى مدة طويلة في اليمن، في تفصيل »الطرد الى لبنان«:
»اعتادت مراكز المخابرات العسكرية الصهيونية، بعد الانتهاء من عمليات التحقيق والتعذيب، نقل المعتقلين الى معسكر عتليت ليعملوا هناك في المحاجر والكسارات (اشغال شاقة)…
وبعد مرور بضعة اسابيع ونحن في مركز »نهلال« استدعيت مع تسعة معتقلين بينهم السيد محمود ابراهيم معروف، وطلبوا منا الصعود الى سيارة عسكرية، وانطلقت بنا الى جهة مجهولة (كنا نظن اننا في طريقنا الى عتليت)… ولكن السيارة العسكرية اتجهت شمالاً تتقدمها سيارة جيب عسكرية وخلفها سيارة مليئة بالجنود، وعندما وصلت القافلة الى مدينة عكا، توقفت امام مركز البوليس، ودخل الضابط الى المركز لدقائق، ثم عاد…
تابعت القافلة انطلاقتها حتى وصلت الى مركز بوليس ترشيحا، ومرة اخرى نزل الضابط، ودخل المركز ثم عاد… وهكذا فعل عندما وصل مركز بوليس قرية سعسع.. وفي طريقنا من ترشيحا مررنا بقريتنا سحماتا، فألقيت نظرة جانبية كانت بمثابة نظرة الوداع لمهد الطفولة.
وعندما وصلت القافلة الى قرية المنصورة، على الحدود اللبنانية الفلسطينية… طلب منّا الضابط النزول من السيارة.. والاستماع إليه.. وخاطبنا قائلا وبلغة عربية واضحة..
»انظروا حولكم، فهذه قوات جيش الدفاع منتشرة في هذه المنطقة، أنتم الآن على حدود لبنان، وقد قمنا بتسليم جميع المراكز التي مررنا عليها (عكا، ترشيحا، سعسع..) كشوفات بأسمائكم، وما عرفناه عنكم، سنطلق الآن سراحكم، لتلتحقوا بأهاليكم، وإياكم ان تفكروا بالعودة.. سيروا بهذا الاتجاه (اشار نحو الشمال). إياكم ان تلتفوا الى الخلف، او الى اليمين او اليسار.. ومن يخالف التعليمات سيطلق عليه الجنود المنتشرون حولكم النار.. وستصلون الى قرية رميش، ومن هناك تتدبرون أمركم.. هيا«.
وما ان انهى كلامه، حتى بدأ الجنود يدفعوننا نحو الشمال، وقبل ان نصل قرية رميش القريبة جداً، حتى بدأ جنود العدو، يطلقون النار في الهواء إرهاباً.. وليدخلوا الى روعنا انهم جادون بتهديداتهم«.
»ابو ماهر اليماني« مناضل من بلادي شرفني بصداقته، وقدم لجيل بل لجيلين وربما لثلاثة اجيال تجربة عظيمة للايمان بالأرض والحق والإنسان.
… وهو ما زال يمشي في اتجاه فلسطين التي غابت عن عينيه، لكنها حاضرة ابداً في وجدانه وفي قلبه وفي جهده المتصل لسبعين عاماً او يزيد.

مجرد شجرة كرز… لذكرى الغياب

في الاصل كانت شجرة، مجرد شجرة كرز عادية، كلما نظر إليها سمقت ارتفاعا، وكلما استظلها عند العصر مدت غصونها اطول فأطول واستنبتت فيها المزيد من الأوراق الخضراء، تاركة للهواء معابره المنعشة.
صديقها هو. ليس فقط لانه قد غرسها ورعى نشأتها الاولى، بل لانه ميزها عن كل اشجار الحديقة، واصطفاها انيسة العصارى، دائماً، والصبحيات احياناً، يعبر إليها الظلال الكثيفة لاشجار الجوز والظلال الشامخة طولاً للسروات الثلاث التي تبدو كأنها تقصد التباهي بقاماتها على كل ما حولها من شجر.
رفيقها هو، تنتبه في لحظات الى انه يخاطبها، واحيانا يسألها عن امر يحيره، وفي حالات معينة يشكو إليها وحدته، او تأخر الخلان في القدوم إليه، بل ربما التفت إليها اذا ما احتدم الجدل مع بعضهم يُشهدها على وعد او على هزيمة ألحقها بخصمها في مباراة حامية بالنرد.
وهي تستعد لاستقباله كل صباح، تمتشق طولها، وتسرح خضرتها بالشمس، وتبعث إليه بالرسائل عبر هسيس أوراقها التي تتجمع لتنصب نفسها مظلة لمجلسه.
ثم انها تعرف انه سيدور من حول جذعها يطمئن الى ان علاجه لخطر التسوس قد نجح، قبل ان يرفع بصره الى أوراقها فتشعر بأنه يتفقدها واحدة واحدة، حتى اذا جاء الموسم تهلل وجهه فرحاً بالخير العميم: سيأكل الاحفاد كرزاً ولا اطيب.
تذكر انه حين ضرب التسوس بعض فروعها، وعجز عن علاجها، دفعت بفرع منها الى اقصى الشرق، وحَبَته عناية خاصة حتى امتد بعيداً جداً خارقاً قانون الجاذبية، ولو انها تملك ان تسميه لأعطته اسم راعيها.
استطال الفرع واستطال حتى بلغ »البحرة« ممتداً حوالى خمسة امتار بعيداً عن اصل أمه، فتحول الى ظاهرة تستوقف كل من استظل فيئه او تذوق طعم ثماره الشهية.
ذات يوم، تأخر راعيها عن القدوم الى ظلها، فدهمها خوف سرعان ما تحول الى احساس عميق بالفجيعة. هي لا يمكن ان تنسى ذلك اليوم: لقد استبق غياب صديقها الربيع، وكانت وريقاتها بعد براعم. صفت الكراسي وتقاطر الناس أفواجاً، يجيئون فيجلسون قليلاً ويتحدثون همساً قبل ان يُخلوا الامكنة لغيرهم، بينما يحتل الهواء صوت منغم رخيم.
في اليوم التالي انتظرته فلم يأت. ارتفعت الشمس الى كبد السماء ولم يظهر. صار الظهر، فالعصر، فالفسحة الاثيرة الى نفسه التي تعقب القيلولة وتمتد الى المغرب، ولم يظهر.
ثم توالت الأيام فعوّدتها ان تقبل غيره ولو في موقع الضيوف.. وان لاحظت ان بعض اهله يحفظون عنه رعايتهم لشجرته التي غرسها وسقاها وحماها وشذبها وكان يتابع نموها حتى صارت ركنه الاثير.
وحدها السيدة الأم حفظت تقليده وحافظت على عهده: تجيء إليها عصراً وتجالسها وتحادثها وتشكو إليها وحدتها، ثم تمضغ الوقت انتظاراً معها على امل ان يجيء الغائبون.
صارت السيدة الأم مع الشجرة ثلاثة: كان طيفه ينضم إليهما دائماً.
أمس، وقعت الواقعة: رأت الشجرة السيدة الأم تهوي فيصطدم رأسها بالجدار، وتغيب عن الوعي، فلفّت من حولها اغصانها وغارت في الأرض مستبقية ذلك الجزء من جذعها الذي كان يستند إليه صديقها الذي سبقها الى الغياب مستبقيا ظله الوديع.

تهويمات

قالت: الحب يعلم الصبر وأنت ملحاح. اهدأ قليلاً لنستمتع بحبنا.
قال: الحب نهر متدفق ان هدأ استنقع..
وهمست: هل تعلمني السباحة؟!
***
كتبت إليه تقول: في غيابك بت افتقد اللغة. كلما اعدت قراءة كلماتي احسها أقل مما ارغب في ان تسمعه، واضعف من ان تحمل ما اريدك ان تعرفه.
بعد أيام وصلتها منه رسالة بيضاء تماماً إلا من اسمها.
***
لا يعرف كيف وصلت إليه في قلب الحشد، وكيف اختفى الحشد بعد وصولها.
مع ذلك فقد اضاعهما الزحام عن الطريق.

من أقوال نسمة

قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
يعطيني حبيبي المعنى وابادله، فإذا نحن رجل وامرأة في حالة حب دائم… فإذا حدث خلل ما سبق احدنا الآخر الى حيث نذيب الجفوة ونذوب معها فنتوحد.

Exit mobile version